أبجديات أهداف التنمية المستدامة وموقع السودان منها
د. حسن حميدة
4 January, 2024
4 January, 2024
الهدف العاشر، الحد من أوجه عدم المساواة (10 من 17)
د. حسن حميدة – ألمانيا
يعمل الهدف العاشر من أهداف التنمية المستدامة على الحد من أوجه عدم المساواة في المجتمعات العالم. ويتجسد هذا العمل في توزيع الفرص وضمان تكافئها بين الشعوب عبر التشريعات والسياسات التي تضمن تحسين الظروف الحياتية لكل الناس، خصوصا في العمل والأجور والمعيشة وبصورة مستدامة. وتأتي الحوجة الملحة لتحقيق هذا الهدف، بعد أن تزايدت أوجه عدم المساواة في مجتمعات العالم المختلفة، إذ تنفرد نسبة 1 % فقط من سكان العالم بنصف الثروة العالمية المتاحة لهذه المجتمعات، والتي يفترض أن يتمتع بها جميع أفردها، بتقاسمها بالتساوي، ومن أجل حياة أفضل وحياة مستدامة.
من غايات الهدف العاشر لأهداف التنمية المستدامة حتى العام 2030:
أولا: تحقيق وضمان نمو الدخل وتعديل متوسط الدخل للفرد في كل البلدان، خصوصا بلدان العالم النامية والبلدان الفقيرة.
ثانيا: تمكين وتعزيز الاندماج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بغض النظر عن العمر، الجنس، الإعاقة، الانتماء العرقي، الأصل، الدين، الوضع الاقتصادي أو غير ذلك من عوامل.
ثالثا: كفالة الفرص المنصفة والعادلة في كل المجتمعات والسعي لتكافئها بإلغاء القوانين والسياسات والممارسات المجحفة التي تؤدي للتمييز والتفرقة بين الناس.
رابعا: سن واعتماد القوانين والتشريعات والسياسات الملائمة للبلدان، خصوصا المالية منها، التي تؤدي إلى تحقيق المساواة في العمل والأجور، وتعزيز حماية الأفراد في مجتمعاتهم.
خامسا: وضع أسس دولية ومحلية مواكبة ويمكن قياسها من أجل تحسين وتنظيم المؤسسات المالية والأسواق، ومتابعتها في تنفيذ عملها من أجل العدالة في تسويق المنتجات وعائدها المادي.
سادسا: ضمان مشاركة البلدان النامية في صنع القرار، خصوصا الفقيرة منها، وإعطائها الفرصة لكي توصل صوتها في المراحل الأولية، ومن أجل تحقيق التوازن العالمي، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وعدليا.
سابعا: تيسير وتنظيم سبل التنقل والهجرة بين البلدان وعلى نحو مدروس ومسؤول بمساعدة الجهات المختصة بفرص الهجرة والتنقل بين البلدان، مع مراعاة أمن البلدان المستضيفة وسلامة شعوبها.
ثامنا: معاملة البلدان النامية والفقيرة معاملة خاصة، تدعم النمو الاقتصادي والاجتماعي فيها، بناءا على محاربة الجهل والجوع والمرض والرشوة والمحسوبية، والحد من تدمير البيئة وسلب الثروات والموارد الذاتية لهذه البلدان، مع العمل لوقف المشاكل الداخلية والحروب الأهلية والحروب مع دول الجوار.
تاسعا: تشجيع العون الإنساني المبني على الإستدامة في الدول النامية الفقيرة والدول عديمة السواحل والموانئ، والجزر النائية أو الصغيرة محدودة الثروات والموارد، بأن يرصد الدعم الإنساني المقدم ويتابع بدقة في كيفية توظيفه وجدواه في الفائدة التي يمكن أن تعود على المواطن في فترة زمنية معينة يمكن قياسها.
عاشرا: تسهيل التحويلات المالية لأفراد الشعوب المهاجرة إلى البلدان الأصل، وخفض تكاليف معاملات التحويلات المالية، وهذا من أجل مساعدة أسرهم، وإنفاق شيء من مدخراتهم من أجل الدعم الفردي للإستدامة في هذه البلدان.
فيما يتعلق بموقع السودان من هذا الهدف: لا بد من الاعتراف أولا بأن هناك عدم مساواة في توزيع الفرص والاخفاق في تحقيق العدل والإنصاف فيها. هذا الاخفاق يرجع تاريخه الحديث على الأقل إلى بداية العقود الثلاثة الماضية. الفترة التي عمل فيها النظام البائد على تصنيف الناس إلى فئتين، فئة تتفق مع النظام في مبادئه، وفئة لا تتفق معه فيها، لتشق الحقوق في الفرص إلى قسمين. قسم موال للنظام، يتمتع بكل إمكانات الدولة المتاحة، وقسم غير موال، يحرم كليا من التمتع بهذه الإمكانات. بدأ هذا التصنيف فور اعتلاء النظام قمة هرم السلطة، عندها أحيل كم هائل من العاملين والموظفين والمختصين الأكفاء بين يوم وليلة إلى الصالح العام. وهذا من دون النظر إلى الانجازات التي حققوها طوال الحقبة الزمنية التي كانوا يعملون فيها في مؤسسات الدولة والمجالات التي كانوا يغطونها عمليا، مكتسبين خلالها لخبرات طويلة وثرية. كان من من المحالين تعسفيا للصالح العام، فنيون ومهندسون وطيارون وأطباء وقانونيون واقتصاديون ومعلمون وغيرهم من العاملين في مجالات تمثل سواعد المجتمع التي يقف عليها لكي ينمو ويتطور ويواكب.
نجد هنا تضرر الأفراد الذين أحيلوا إلى الصالح العام عبر فقدانهم لوظائفهم وأعمالهم، كما نجد أيضا الضرر البالغ الذي لحق بأسر هؤلاء المحالين للصالح العام بسبب تجريدهم من أعمالهم ووظائفهم التي كانوا يكتسبون منها تكاليف ونفقات الحياة اليومية لهم ولأسرهم. وعليه ترتب إفقارهم بين يوم وليلة، ومن دون إنذار مبكر أو دراسة مبكرة للقرار الصادر من رئاسة الدولة. الشيء الذي أضطر الغالبية العظمى منهم للهجرة القسرية، تاركين لأسرهم خلفهم، أو المكوث في السودان مجبرين لمزاولة مهن هامشية لا تفيء بمتطلبات اليوم لأسرهم ولتعليم أبنائهم وبناتهم، بل لا تفيء أيضا بمتطلبات علاج المرضى منهم بعد سنوات عمل طويلة وشاقة، مليئة بالكدح والمثابرة من أجل السودان ومن أجل متطلبات مواطنه. ثم توالى من بعد ذلك التوظيف المكفول بالعلاقة الجيدة مع النظام وأهله، لملء الفراغ الشاغر الذي أحدثه تحويل الكوادر المؤهلة للصالح العام، لتحل محلها كوادر غير مؤهلة، تكمن قوتها في العصبية والتطرف وعدم قبول الآخر ورفضه ونبذه.
حتى الفرص التي كانت تأتي من خارج البلاد من الدول المجاورة والدول الصديقة من أجل الدراسة والتخصصات وتبادل الخبرات في شتى المجالات، كانت فرص تسيس عن قصد ولا تعطى في الغالب إلا لكل من تأكد من ولائه للنظام السائد. ونفس المنهج كان ينطبق على العمل التجاري الربحي، المتمثل في فرص الاستيراد والتصدير، كانت هذه الفرص حصرية، وللأسف محصورة ولما يفوق الثلاثون عاما في نطاق ضيق، وفقط في أيدي أهل النظام الحاكم، خصوصا الوزراء وأسرهم وأهلهم المقربين الذين كانوا يتمتعون بوضع خاص. بحيث لا تعطى الرخص المختصة بهذا القطاع إلا إلى كل من كان ذا قرب أو ذي ولاء للنظام. الشيء الذي مهد للثراء الحرام، بتغاضي النظام الحاكم عن سؤال أوليائه "من أين لكم هذا؟؟" وفي فترة زمنية وجيزة لا يمكن للعامل أو الموظف فيها من الحصول على دخل طائل ومخجل، يظهر في ممتلكات فردية يصعب حصرها لتبرير ملكيتها الشرعية والقانونية للفرد الذي يزعم بأنها تحت ملكيته.
علت وقتها همة أهل النظام البائد الذين كانوا يسيرون مؤسسات الدولة وكادت أن تلامس السحاب، من أجل سلب ممتلكات السودان ومواطنيه، بتأسيسهم لشركات ومؤسسات تجارية فردية. وكانت لهم أراض زراعية وسكنية تم انتزاعها من ملاكها من دون حق. ممتلكات سجلت بأسماء ملاك جدد، يعجز العقل عن تصديق ملكيتهم لها وفي غضون هذه الفترة الزمنية الوجيزة. توسع النهب وصارت للموالين للنظام حسابات بنكية طائلة، في دول تعمل بإختصاص ولصوصية في تحويل واستقبال أموال السودان المنهوبة من ثرواته وموارده، لكي توظف لأفراد معينين بأنفسهم في هذه الدول. حينها تفشت عدم المساواة بين الناس في غضون هذه الحقبة، متمثلة في التمدد في البنيان وعلى مساحات شاسعة، بل أيضا التطاول فيه ببناء أبراج لا نقول إنها أبراج تناضح السحاب، بقدر أنها أبراج تناطح حقوق الإنسان في بلده السودان، المساواة في الحقوق والعدالة الاجتماعية. لقد كان الفساد في دواوين الدولة يسير ولسنوات طويلة بصورة مقننة وشكل ممنهج، كاشف بذلك عن وجه الولاء للنظام وأهله تحت قناع ديني كاذب. ولم يكن كل هذا متمثل في انتشار الفساد فقط، بل أيضا في التمدد والمنافسة فيه بين أهل النظام. الشيء الذي جعل الفساد ذا رائحة مميزة، تزداد كل يوم نتانة، وتتفشى في الأرجاء لتزكم أنوف الناس الكادحين العاملين والمنتجين. كل هذا كان يحدث في مؤسسات الدولة، وعلى علم ودراية سيادة السلطات الحاكمة آنذاك.
كل هذه الأشياء مجتمعة، والتي ليست هي من نسج الخيال، بل ثمار مرة توجب على إنسان السودان جنيها مرغما، مهدت لأن تزرع بذور الفتنة في البلاد، يسقيها كل يوم شقاء وعذاب المواطن، إلى أن جاءت الثورة المجيدة التي أخمدت نارها سريعا. وهنا نقول فيما يخص عدم المساواة والعدالة الاجتماعية في السودان: إنها ظاهرة مصطنعة من الأنظمة الحاكمة، خصوصا النظام الذي حكم لأطول الفترات الزمنية. عدم المساواة في السودان لا ينحصر في فئة اثنية أو عرقية بعينها، بل إنها ظاهرة يعاني منها كل مواطني السودان، وباختلاف قبائلهم ومناطقهم وأعراقهم وأثنيتهم ودياناتهم. عليه يكون المرجع الأول لضمان تحقيق المساواة الاجتماعية في السودان وتوزيع الفرص العادلة، هو مراجعة الإخفاقات التي مهدت للمعاناة الحالية التي يدفع ثمنها الآن كل مواطني السودان في الداخل وفي الخارج. الشيء الذي يتطلب إرساء دعائم السلم والسلام الدائمين في السودان، على مبدأ الوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ويأتي هذا بناء على توزيع الفرص المتاحة في المجتمع السوداني بالتساوي، بغض النظر عن الولاء السياسي والديني والعرقي والقبلي وغيره من جوانب تصنيف أخرى، لا تعمل على الحد من أوجه عدم المساواة بين أفراد المجتمع، ولا تزيد العشم في أن يصبح المجتمع مجتمعا مسالما وآمنا ومستداما.
(نواصل في الهدف الحادي عشر: مدن ومجتمعات محلية مستدامة...)
E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de
المصدر: ترجمة معدلة من أوراق ومحاضرات للكاتب.
د. حسن حميدة – ألمانيا
يعمل الهدف العاشر من أهداف التنمية المستدامة على الحد من أوجه عدم المساواة في المجتمعات العالم. ويتجسد هذا العمل في توزيع الفرص وضمان تكافئها بين الشعوب عبر التشريعات والسياسات التي تضمن تحسين الظروف الحياتية لكل الناس، خصوصا في العمل والأجور والمعيشة وبصورة مستدامة. وتأتي الحوجة الملحة لتحقيق هذا الهدف، بعد أن تزايدت أوجه عدم المساواة في مجتمعات العالم المختلفة، إذ تنفرد نسبة 1 % فقط من سكان العالم بنصف الثروة العالمية المتاحة لهذه المجتمعات، والتي يفترض أن يتمتع بها جميع أفردها، بتقاسمها بالتساوي، ومن أجل حياة أفضل وحياة مستدامة.
من غايات الهدف العاشر لأهداف التنمية المستدامة حتى العام 2030:
أولا: تحقيق وضمان نمو الدخل وتعديل متوسط الدخل للفرد في كل البلدان، خصوصا بلدان العالم النامية والبلدان الفقيرة.
ثانيا: تمكين وتعزيز الاندماج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بغض النظر عن العمر، الجنس، الإعاقة، الانتماء العرقي، الأصل، الدين، الوضع الاقتصادي أو غير ذلك من عوامل.
ثالثا: كفالة الفرص المنصفة والعادلة في كل المجتمعات والسعي لتكافئها بإلغاء القوانين والسياسات والممارسات المجحفة التي تؤدي للتمييز والتفرقة بين الناس.
رابعا: سن واعتماد القوانين والتشريعات والسياسات الملائمة للبلدان، خصوصا المالية منها، التي تؤدي إلى تحقيق المساواة في العمل والأجور، وتعزيز حماية الأفراد في مجتمعاتهم.
خامسا: وضع أسس دولية ومحلية مواكبة ويمكن قياسها من أجل تحسين وتنظيم المؤسسات المالية والأسواق، ومتابعتها في تنفيذ عملها من أجل العدالة في تسويق المنتجات وعائدها المادي.
سادسا: ضمان مشاركة البلدان النامية في صنع القرار، خصوصا الفقيرة منها، وإعطائها الفرصة لكي توصل صوتها في المراحل الأولية، ومن أجل تحقيق التوازن العالمي، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وعدليا.
سابعا: تيسير وتنظيم سبل التنقل والهجرة بين البلدان وعلى نحو مدروس ومسؤول بمساعدة الجهات المختصة بفرص الهجرة والتنقل بين البلدان، مع مراعاة أمن البلدان المستضيفة وسلامة شعوبها.
ثامنا: معاملة البلدان النامية والفقيرة معاملة خاصة، تدعم النمو الاقتصادي والاجتماعي فيها، بناءا على محاربة الجهل والجوع والمرض والرشوة والمحسوبية، والحد من تدمير البيئة وسلب الثروات والموارد الذاتية لهذه البلدان، مع العمل لوقف المشاكل الداخلية والحروب الأهلية والحروب مع دول الجوار.
تاسعا: تشجيع العون الإنساني المبني على الإستدامة في الدول النامية الفقيرة والدول عديمة السواحل والموانئ، والجزر النائية أو الصغيرة محدودة الثروات والموارد، بأن يرصد الدعم الإنساني المقدم ويتابع بدقة في كيفية توظيفه وجدواه في الفائدة التي يمكن أن تعود على المواطن في فترة زمنية معينة يمكن قياسها.
عاشرا: تسهيل التحويلات المالية لأفراد الشعوب المهاجرة إلى البلدان الأصل، وخفض تكاليف معاملات التحويلات المالية، وهذا من أجل مساعدة أسرهم، وإنفاق شيء من مدخراتهم من أجل الدعم الفردي للإستدامة في هذه البلدان.
فيما يتعلق بموقع السودان من هذا الهدف: لا بد من الاعتراف أولا بأن هناك عدم مساواة في توزيع الفرص والاخفاق في تحقيق العدل والإنصاف فيها. هذا الاخفاق يرجع تاريخه الحديث على الأقل إلى بداية العقود الثلاثة الماضية. الفترة التي عمل فيها النظام البائد على تصنيف الناس إلى فئتين، فئة تتفق مع النظام في مبادئه، وفئة لا تتفق معه فيها، لتشق الحقوق في الفرص إلى قسمين. قسم موال للنظام، يتمتع بكل إمكانات الدولة المتاحة، وقسم غير موال، يحرم كليا من التمتع بهذه الإمكانات. بدأ هذا التصنيف فور اعتلاء النظام قمة هرم السلطة، عندها أحيل كم هائل من العاملين والموظفين والمختصين الأكفاء بين يوم وليلة إلى الصالح العام. وهذا من دون النظر إلى الانجازات التي حققوها طوال الحقبة الزمنية التي كانوا يعملون فيها في مؤسسات الدولة والمجالات التي كانوا يغطونها عمليا، مكتسبين خلالها لخبرات طويلة وثرية. كان من من المحالين تعسفيا للصالح العام، فنيون ومهندسون وطيارون وأطباء وقانونيون واقتصاديون ومعلمون وغيرهم من العاملين في مجالات تمثل سواعد المجتمع التي يقف عليها لكي ينمو ويتطور ويواكب.
نجد هنا تضرر الأفراد الذين أحيلوا إلى الصالح العام عبر فقدانهم لوظائفهم وأعمالهم، كما نجد أيضا الضرر البالغ الذي لحق بأسر هؤلاء المحالين للصالح العام بسبب تجريدهم من أعمالهم ووظائفهم التي كانوا يكتسبون منها تكاليف ونفقات الحياة اليومية لهم ولأسرهم. وعليه ترتب إفقارهم بين يوم وليلة، ومن دون إنذار مبكر أو دراسة مبكرة للقرار الصادر من رئاسة الدولة. الشيء الذي أضطر الغالبية العظمى منهم للهجرة القسرية، تاركين لأسرهم خلفهم، أو المكوث في السودان مجبرين لمزاولة مهن هامشية لا تفيء بمتطلبات اليوم لأسرهم ولتعليم أبنائهم وبناتهم، بل لا تفيء أيضا بمتطلبات علاج المرضى منهم بعد سنوات عمل طويلة وشاقة، مليئة بالكدح والمثابرة من أجل السودان ومن أجل متطلبات مواطنه. ثم توالى من بعد ذلك التوظيف المكفول بالعلاقة الجيدة مع النظام وأهله، لملء الفراغ الشاغر الذي أحدثه تحويل الكوادر المؤهلة للصالح العام، لتحل محلها كوادر غير مؤهلة، تكمن قوتها في العصبية والتطرف وعدم قبول الآخر ورفضه ونبذه.
حتى الفرص التي كانت تأتي من خارج البلاد من الدول المجاورة والدول الصديقة من أجل الدراسة والتخصصات وتبادل الخبرات في شتى المجالات، كانت فرص تسيس عن قصد ولا تعطى في الغالب إلا لكل من تأكد من ولائه للنظام السائد. ونفس المنهج كان ينطبق على العمل التجاري الربحي، المتمثل في فرص الاستيراد والتصدير، كانت هذه الفرص حصرية، وللأسف محصورة ولما يفوق الثلاثون عاما في نطاق ضيق، وفقط في أيدي أهل النظام الحاكم، خصوصا الوزراء وأسرهم وأهلهم المقربين الذين كانوا يتمتعون بوضع خاص. بحيث لا تعطى الرخص المختصة بهذا القطاع إلا إلى كل من كان ذا قرب أو ذي ولاء للنظام. الشيء الذي مهد للثراء الحرام، بتغاضي النظام الحاكم عن سؤال أوليائه "من أين لكم هذا؟؟" وفي فترة زمنية وجيزة لا يمكن للعامل أو الموظف فيها من الحصول على دخل طائل ومخجل، يظهر في ممتلكات فردية يصعب حصرها لتبرير ملكيتها الشرعية والقانونية للفرد الذي يزعم بأنها تحت ملكيته.
علت وقتها همة أهل النظام البائد الذين كانوا يسيرون مؤسسات الدولة وكادت أن تلامس السحاب، من أجل سلب ممتلكات السودان ومواطنيه، بتأسيسهم لشركات ومؤسسات تجارية فردية. وكانت لهم أراض زراعية وسكنية تم انتزاعها من ملاكها من دون حق. ممتلكات سجلت بأسماء ملاك جدد، يعجز العقل عن تصديق ملكيتهم لها وفي غضون هذه الفترة الزمنية الوجيزة. توسع النهب وصارت للموالين للنظام حسابات بنكية طائلة، في دول تعمل بإختصاص ولصوصية في تحويل واستقبال أموال السودان المنهوبة من ثرواته وموارده، لكي توظف لأفراد معينين بأنفسهم في هذه الدول. حينها تفشت عدم المساواة بين الناس في غضون هذه الحقبة، متمثلة في التمدد في البنيان وعلى مساحات شاسعة، بل أيضا التطاول فيه ببناء أبراج لا نقول إنها أبراج تناضح السحاب، بقدر أنها أبراج تناطح حقوق الإنسان في بلده السودان، المساواة في الحقوق والعدالة الاجتماعية. لقد كان الفساد في دواوين الدولة يسير ولسنوات طويلة بصورة مقننة وشكل ممنهج، كاشف بذلك عن وجه الولاء للنظام وأهله تحت قناع ديني كاذب. ولم يكن كل هذا متمثل في انتشار الفساد فقط، بل أيضا في التمدد والمنافسة فيه بين أهل النظام. الشيء الذي جعل الفساد ذا رائحة مميزة، تزداد كل يوم نتانة، وتتفشى في الأرجاء لتزكم أنوف الناس الكادحين العاملين والمنتجين. كل هذا كان يحدث في مؤسسات الدولة، وعلى علم ودراية سيادة السلطات الحاكمة آنذاك.
كل هذه الأشياء مجتمعة، والتي ليست هي من نسج الخيال، بل ثمار مرة توجب على إنسان السودان جنيها مرغما، مهدت لأن تزرع بذور الفتنة في البلاد، يسقيها كل يوم شقاء وعذاب المواطن، إلى أن جاءت الثورة المجيدة التي أخمدت نارها سريعا. وهنا نقول فيما يخص عدم المساواة والعدالة الاجتماعية في السودان: إنها ظاهرة مصطنعة من الأنظمة الحاكمة، خصوصا النظام الذي حكم لأطول الفترات الزمنية. عدم المساواة في السودان لا ينحصر في فئة اثنية أو عرقية بعينها، بل إنها ظاهرة يعاني منها كل مواطني السودان، وباختلاف قبائلهم ومناطقهم وأعراقهم وأثنيتهم ودياناتهم. عليه يكون المرجع الأول لضمان تحقيق المساواة الاجتماعية في السودان وتوزيع الفرص العادلة، هو مراجعة الإخفاقات التي مهدت للمعاناة الحالية التي يدفع ثمنها الآن كل مواطني السودان في الداخل وفي الخارج. الشيء الذي يتطلب إرساء دعائم السلم والسلام الدائمين في السودان، على مبدأ الوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ويأتي هذا بناء على توزيع الفرص المتاحة في المجتمع السوداني بالتساوي، بغض النظر عن الولاء السياسي والديني والعرقي والقبلي وغيره من جوانب تصنيف أخرى، لا تعمل على الحد من أوجه عدم المساواة بين أفراد المجتمع، ولا تزيد العشم في أن يصبح المجتمع مجتمعا مسالما وآمنا ومستداما.
(نواصل في الهدف الحادي عشر: مدن ومجتمعات محلية مستدامة...)
E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de
المصدر: ترجمة معدلة من أوراق ومحاضرات للكاتب.