ود مدنى .. من مدينة الجمال إلى مدينة الأشباح !
علي أحمد ابراهيم رحمة
4 April, 2024
4 April, 2024
(١من ٣)
د. علي أحمد ابراهيم رحمة
هذا المقال كان تقريراً خاصاً، ولكن رأيت، بحكم واجبى كمؤرخ، وكشاهد على العصر، أن أنشره عسى أن يسهم في أمر التعجيل ببسط الأمن والسلام في ربوع السودان الحبيب.
هذه المشاهدات تم تسجيلها فى الفترة من ٢٠٢٤/٣/١١م إلى
٢٠٢٤/٣/١٤م.
حتَّم عليَّ ظرف إنساني وأُسَرِي أن أسافر لمدينة ود مدنى الحبيبة، تلك المدينة التي لم تشكل دنياي فحسب، وإنما شكلت آخرتي أيضا، حيث التزمت فيها (طريق محمد) صلى الله عليه وسلم، وصاحبت فيها الأخيار، أستاذ سعيد الطيب شايب دشين وأستاذ جلال الدين الهادي الطيب أدريس وأستاذ الباقر الفضل الأمين، وصحبهم المقربين، التزاما بالآية ( وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا)
وفيها تزوجت المرأة الصالحة، الطيبة عزة حسن عثمان أبنة بلتنا اسماعيل (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ ) فوهبنى منها الله سبحانه وتعالى الذرية، محمود ومحمد وآمنة، وثقتى فى الله كبيرة أن تكون ذرية صالحة..
(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
هذا الأرتباط الروحي، والوجداني جعلني لا أمل زيارتها، مرارا وتكرارا، وفي كل مرة أراها بعين الرضا، فيسرني منها ما أرى، غير أن الزمان دول ولكن لنا في الله أمل كبير أن تعود، بأبهى مما كانت، بما لاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما ذلك على الله بعزيز
*آخر زيارة لي لود مدني، مدينة الجمال:
عندما غادرت ود مدني، قبيل الأحداث الأخيرة، كانت خلاويها وزواياها تضج (بالتهليل والتسبيح) وكانت نواديها تصدع بالألحان الوطنية والغنائية الرأقية، كذلك كانت كل مناشط الحياة مشتعلة بما يسر الخاطر، ويفرح القلب والناس منفتحون على الحياة فيها، شاكرون، حامدون.
ثم أستدار زمان، والزمان عجب، فزرتها بعد هذه الأحداث المؤسفة، فهالني ما رأيت، اذ تبدلت تلك الجنة الغناء المفعمة بالحياة، الى مدينة أشباح، لا تكاد تحس فيها نأمة.
رحلة المعاناة الى ما كانت تسمى (مدينة ود مدني):
بدأت المعاناة مع بداية الرحلة، منذ أن تحركت نحو ود مدني من الدمازين، حيث كانت الرحلة تمر عبر سنجة، فسنار ثم ود مدنى، لا تتجاوز (٦) ساعات، ولا يتجاوز سعر تذكرتها (١٠)الف جنيه، لكن اليوم تغير كل ذلك، بدءاِ بالمسار عبر سنجة ومنها الى الدندر، ثم أب رخم التي كان منها يمكن أن اسافر لود مدني، لكن لما كان الوقت متأخرا اصبح المبيت فيها واجبا مع الطروف الأمنية الصعبة، ولكن مع ذلك فضلت أن أبيت فى القضارف.
فى صباح اليوم التالي تحركت من القضارف للرهد، ومنها الى الخيارى، بداية ولاية الجزيرة، وأخيرا إلى كبري حنتوب، فود مدني، التى وصلتها الساعة ٤مساء اليوم التالي ،بعد رحلة استغرقت (٣٣) ساعة بدلا عن ( ٦) ساعات، وكلفت قيمة تذاكرها (٦٠)ألف جنيه، بدلا عن (١٠) الف جنيه عدا مصاريف الطريق.
*ارتكازات الجيش:
الرحلة من الدمازين، إلى سنجة، ومنها إلى القضارف، ومنها إلى الخيارى، كانت تقع فى ولاية النيل الأزرق، وولاية سنار، وولاية القضارف، وجميعها تقع تحت سيطرة الجيش، ومع ذلك، مررت بحوالي (١٠) إرتكازات فى كل ولاية، ويتفاوت زمن التفتيش فى كل ارتكاز بين (٥)دقائق إلى(٣٠) دقيقة، لان بعض الإرتكازات متعددة المهام ، تشمل الإستخبارات والمباحث، والحركة.. الخ ، يتم التركيز فى التفتيش على الشباب.. فيتم تفتش هوياتهم، أمتعتهم ، وجوالاتهم، ويندر أن يتم سؤال الشيوخ مثلى عن هوياتهم، وكذلك النساء.
لاحظت أيضا أنه يتم دفع مبالغ، غير معروف كنهها، من سائق البص لأفراد في هذه الأرتكازات على طول الطريق.
*إرتكازات الدعم السريع :-
داخل ولاية الجزيرة، وابتداءاِ من الخياري إلى كبرى حنتوب، هنالك حوالى (١٥)ارتكازا تخص الدعم السريع، ويتم تفتيش الشباب بذات الطريقة،هوياتهم، تلفوناتهم، شنطهم.
رأيت حالة شاذة واحدة، تمثلت في ضرب شاب، بصوت عنج، ولم أعرف ما السبب؟
وأيضا لا يتم مسآءلة الشيوخ ولا النساء، ولا تفتيشهن، وتم ذلك فقط فى ولاية بورتسودان تحديدا في هيا، فهناك خيمة تابعة للجيش يتم
فيها تفتيش السيدات بواسطة آنسات وسيدات.
لاحظت عندما ركبت الحافلة في القضارف أن سائقها يصر ان يخلص قيمة التذكرة كاملة، فاستنكرتٌ تعسفه، ولكن زال عجبي، اذ في خلال السبع ساعات التي استغرقتها الرحلة، كان سايق الحافلة يدفع في كل ارتكاز، ما بين (٥)ألف الى (١٥)الف جنيه.. سمها ما تسمها(رسوم عبور، تسهيلات، رشوة )
فعذرت السائق الذى كنت قد اتهمته بالتعسف، بل شفقت عليه.
*أهم تفاصيل الرحلة:
نزلت حوالى الساعة ٤م عند كبري حنتوب مما يلي ود مدني، 'قبالة مستشفى القلب' وكان السائق، مشكورا، قد وافق أن يوصل الركاب، معظمهم من النساء إلى كبري البوليس بدلا من حنتوب 'محطة كرونة '
حيث لاتوجد اي وسيلة مواصلات.. فالشوارع خالية من الحركة تماما..إلا من بعض عربات وموأتر ورقشات عساكر الدعم السريع، وهى تجوب الشوارع بسرعة جنونية.
حسمت أمرى وتوجهت سيرا على الأقدام حتى حي القلعة احد إحياء الدباغة، فدخلت منزل الأخ دفع الله موسى والأخت فتحية المبارك ذلك المنزل الذى كان مركز حركة الأخوان الجمهوريين. كنت دائما أجد أمامه عددا من العربات.. أما الزوار ف(ديل داخلين وديل مارقين)أما النُّفَع (فيبردبون)هنا وهناك، فرحين، في نفس الوقت، تسمع أصوات المنشدين عالية فتطرب، فود موسى مثلا ينشد.. (سلام سلام أهيل المدام**
خذوني إليكم فأنتم كرام) او (الثلث يجيك يامريد شمر **ربك يعطيك شرب اب صوبان).والرشيد ينشد(أحسين فى الأبرار والأحرار ما **أزكى شمائله وما أنداها ) والعركي ينادي أب شراـ أو علي العوض ينادي أب صوبان وهكذا.
طرقت الباب الذى كنت لاأجده مغلقا ففتح لى متوجسا الأخ محمد على عبد الرحمن، حيث يسكن هو وزجته فايزة المبارك وابناؤهما، مع الاخت فتحية المبارك اخت زوجته فايزة المبارك بالإضافة للآبنة آمنة القمدانى، فرحب بي، كما رحبن هْنَّ بى أيضا أيما ترحاب.
تأملت المشهد بعد مادخلت المنزل فتساءلت فى نفسى :اين ذهب اؤلئك الشيوخ الذين كانوا يعطون الدار هيبة؟الأستاذ إبراهيم يوسف والأخ عبدالماجد التاي وغيرهما؟!
اين اؤلئك الشباب والشابات الذين كانوا يملؤن الدار حيوية؟
فوردت على خاطري أبيات ابن الفارض..
**قف بالديار وحيى الأربع الدُرُسَا * *
ونادها فعساها أن تجيب عسى**
**وإن اجنَّكَ ليل من توحشها * *فاشعل من الشوق فى ظلمائها قبسا
إلى أن يقول:
**تلك الليالى التى أعددت من عمرى * *
مع الأحبة كانت كلها عُرُسَا
ثم نزلت من تلك الألمامة السماوية، الى واقع الناس فأخذت خبرهم واعطيتهم خبري، وكلاهما مما لا يسر بال
ألحوا عليَّ أن أفطر معهم فطور رمضان، فاعتذرت وسمحوا لي، فواصلت نحو ام سويقو ، سيرا على الأقدام فمررت بضريح ودكنان لحّاق الدركّان، ولايزال السؤال يطرح نفسه: اين ذهب زواره ومريدوه؟؟؟
فحييته وطلبت منه الفزع، أن يفزع الشعب السوداني، فيرفع الحرب ويحل السلام.
مررت بمدرستي الجيلى وزروق، فى الزمن الجميل كان الشارع أمامهما..يعج بالطالبات، حيث المدرسة (تفتح على الشارع والشارع يفتح على القلب) لكن اليوم حل الصمت محل الحركة والحيوية ، صمت الجرس..عن تنبيه ومناداة الطلاب والطالبات، لأن الطلاب أنفسهم تفرقوا ايدى سبأ، أما المعلمون فيبحثون عن مايسد رمق الجوع في مهاجرهم القسرية، فاختفت أصوات الأناشيد.
واصلت المسير إلى أن وصلت قبة ود مدني، مركز الحركة المسائية، فاختفت تلك الحياة التى كانت تموج بها هذه البقعة المباركة وحلَّ محلها سكون موحش انقطع زوار ود مدني عن ضريحه، وخيم الصمت الموحش على زواية الشيخ عبد السيد،حيث كان فيها من(يضرب النوبة ضربا فتئن)، ويدور حوله الدراويش..وهم منتشين بخمرة المحبوب ولسان حالهم يقول..
فرحي يا فرحي يافرحي**
خمرة المحبوب ملء القدح!!!
هذا من الجانب الغربي..لحى ام سويقو، أما من الجانب الشرقى، فهناك اضرحة أب شبكة وأب دواية والسطوحى وسعدابى، حيث تحيط هذه الأضرحة بحي ام سويقو إحاطة السوار بالمعصم
إلا أن المتغير المحزن، فقد صمت ايضا هذا المكان ،فلم نعد نسمع منشدي الأحمدية، يترنمون بقصائدهم المميزة، فيصدحون...
لاتسأل الغرام عن شرح حالى**فالهوى قاتلى على كل حال
ياعذولى كُفَّ عن الملامة**فإنى عن من أحب لست بسالى**
هو فى القلب ساكن ومقيم **ليس للغير موضع فيه خالى * *
ثم تقفز في ذهنك صورة فى الجانب الآخر حيث تدور عربة العريس أمام قبة سعدابى، والبنات ينادينه (يا يابا سعدابى الفوقو الشدر كابي) وانا فى هذه الحالة الوجدانية دخلت منزل نسيبى الأخ عثمان حسن عثمان
فتفاجأ بمقدمى فى هذه الظروف الأمنية الإستثنائية، وإنعدام المواصلات فرحب بى هو وزوجته واطفالهما، ثم خرجنا بفطورنا (للضرا) كما يسميه اهلنا فى الصعيد، وفي غرب السودان. تناولنا الفطور وصلينا المغرب فى الجماعة، ثم رجعنا للمنزل جلست معهم مجلسا قصيرا ثم استأذنتهم وخرجت بشارع النيل..قاصدا الحي السوداني فلما وصلت المدرسة الأميرية، قابلني عسكري من الدعم السريع فارجعني بحجة حظر التجول. فقلت له:حظر التجول فى رمضان أخروه حتى الساعة ١٠ م فى مدن السودان الأخرى، فقال لى :نحن هنا ما أخرناه فرجعت، وقضيت ليلتي في ام سويقو فكانت بفضل الله طيبة مباركة.
فى الصباح ودعت عثمان واسرته وخرجت الساعة ٧صباحا فمريت بنفس الإرتكاز الذى أرجعنى الليلة البارحة، فاستوقفنى قائد الارتكاز وسألنى ماش وين؟ فاجبته : ماشى إلى الحي السوداني
ماشى ليه ؟ داير ازور بروف عصام البوشي، فهو عيان شفاه الشافى.اتفضل لكن ما تمشى بشارع النيل أمشى بالشارع الداخلى
تحركت فكحلت شارع النيل الذى كان، قبل الأحداث، يعج بالشباب مبتهجين فى الكافتريات والمطاعم والكازينوهات، يمارسون حياتهم، فرحين يستمعون إلى مختلف الأغاني، والأناشيد الوطنية
مثل قصيدة العطبراوي:
أيها الناس نحن من نفر***عمر الأرض حيثما قطنوا
يُذكَرُ المجد كلما ذُكِرُوا وهو يعتز
حين يقترن)**
رأيت شارع النيل هذه المرة عابسا وقد غابت عنه تلك المشاهد الجمالية وحلت محلها وحشة وتَوَجُس وخوف.
دخلت بشارع داخلي ،تركت جامع الحكومة يساري وسرت حتى السينما الوطنية، فرق شاسع بينها اليوم ٢٠٢٤/٣/١٢م واول يوم دخلتها فى ذلك الزمن الجميل عام ١٩٦٣م عندما جئنا ود مدني ونحن طلاب في مدرسة أبى عشر الوسطى، فعسكرنا أسبوعاً، بالتمام والكمال، فى غابة ام بارونة، وفيها طبقنا كل فنون الكشافة، كما قمنا برحلات علمية لبركات حيث رئاسة مشروع الجزيرة، ومارنجان حيث محالج القطن...الخ
كلها أصبحت اليوم ينعق فيها ألبوم!!!
(سبحان مغير الاحوال )(اللهم لاتسلط علينا بذنوبنا من لايخافك ولايرحمنا )قال أهلنا الحلفاويين الظرفاء
:(هو من ناحية سلت سلت نسأله التهفيف).
من السينما الوطنية بذات الشارع الداخلي حتى يتقاطع مع شارع مواصلات دردق موقف السوق الكبير، ومنه الى صينية وزارة المالية.طوال هذه الرحلة..لم التق إلا بمواطنين ، صاحب كارو وراكب واحد معه، ولكن هناك عشرات العربات المحروقة، وعشرات الدكاكين المنهوبة!!!
أما عندما دخلت شارع آل البوشي، وهو نفس الشارع الذى انتقل إليه السجل المدني والجوازات مؤخرا، فأصبح أكثر شوارع ود مدني إزدحاما على الإطلاق ، أما اليوم فينعق فيه البوم..ايضا!!!
رجعت بالذاكرة خمسة وخمسين عاماً للوراء ،عندما دخلته لأول مرة حيث منزل الوالد المغفور له عبد الرحمن البوشى، حينها كانت تنعقد فيه، جلسات ومؤتمرات الحزب الجمهوري، كما تقام ايضا فى منزل جاره الاخ المغفور له عثمان ابو بكر رجب الشوربجي.
وصلت المنزل فطرقت الباب..فَفُتِحَ لى..دخلت على بروف عصام البوشى واسرته فرحبوا بى، وتجمعوا حولى، زوجته الأخت سلمى مجذوب ،و إبنته وفاء وأخواته، علوية وعطيات وأخوه عادل, ونسيبه د.معتصم عبد الله محمود.. استمر مجلسى معهم ساعة،تناولنا فيها اخبار مجتمعنا..كما تناولنا القضايا العامة.. فكانت آراؤنا قريب من قريب
ودعتهم وتحركت راجلا بنفس الشارع، شارع الأشباح..فلم يتغير المشهد إلا بعد أن تجاوزت جامع الحكومة، ودخلت حي المدنيين..فبدات حركة المواطنين خجولة ، واللافت للنظر أن حركة النساء فى الشارع اكثر من حركة الرجال !!وفى حركة الرجال ،حركة الشيوخ أكثر من حركة الشباب !!!
نواصل...
abdalla.baboo@gmail.com
د. علي أحمد ابراهيم رحمة
هذا المقال كان تقريراً خاصاً، ولكن رأيت، بحكم واجبى كمؤرخ، وكشاهد على العصر، أن أنشره عسى أن يسهم في أمر التعجيل ببسط الأمن والسلام في ربوع السودان الحبيب.
هذه المشاهدات تم تسجيلها فى الفترة من ٢٠٢٤/٣/١١م إلى
٢٠٢٤/٣/١٤م.
حتَّم عليَّ ظرف إنساني وأُسَرِي أن أسافر لمدينة ود مدنى الحبيبة، تلك المدينة التي لم تشكل دنياي فحسب، وإنما شكلت آخرتي أيضا، حيث التزمت فيها (طريق محمد) صلى الله عليه وسلم، وصاحبت فيها الأخيار، أستاذ سعيد الطيب شايب دشين وأستاذ جلال الدين الهادي الطيب أدريس وأستاذ الباقر الفضل الأمين، وصحبهم المقربين، التزاما بالآية ( وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا)
وفيها تزوجت المرأة الصالحة، الطيبة عزة حسن عثمان أبنة بلتنا اسماعيل (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ ) فوهبنى منها الله سبحانه وتعالى الذرية، محمود ومحمد وآمنة، وثقتى فى الله كبيرة أن تكون ذرية صالحة..
(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
هذا الأرتباط الروحي، والوجداني جعلني لا أمل زيارتها، مرارا وتكرارا، وفي كل مرة أراها بعين الرضا، فيسرني منها ما أرى، غير أن الزمان دول ولكن لنا في الله أمل كبير أن تعود، بأبهى مما كانت، بما لاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما ذلك على الله بعزيز
*آخر زيارة لي لود مدني، مدينة الجمال:
عندما غادرت ود مدني، قبيل الأحداث الأخيرة، كانت خلاويها وزواياها تضج (بالتهليل والتسبيح) وكانت نواديها تصدع بالألحان الوطنية والغنائية الرأقية، كذلك كانت كل مناشط الحياة مشتعلة بما يسر الخاطر، ويفرح القلب والناس منفتحون على الحياة فيها، شاكرون، حامدون.
ثم أستدار زمان، والزمان عجب، فزرتها بعد هذه الأحداث المؤسفة، فهالني ما رأيت، اذ تبدلت تلك الجنة الغناء المفعمة بالحياة، الى مدينة أشباح، لا تكاد تحس فيها نأمة.
رحلة المعاناة الى ما كانت تسمى (مدينة ود مدني):
بدأت المعاناة مع بداية الرحلة، منذ أن تحركت نحو ود مدني من الدمازين، حيث كانت الرحلة تمر عبر سنجة، فسنار ثم ود مدنى، لا تتجاوز (٦) ساعات، ولا يتجاوز سعر تذكرتها (١٠)الف جنيه، لكن اليوم تغير كل ذلك، بدءاِ بالمسار عبر سنجة ومنها الى الدندر، ثم أب رخم التي كان منها يمكن أن اسافر لود مدني، لكن لما كان الوقت متأخرا اصبح المبيت فيها واجبا مع الطروف الأمنية الصعبة، ولكن مع ذلك فضلت أن أبيت فى القضارف.
فى صباح اليوم التالي تحركت من القضارف للرهد، ومنها الى الخيارى، بداية ولاية الجزيرة، وأخيرا إلى كبري حنتوب، فود مدني، التى وصلتها الساعة ٤مساء اليوم التالي ،بعد رحلة استغرقت (٣٣) ساعة بدلا عن ( ٦) ساعات، وكلفت قيمة تذاكرها (٦٠)ألف جنيه، بدلا عن (١٠) الف جنيه عدا مصاريف الطريق.
*ارتكازات الجيش:
الرحلة من الدمازين، إلى سنجة، ومنها إلى القضارف، ومنها إلى الخيارى، كانت تقع فى ولاية النيل الأزرق، وولاية سنار، وولاية القضارف، وجميعها تقع تحت سيطرة الجيش، ومع ذلك، مررت بحوالي (١٠) إرتكازات فى كل ولاية، ويتفاوت زمن التفتيش فى كل ارتكاز بين (٥)دقائق إلى(٣٠) دقيقة، لان بعض الإرتكازات متعددة المهام ، تشمل الإستخبارات والمباحث، والحركة.. الخ ، يتم التركيز فى التفتيش على الشباب.. فيتم تفتش هوياتهم، أمتعتهم ، وجوالاتهم، ويندر أن يتم سؤال الشيوخ مثلى عن هوياتهم، وكذلك النساء.
لاحظت أيضا أنه يتم دفع مبالغ، غير معروف كنهها، من سائق البص لأفراد في هذه الأرتكازات على طول الطريق.
*إرتكازات الدعم السريع :-
داخل ولاية الجزيرة، وابتداءاِ من الخياري إلى كبرى حنتوب، هنالك حوالى (١٥)ارتكازا تخص الدعم السريع، ويتم تفتيش الشباب بذات الطريقة،هوياتهم، تلفوناتهم، شنطهم.
رأيت حالة شاذة واحدة، تمثلت في ضرب شاب، بصوت عنج، ولم أعرف ما السبب؟
وأيضا لا يتم مسآءلة الشيوخ ولا النساء، ولا تفتيشهن، وتم ذلك فقط فى ولاية بورتسودان تحديدا في هيا، فهناك خيمة تابعة للجيش يتم
فيها تفتيش السيدات بواسطة آنسات وسيدات.
لاحظت عندما ركبت الحافلة في القضارف أن سائقها يصر ان يخلص قيمة التذكرة كاملة، فاستنكرتٌ تعسفه، ولكن زال عجبي، اذ في خلال السبع ساعات التي استغرقتها الرحلة، كان سايق الحافلة يدفع في كل ارتكاز، ما بين (٥)ألف الى (١٥)الف جنيه.. سمها ما تسمها(رسوم عبور، تسهيلات، رشوة )
فعذرت السائق الذى كنت قد اتهمته بالتعسف، بل شفقت عليه.
*أهم تفاصيل الرحلة:
نزلت حوالى الساعة ٤م عند كبري حنتوب مما يلي ود مدني، 'قبالة مستشفى القلب' وكان السائق، مشكورا، قد وافق أن يوصل الركاب، معظمهم من النساء إلى كبري البوليس بدلا من حنتوب 'محطة كرونة '
حيث لاتوجد اي وسيلة مواصلات.. فالشوارع خالية من الحركة تماما..إلا من بعض عربات وموأتر ورقشات عساكر الدعم السريع، وهى تجوب الشوارع بسرعة جنونية.
حسمت أمرى وتوجهت سيرا على الأقدام حتى حي القلعة احد إحياء الدباغة، فدخلت منزل الأخ دفع الله موسى والأخت فتحية المبارك ذلك المنزل الذى كان مركز حركة الأخوان الجمهوريين. كنت دائما أجد أمامه عددا من العربات.. أما الزوار ف(ديل داخلين وديل مارقين)أما النُّفَع (فيبردبون)هنا وهناك، فرحين، في نفس الوقت، تسمع أصوات المنشدين عالية فتطرب، فود موسى مثلا ينشد.. (سلام سلام أهيل المدام**
خذوني إليكم فأنتم كرام) او (الثلث يجيك يامريد شمر **ربك يعطيك شرب اب صوبان).والرشيد ينشد(أحسين فى الأبرار والأحرار ما **أزكى شمائله وما أنداها ) والعركي ينادي أب شراـ أو علي العوض ينادي أب صوبان وهكذا.
طرقت الباب الذى كنت لاأجده مغلقا ففتح لى متوجسا الأخ محمد على عبد الرحمن، حيث يسكن هو وزجته فايزة المبارك وابناؤهما، مع الاخت فتحية المبارك اخت زوجته فايزة المبارك بالإضافة للآبنة آمنة القمدانى، فرحب بي، كما رحبن هْنَّ بى أيضا أيما ترحاب.
تأملت المشهد بعد مادخلت المنزل فتساءلت فى نفسى :اين ذهب اؤلئك الشيوخ الذين كانوا يعطون الدار هيبة؟الأستاذ إبراهيم يوسف والأخ عبدالماجد التاي وغيرهما؟!
اين اؤلئك الشباب والشابات الذين كانوا يملؤن الدار حيوية؟
فوردت على خاطري أبيات ابن الفارض..
**قف بالديار وحيى الأربع الدُرُسَا * *
ونادها فعساها أن تجيب عسى**
**وإن اجنَّكَ ليل من توحشها * *فاشعل من الشوق فى ظلمائها قبسا
إلى أن يقول:
**تلك الليالى التى أعددت من عمرى * *
مع الأحبة كانت كلها عُرُسَا
ثم نزلت من تلك الألمامة السماوية، الى واقع الناس فأخذت خبرهم واعطيتهم خبري، وكلاهما مما لا يسر بال
ألحوا عليَّ أن أفطر معهم فطور رمضان، فاعتذرت وسمحوا لي، فواصلت نحو ام سويقو ، سيرا على الأقدام فمررت بضريح ودكنان لحّاق الدركّان، ولايزال السؤال يطرح نفسه: اين ذهب زواره ومريدوه؟؟؟
فحييته وطلبت منه الفزع، أن يفزع الشعب السوداني، فيرفع الحرب ويحل السلام.
مررت بمدرستي الجيلى وزروق، فى الزمن الجميل كان الشارع أمامهما..يعج بالطالبات، حيث المدرسة (تفتح على الشارع والشارع يفتح على القلب) لكن اليوم حل الصمت محل الحركة والحيوية ، صمت الجرس..عن تنبيه ومناداة الطلاب والطالبات، لأن الطلاب أنفسهم تفرقوا ايدى سبأ، أما المعلمون فيبحثون عن مايسد رمق الجوع في مهاجرهم القسرية، فاختفت أصوات الأناشيد.
واصلت المسير إلى أن وصلت قبة ود مدني، مركز الحركة المسائية، فاختفت تلك الحياة التى كانت تموج بها هذه البقعة المباركة وحلَّ محلها سكون موحش انقطع زوار ود مدني عن ضريحه، وخيم الصمت الموحش على زواية الشيخ عبد السيد،حيث كان فيها من(يضرب النوبة ضربا فتئن)، ويدور حوله الدراويش..وهم منتشين بخمرة المحبوب ولسان حالهم يقول..
فرحي يا فرحي يافرحي**
خمرة المحبوب ملء القدح!!!
هذا من الجانب الغربي..لحى ام سويقو، أما من الجانب الشرقى، فهناك اضرحة أب شبكة وأب دواية والسطوحى وسعدابى، حيث تحيط هذه الأضرحة بحي ام سويقو إحاطة السوار بالمعصم
إلا أن المتغير المحزن، فقد صمت ايضا هذا المكان ،فلم نعد نسمع منشدي الأحمدية، يترنمون بقصائدهم المميزة، فيصدحون...
لاتسأل الغرام عن شرح حالى**فالهوى قاتلى على كل حال
ياعذولى كُفَّ عن الملامة**فإنى عن من أحب لست بسالى**
هو فى القلب ساكن ومقيم **ليس للغير موضع فيه خالى * *
ثم تقفز في ذهنك صورة فى الجانب الآخر حيث تدور عربة العريس أمام قبة سعدابى، والبنات ينادينه (يا يابا سعدابى الفوقو الشدر كابي) وانا فى هذه الحالة الوجدانية دخلت منزل نسيبى الأخ عثمان حسن عثمان
فتفاجأ بمقدمى فى هذه الظروف الأمنية الإستثنائية، وإنعدام المواصلات فرحب بى هو وزوجته واطفالهما، ثم خرجنا بفطورنا (للضرا) كما يسميه اهلنا فى الصعيد، وفي غرب السودان. تناولنا الفطور وصلينا المغرب فى الجماعة، ثم رجعنا للمنزل جلست معهم مجلسا قصيرا ثم استأذنتهم وخرجت بشارع النيل..قاصدا الحي السوداني فلما وصلت المدرسة الأميرية، قابلني عسكري من الدعم السريع فارجعني بحجة حظر التجول. فقلت له:حظر التجول فى رمضان أخروه حتى الساعة ١٠ م فى مدن السودان الأخرى، فقال لى :نحن هنا ما أخرناه فرجعت، وقضيت ليلتي في ام سويقو فكانت بفضل الله طيبة مباركة.
فى الصباح ودعت عثمان واسرته وخرجت الساعة ٧صباحا فمريت بنفس الإرتكاز الذى أرجعنى الليلة البارحة، فاستوقفنى قائد الارتكاز وسألنى ماش وين؟ فاجبته : ماشى إلى الحي السوداني
ماشى ليه ؟ داير ازور بروف عصام البوشي، فهو عيان شفاه الشافى.اتفضل لكن ما تمشى بشارع النيل أمشى بالشارع الداخلى
تحركت فكحلت شارع النيل الذى كان، قبل الأحداث، يعج بالشباب مبتهجين فى الكافتريات والمطاعم والكازينوهات، يمارسون حياتهم، فرحين يستمعون إلى مختلف الأغاني، والأناشيد الوطنية
مثل قصيدة العطبراوي:
أيها الناس نحن من نفر***عمر الأرض حيثما قطنوا
يُذكَرُ المجد كلما ذُكِرُوا وهو يعتز
حين يقترن)**
رأيت شارع النيل هذه المرة عابسا وقد غابت عنه تلك المشاهد الجمالية وحلت محلها وحشة وتَوَجُس وخوف.
دخلت بشارع داخلي ،تركت جامع الحكومة يساري وسرت حتى السينما الوطنية، فرق شاسع بينها اليوم ٢٠٢٤/٣/١٢م واول يوم دخلتها فى ذلك الزمن الجميل عام ١٩٦٣م عندما جئنا ود مدني ونحن طلاب في مدرسة أبى عشر الوسطى، فعسكرنا أسبوعاً، بالتمام والكمال، فى غابة ام بارونة، وفيها طبقنا كل فنون الكشافة، كما قمنا برحلات علمية لبركات حيث رئاسة مشروع الجزيرة، ومارنجان حيث محالج القطن...الخ
كلها أصبحت اليوم ينعق فيها ألبوم!!!
(سبحان مغير الاحوال )(اللهم لاتسلط علينا بذنوبنا من لايخافك ولايرحمنا )قال أهلنا الحلفاويين الظرفاء
:(هو من ناحية سلت سلت نسأله التهفيف).
من السينما الوطنية بذات الشارع الداخلي حتى يتقاطع مع شارع مواصلات دردق موقف السوق الكبير، ومنه الى صينية وزارة المالية.طوال هذه الرحلة..لم التق إلا بمواطنين ، صاحب كارو وراكب واحد معه، ولكن هناك عشرات العربات المحروقة، وعشرات الدكاكين المنهوبة!!!
أما عندما دخلت شارع آل البوشي، وهو نفس الشارع الذى انتقل إليه السجل المدني والجوازات مؤخرا، فأصبح أكثر شوارع ود مدني إزدحاما على الإطلاق ، أما اليوم فينعق فيه البوم..ايضا!!!
رجعت بالذاكرة خمسة وخمسين عاماً للوراء ،عندما دخلته لأول مرة حيث منزل الوالد المغفور له عبد الرحمن البوشى، حينها كانت تنعقد فيه، جلسات ومؤتمرات الحزب الجمهوري، كما تقام ايضا فى منزل جاره الاخ المغفور له عثمان ابو بكر رجب الشوربجي.
وصلت المنزل فطرقت الباب..فَفُتِحَ لى..دخلت على بروف عصام البوشى واسرته فرحبوا بى، وتجمعوا حولى، زوجته الأخت سلمى مجذوب ،و إبنته وفاء وأخواته، علوية وعطيات وأخوه عادل, ونسيبه د.معتصم عبد الله محمود.. استمر مجلسى معهم ساعة،تناولنا فيها اخبار مجتمعنا..كما تناولنا القضايا العامة.. فكانت آراؤنا قريب من قريب
ودعتهم وتحركت راجلا بنفس الشارع، شارع الأشباح..فلم يتغير المشهد إلا بعد أن تجاوزت جامع الحكومة، ودخلت حي المدنيين..فبدات حركة المواطنين خجولة ، واللافت للنظر أن حركة النساء فى الشارع اكثر من حركة الرجال !!وفى حركة الرجال ،حركة الشيوخ أكثر من حركة الشباب !!!
نواصل...
abdalla.baboo@gmail.com