المؤسسة السودانية.. من الطقوسية الى الانهيار (3/5) .. احتضار مؤسسة الانقلاب العسكري

 


 

 

mbakri9@gmail.com

في هذا الجزء الثالث من المقال أود أن اتناول الانقلاب العسكري كمكون رئيسي من مكونات المؤسسة السودانية، فالانقلاب جزء من ترتيبات المؤسسة السودانية وتتوفر فيه كل سمات السلوك المؤسسي: مستقر، متكرر، ومتوقع Stable-repetitive predictable وقيمة راسخة في الحياة السياسية. أود أن أوضح أن استمرار حكم مؤسسة الانقلاب لسنوات طويلة أدى الى تحول الدولة السودانية الى دولة كاسرة Predatory State وفي خضم هذا التحول انحدرت المؤسسة السودانية الى مؤسسة طقوسية مما أدى لتآكل النظام القيمي الذي يمسك نسيج المؤسسة ككل مما سيؤدي لانهيارها التام.
ولكن قبل أن نبدأ اود تقديم تعريف موجز للطقوسية: هي منصب او وضع او وظيفة او حدث او ترتيب يُتظاهر بأنه ممثلا لمؤسسة او مكون لمؤسسة لكنه في واقع الأمر يملك، او لا يملك على الاطلاق، إلا قدر قليل من السلطة والنفوذ، بل من التحقق. على سبيل المثال أن تقر في دستورك بحرية العقيدة، ولكن تجعل من خلال اللوائح والقوانين وبيروقراطية نظامك من الصعب التصديق ببناء مسجد جديد او كنيسة جديدة، بل في بعض الأحيان تسعى لتجفيف المساجد او الكنائس الموجود. النص على حرية العقيدة هنا طقوسي. تراكم الطقوسية من وجهة نظر مؤسسية سيؤدي الى انهيار المؤسسة، لان وظيفة المؤسسة هي حل التناقضات المجتمعية إذ انه طالما لديك اقسام مسلمة ومسيحية من السكان ستظل مساجدهم وكنائسهم ضرورية وفي النهاية تحول الممارسة الطقوسية المؤسسة الى قوقعة فارغة وسيؤدي ذلك الى مزيد من الطقوسية الى أن تضعف أنظمة المجتمع الكبرى وانظمته الثانوية Systems and Subsystem وامام تراكم المعضلات وتأجيل التغيير المؤسسي تحدث تغيرات في توازن القوى في المجتمع ككل تؤدي في النهاية الى انهيار المؤسسة.


الأخبار الجيدة، في اعتقادي، أن مستقبل الانقلاب كجزء مركزي من الترتيبات المؤسسية قد انتهى في النظام السوداني وربما يكون ذلك فاتحة لترتيبات مؤسسية جديدة. هناك أسباب قوية تدفعني لقول ذلك وسأطرحها للنقاش في الجزء الرابع من هذه السلسلة. لكن قبل ذلك دعنا نتفق على عدة حقائق:
1- معظم عمر المؤسسة السودانية حكم تحت الشق الانقلابي للمؤسسة السودانية.
2- فض اعتصام القيادة العامة كان في الأصل محاولة انقلاب فاشلة.
3- انقلاب أكتوبر 2021 كان ايضا انقلابا فاشلا عجز حتى عن تعيين حكومته واكتفى بتلفيقات من النظام الذي أنقلب عليه.
4- ما يحدث منذ 15 أبريل 2023 ولا يزال يجرى أمامنا هو محاولة انقلاب أخرى بغض النظر عمن أطلق الرصاصة الأولى. بغض النظر عن شراسته، فهو انقلاب وقع بين وحدات عسكرية معترف بها من قبل المنظمة العسكرية. ما يحدث الآن ليس حرب أهلية -رغم انه قد يتحول الى حروب أهلية،
ما يحدث الآن هو بلوغ مؤسسة الانقلاب قمتها ومن ثم انحدارها نحو الفناء كترتيب مؤسسي لم يعد قادرا على تلبية حاجات الانظمة التي تقوم عليها المؤسسة السودانية.

جوهر مؤسسة الانقلاب هو القوة القهرية وفي اعتقادي إن الانقلاب كمؤسسة هو سليل هزيمة المجتمع السوداني العسكرية في معركة كرري. اعتقد أن معركة كرري هي المنعطف الحرج Critical Juncture الذي خرجت منه مؤسسة الانقلاب وهي التي ابتدرت تبعية المسار Path dependency الذي سارت عليه المؤسسة السودانية. من يملك القوة الكافية يمكنه شكم المعارضة المحتملة عسكرية أو مدنية. تماما مثلما فعل الاستعمار بعد كرري في ام دبيكرات والشكابة وغيرها علاوة على قتل او اعتقال المدنيين لمجرد مواصلة Group reading لراتب الامام.
ولكن للانقلاب او الغزو الاجنبي وسائل اخرى لفرض السلطة غير السلاح ربما الاقرب إليها تعريف ميشيل فوكو للسلطة ومنابعها من حيث انها تنبع من اعلى ومن أسفل، ومن أسفل الى أعلى ومن كل اتجاه. هذا نظر أقرب للحديث عن الترتيبات المؤسسية. فبعد ينتهي الفعل العسكري الحاسم تلجأ مؤسسة الانقلاب للنفوذ المؤسسي في المجتمع وهذا يمكن أن يكون سلطات روحية في المجتمع او كبار وابكار موظفي الدولة او فصيل من التكنوقراط، ذلك إن جبروت المؤسسة ينبع من منابع مختلفة ولا بد من تأمين تأييدها إن كان هنالك سبيلا لاستقرار سلطة ما في مجتمع ما.
في حالة انقلاب 17 نوفمبر، كانت هنالك الحادثة الشهيرة المعروفة ببيان السيدين في تأييد اول انقلاب عسكري ناجح في السودان. أن تأييد السيدين، السيد عبد الرحمن المهدي والسيد على الميرغني، والعديد من ابكار الخريجين، بل قادتهم، لانقلاب عبود في 17 نوفمبر 1958 مبررا مؤسساتيا في نظري، رغم ما يمكن أن يكنه يافع لهذا الموقف من مرارة وخيبة أمل. لا يوجد في موقفهما اي عداء أصيل للديمقراطية او ترحيب بالدكتاتورية، إنما محض تفكير مؤسسي من رجال ذوي حكمة موروثة من تجربتهم، لا يمكن الحكم عليهم اخلاقيا بمعايير اليوم (ربما جدير بالتأمل فوضى التجربة التعددية الأولى وفشل انقلاب كبيدة عام 1957 وانه قبل شهر واحد قتل جميع افراد العائلة الهاشمية المالكة في العراق نتيجة لانقلاب عسكري في 16 يوليو 1958). اهم ما يمكن توفيره للمجتمع حسب نظر السيدين آنذاك هو السلام والاستقرار. السيد عبد الرحمن المهدي كاد أن يقتل رميا بالرصاص وهو طفل على ساعد مرضعة وعانت ما عانت طائفته، بل اسرته الصغيرة على ايدي الاستعمار في عقوده الأولى من قتل وتقتيل ومنفى. والسيد على الميرغني بدوره قد شهد حروبا، وقد اقتلع اقتلاعا من جذوره منذ ان كان صبيا صغيرا وعانت طائفته المنفى والتغريب أيضا. هذا ينطبق على المكون السكاني في مجمله بما فيه ابكار الخريجين. كان نظرهم يتلخص في ضرورة سلطة مركزية عسكرية قوية كما الاستعمار الانجليزي ويواصل المجتمع Business as usual لتمتد السكة الحديد أكثر وتتسع زراعة القطن ويرصف شارع المعونة ويمارس الناس حياتهم بعادية وسلام بعد عقود من الاقتتال. اقول هذا لان الذاكرة المؤسسية وتكوين القيم المؤسسية لا يقاس بعمر الإنسان. فلا يمكن باي حال ارجاع التقاليد المؤسسية للمؤسسة البريطانية الى فترة ولاية ونستون تشرشل او السيدة تاتشر، بل ربما ترجع الى زمن جمهورية اوليفر كرومويل في النصف الثاني من القرن السابع عشر.
على كل حال، هذا التعاون المؤسسي بعد انقلاب 1958 لم يستمر وانفصمت عراه حين لاحظ العسكر مدى السلطة التي وقعت في ايدهم، ومن ناحية أخرى لاحظت مكونات عريضة من السكان الصورة الجنينية للدولة الكاسرة Predatory State تحت ظل سلطة الانقلاب العسكري. فقد ضيّق النظام العسكري على الحريات وخاض حرب الجنوب على نحو أكثر شراسة وطالت الإعدامات عسكريين وطالت احكام السجن الطويلة والنفي مدنيين. ولعل ذكر القيادة النابهة للسيد الصديق المهدي لمعارضة نفس الانقلاب الذي ايده السيدان دليل على أن المؤسسة قيم تتنازع وتصطرع ويتم التراجع عنها، بل العودة اليها والتراجع عنها مرة اخرى حتى تستقر في أفئدة الأغلبية العظمي من السكان وهذا يتطلب اجيال.
رغم تحول المكونات السودانية بما في ذلك المتعلمين والطائفة السودانية كمنبع غالب في التكوين المؤسسي السوداني في أحيان كثيرة للمعارضة الشرسة للشق الانقلاب في المؤسسة، إلا أنه قد تواصل هذا النزوع المؤسسي نحو الاستقرار خوفا على المجتمع من مغبة الانحدار من جديد للحرب. وقد تبدى ذلك في مقولة المرحوم السيد الصادق المهدي "من فش غبينتو خرب مدينتو).

ولكن هنالك عمليات Processes تجرى في المجتمع لا أحد يستطيع إيقافها. سيطرة مؤسسة الانقلاب لسنوات طويلة (6 سنوات، 16 سنة، 30 سنة + سنوات البرهان) ترتب عليها تحول الدولة كليا الى دولة كاسرة Predatory State تتوفر فيها كل سمات الدولة الكاسرة. فإن احتكار السلطة بيد مجموعة صغيرة وعدم توزعها او قسمتها في المجتمع العريض يخلق الحافز ويمهد الطريق للسلوك الكاسر للنخبة الحاكمة Predatory behavior. لننظر الى بعض سمات الدولة الكاسرة ونقارنها بما ورثناه الآن:
1- من سمات الدولة الكاسرة أن هنالك ميزات اقتصادية كبيرة مترتبة على (الكنكشة) في السلطة السياسية وعزل المنافسين والخصوم بل قتلهم إذا استدعي الأمر.
2- عادة ما تكون هذه الدولة الكاسرة في بلد مبارك بالموارد الطبيعية المهولة.
3- عادة ما تكون في بلد محرومة من عوامل غاية الاهمية للنمو الاقتصادي والمؤسسي مثل الكادر البشري المدرب Human capital (قد يكون بسبب الهجرة، التشريد، ازدياد نسبة الامية...الخ). خطورة هذا العامل ليس فقط في فقدانه في المستشفيات والمصانع كأطباء وممرضين وممرضات ومهندسين وإحصائيين، بل في طاقة القيم المؤسسية التي تفتقد حين غيابهم من عملية تراكم البناء المؤسسي.
4- عدم استقرار سياسي موروث ويشمل ذلك الحروب الأهلية والنزاعات المجتمعية وحركات الاحتجاج.
5- إزدياد حدة القمع والعقاب لقطاعات واسعة من السكان مما يصيب حجة الاستقرار المؤسسي في مقتل (بدأت مؤسسة الانقلاب بمستوى من العقاب بقصف مدينة بالطيران العسكري تشكل المركز روحي لقطاعات واسعة من السكان في أحداث الجزيرة أبا وانتهت الى اخذ شكل الإبادة في دارفور وقنابل البراميل في جبال النوبة).
لكن، في نفس الوقت شهد النظام الاجتماعي تطورات كبرى تهدد مؤسسة الانقلاب بالانهيار.
1- يولد سلوك الدولة الكاسرة مزيد من الاختلال في توزيع الثروة وإعاقة للترقي الاجتماعي Social mobility وانسداد للأفق امام قطاعات واسعة من السكان حيث يرتبط الترقي الاجتماعي بالانتماء الطقوسي للمجموعة الحاكمة. وذلك يولد حالة من السخط المستدام sustained قابل للانفجار في اي لحظة مع توفر عوامل اخرى.
2- ضعف الثقة والتعاون المؤسسي لازمة من لوازم الدولة الكاسرة، لذلك تلجأ لمصادر ومنابع النفوذ المؤسسي في المجتمع ولجشع الدولة الكاسرة لا تلجأ لتسويات عادلة وتوسيع لدائرة السلطة في المجتمع، بل تلجأ الى إجراءات ممعنة في الطقوسية (مثل تعين أبناء السادة رعاة الطوائف في مناصب دستورية غير ذات معنى، وتعين نواب شيوعيين في أحد برلمانات السلطة). وبذلك، ودون أن تشعر السلطة، تضعف مكامن قوة المؤسسة القديمة ككل ويبدأ تلفت المكونات الاجتماعية لترتيبات مؤسسية جديدة.
3- أن الخبرة اليومية للسكان دع عنك تقارير المراجع العام تشير للبون الشاسع بين القيم المرفوعة والواقع المعاش من حيث تعامل القائمين على السلطة مع الموارد القومية والمال العام. عندها تلجأ المؤسسة الى مزيد من الممارسات الطقوسية مثل المادة 13 من قانون الثراء الحرام (مادة التحلل) والتي صممت لحماية المسؤولين الحكوميين من الفاسدين. وفي هذا ليس فقط ضربة لقوانين العدالة، بل ضرب لقيم المؤسسية نفسها. طالما أن المؤسسة تبنى على قيم واخلاق وتقاليد مرعية فإن ممارسة الدولة الكاسرة الطقوسية تفعل فعل عوامل التعرية والتآكل في المنظومة القيمية نتيجة للشراسة في مراكمة الثروة والنفوذ فتتسع دائرة المكونات الاجتماعية الباحثة عن ترتيبات مؤسسية جديدة.
انفجار مؤسسة الانقلاب وانشطارها على النحو الذي نشهده اليوم يصيب عقيدة الاستقرار المؤسسي تحت الحكم العسكري في مقتل، حيث يكمل التاريخ المؤسسي للقمع دورته على نحو افظع مما شهده السودانيون في كرري لكن هذا ليس كل شيء لان هنالك عوامل أخرى تشير لتشييع السودانيين لهذا الشق من المؤسسة السودانية.

 

آراء