قراءة في رسائل طبيب بريطاني بالخرطوم لابنته في لندن في منتصف القرن الماضي
د. خالد محمد فرح
23 December, 2024
23 December, 2024
د. خالد محمد فرح
نشر البروفيسور بدر الدين الهاشمي مؤخراً، ترجمة الى العربية لنص سردي، هو في الواقع قصة قصيرة جديدة من تاليف الكاتبة الروائية والقاصة ليلى ابو العلا، جاءت في نصها الاصلي بالانجليزية بعنوان؛، Doctor on the Nile ، بينما آثر الدكتور الهاشمي ترجمة العنوان ب " طبيب على ضفاف النيل ".
وقد نوه البروفيسور قبل ان يدلف الى ترجمة ذلك العمل السردي، الى ان هذه القصة القصيرة الجديدة لليلى ابو العلا، سوف تكون من ضمن قصص قصيرة ونصوص أخرى، ستجمع في كتاب من المنتظر ان يصدر في العام القادم ان شاء الله.
يتكون هيكل هذه القصة القصيرة من أربع رسائل خطية، ارسلها في مطلع خمسينيات القرن الماضي، طبيب ومحاضر بمدرسة كتشنر الطبية بالخرطوم، بريطاني الجنسية من اسكتلندا تحديداً ، يسمى " أندرو ماكولوخ "، الى ابنته " ماريون "، الشابة والطالبة بالسنة الاولى بمدرسة الدراسات الشرقية والافريقية بجامعة لندن، يعبر لها فيها عن اشتياقه الشديد اليها، واعتزازه وفخره بها لمًا تتحلى به من الذكاء والفطنة وقوة الشخصية والذوق الفني والادبي الرفيع، ويحكي لها طرفا من ذكريات طفولتها في السودان، ويشكو اليها ما كان يحز في نفسه من الام وتباريح ممضّة ، من جراء وفاة زوجته ووالدة ابنته ماريون قبل فترة قصيرة بالخرطوم نفسها فيما يبدو، ويحكي لها فيها عن طرف من حياته الاجتماعية، والسبل والوسائل التي اهتدى اليها من اجل تزجية اوقات فراغه والهاء نفسه ، حتى يتغلب على آلام حزنه على فقدان زوجته وهو في بلد غريب.
تبدأ القصة مع الرسالة الاولى التي يرسلها الدكتور ماكولوخ الى ابنته ماريون مع شاب سوداني مبتعث للدراسات العليا بانجلترا اسمه " مكاوي إسماعيل "" كان قد التقى به في منزل صديق سوداني مشترك يسمى " محمود ابو زيد "، هو الذي عرفه به، واقترح عليه ان يحمله تلك الرسالة الاولى التي تظهر في القصة لابنته.
جاءت تلك الرسالةً طافحةً بمخايل حزن الدكتور ماكولوخ واساه العميق على فقدانه منذ فترة قصيرة لزوجته أيديث، ومفعمة بمشاعر الشوق والحنين لابنته، ومعبرا عن تلهفه لزيارتها له في الخرطوم لقضاء عطلتي عيد الميلاد ورأس السنة معه، ويقترح عليها في ختام الرسالة، اضمن وسائل السفر واسرعها ، واكثرها امنا لسلامتها الشخصية.
وفي هذه الرسالة كما في الرسالتين التاليتين لها، يعرض هذا الطبيب والاستاذ الجامعي البريطاني عرضاً، لجملة من الوقائع والاحداث، ويدلي يطائفة من الافكار والاراء التي تعكس وتجسد بصورة واقعية مذهلة، كثيرا من مظاهر التاريخ الاجتماعي والثقافي بل والسياسي في نهاية المطاف للسودان في تلك الحقبة التي كانت قد شهدت سلفاً ظهور الاحزاب السياسية منذ منتصف اربعينيات ذات القرن، وانخراطها بداب ونشاط في النضال من اجل ان ينال السودان استقلاله من الاستعمار البريطاني.
أما الرسالة الرابعة والاخيرة التي يتالف منها هيكل القصة، فهي اقصر تلك الرسائل نصاً اذ انها لا تتجاوز الاربعة اسطر طولاً، كما أنها أكثرهن اثارة وشحناً وتوتراً، اذ يفهم القارئ منها صمناً، ان الشابة ماريون ابنة الطبيب البريطاني، قد ارتبطت بالشاب السوداني المبتعث في علاقة عاطفية دون ان يقال لنا ذلك صراحةً ، مما سبب قلقاً وتوتراً لدى الدكتور ماكولوخ، على الرغم من اننا نعرف من خلال السرد القصصي الذي اتخذ من تلك الرسائل مجرد أوعية او ادوات لنقل التداعي السردي، انه رجل اقرب الى ان يكون علمانيا ، وذا ذهنية متفتحة وغير متعصب دينيا الخ ..
وكانت مؤلفة القصة قد هيأتنا ضمنا من خلال السرد، لتوقع ذلك التطور في العلاقة بين المبتعث السوداني مكاوي اسماعيل، والطالبة البريطانية ماريون ماكولوخ، وذلك عندما جعلت والدها يلاحظ في اكثر من موضع من رسائله لابنته، أنها تكثر الحديث في خطاباته إليه، عن ذلك الشاب السوداني.
لقد استوقفتني في الواقع، ذلك السرد والتناول الذي بدا لي عفويا للاحداث من خلال هذا العمل القصصي والتخييلي في الاساس، وذلك لجهة واقعيته الشديدة وامانته الملحوظة في عكس الصورة العامة لروح تلك الحقبة من تاريخ السودان ومجرياتها عموما. ولذلك فقد أحببت ان ادندن بهذه الكلمة حول مظاهر واقعية هذه القصة القصيرة اللطيفة لليلى ابو العلا، كالعهد بأعمالها الابداعية دائما.
وفي الواقع انني عندما قرات مسودة ترجمة هذا العمل لاول مرة، عندما ارسلها الي المترجم الاخ الصديق بروفيسور الهاشمي، قبل ان يدفع بها للنشر، حسبت لفرط واقعيتها انها رسائل حقيقية ارسلها رجل بريطاني ، كان يقيم ويعمل في السودان في اواخر سني فترة الحكم الثنائي، الى ابنته الوحيدة ويتيمة الأم التي كانت تقيم بعيدا عنه في لندن، حيث كانت تتابع دراستها الجامعية هناك، ولم يخطر ببالي مطلقا انها مجرد قصة قصيرة من وحي الخيال فقط. وقد تولد لدي انطباع بان رسائل الدكتور ماكولوخ لابنته ماريون، شبيهة الى حد ما، على سبيل المثال، بالرسائل التي كان يبعثها الجنرال غوردون باشا الى شقيقته في بريطانيا، وهو محاصر حصاراً محكماً من قبل جحافل قوات الامام المهدي طوال عام 1884م ، ومطلع عام 1885م الذي شهد يوم 26 يناير منه، سقوط الخرطوم في ايدي انصار المهدي، ومصرع غردون نفسه في ذلك اليوم الرهيب.
نلمح بوضوح منذ مطلع القصة، أو في بداية الرسالة الاولى، مظهراً لافتاً من مظاهر قيام ليلى ابو العلاء باستدعاء احدى الشخصيات الاساسية في روايتها " حارة المغنى "، هي شخصية رجل الاعمال والمجتمع " محمود ابو زيد "، الذي هو والد " نور " بطل تلك الرواية، او قناع الشاعر الغنائي " حسن عوض أبو العلا " في الحقيقة، كما وفر عند سائر النقاد وعموم القراء بصفة عامة. وفي هذه القصة، يُجاء بمحمود ابو زيد بوصفه صديقاً للدكتور ماكولوخ ، ومريضا يتعالج تحت اشرافه من داء السكر. وهو الذي اقترح على الدكتور ماكولوخ ان يحمّل رسالته لابنته ببريطانيا، للشاب السوداني مكاوي اسماعيل، الذي تصادف ان كان موجودا في منزل محمود ابو زيد عندما زاره ذلك الطبيب.
فهل نحن على موعد مع احتمال قيام ليلى ابو العلا ، باعادة تدوير شخصيات روايتها " حارة المغنى " في اعمال اخرى لاحقة، على نحو ما صنع الطيب صالح في معظم رواياته مع طائفة من شخصيات قرية ود حامد، وخصوصا جماعة " شلة محجوب " مثلا ؟.
تصادفنا واقعية هذه القصة كذلك، عندما تشير الى ان مبرر تفضيل الدكتور ماكولوخ ارسال خطابه لابنته مع الشاب السوداني مكاوي اسماعيل، عوضا عن ارساله عن طريق البريد، هو خشيته ان يتاخر في الوصول اليها، بسبب اضراب عن العمل، دخل فيه عمال مصلحة السكة حديد في تلك الحقبة.
وفي حقيقة الامر ، شهدت فترة اواخر الاربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين في السودان، نشاطاً نقابيا جماً، واحتجاجات واضرابات قوية، في اطار النضال الوطني المناهض للاستعمار، شنتها قيادات عمال السكك الحديدية في مدينة عطبرة تحت زعامة شخصيات معروفة مثل قاسم امين، والشفيع احمد الشيخ وغيرهما.
كذلك تشير القصة الى عملية " السودنة " في تلك الفترة من تاريخ السودان المعاصر، الا وهي عملية احلال الكوادر السودانية محل المسؤولين والموظفين البريطانيين والمصريين في مختلف المهن والوظائف.
وبهذه المناسبة، تصور القصة نظرة الدكتور ماكولوخ لطلابه بمدرسة كتشنر الطبية، وما وصفه بتلهفهم بشغف، لكي يشغلوا الوظائف التي ستفرغ بعد مغادرة الانجليز، كما تصور تبرمه مما وصفه بانعدام اللياقة عند اولئك الطلاب السودانيين، وذلك فيما يبدو، لمجرد انهم قد طالبوا بتغيير اسم مؤسستهم الاستعماري الدلالة " مدرسة كتشنر الطبية "، وكذلك تغيير اسم " كلية غوردون التذكارية " نفسها التي سوف تصير جامعة الخرطوم فيما بعد.
الواقع هو انه قد تم لاولئك الطلاب ما ارادوا، بعد احتجاجهم ذاك بفترة وجيزة. ذلك بان كلية غوردون التذكارية صار اسمها هو: كلية الخرطوم الجامعية ابداءً منذ عام 1951م، بينما صارت مدرسة كتشنر الطبية هي كلية الطب.
يعرض الدكتور ماكولوخ في احدى رسائله لابنته، الى موضوع دور الانجليز في نشر الشيوعية في السودان، واجتهاد سلطات الادارة الاستعمارية لمناهضة ذلك الدور. وهذه لعمري هي احد مظاهر واقعية هذه القصة. ذلك بان دور الضباط والعساكر وربما الاساتذة والاداريين الانجليز في التبشير بالعقيدة الشيوعية في السودان، مما اشارت له عدد من المصادر التي تناولت تاريخ الفكر الماركسي والممارسة الشيوعيه في البلاد، وكثيرا ما يشار الى دور موثر قام به جندي او ضابط صف انجليزي يسمى " استوري " في هذا الخصوص، في الادبيات التي تطرقت لهذا الموضوع.
استوقفني في القصة اعجاب البروفيسور روجر استيفنسون رئيس الدكتور ماكولوخ في العمل هو وزوجته بمعمار الخرطوم، وخصوصا بحدائقها ومصفحاتها الخضراء، فقلت في نفسي متحسراً، واين هذه المسطحات الخضراء والحدائق في عاصمة بلادنا ، حتى من قبل اندلاع هذه الحرب التي احالتها الى كومة من الرماد ؟ . وقد كنت اتساءل دائما: لماذا لا يحول ميدان ابو جنزير الذي هو في قلب الحي التجاري بالخرطوم تماما الى حديقة غناء ؟. كان ذلك من شانه ان يصنع فارقاً في المشهد العمراني والحضري والبيئي للمدينة.
من اللفتات الطريفة ذات الصلة بالتاريخ الاجتماعي لمدينة الخرطوم في العهد الاستعماري التي وردت في هذه القصة، ان حي المقرن كان يعرف بين افراد الجاليات الاوروبية بانه حي " البيض الفقراء "، والمقصود بذلك هم صنوف الاغريق والارمن ، وربما بعض اليهود الشرقيين ومسيحيي بلاد الشام الذين يعرفون بالشوام ومن اليهم، في الوقت الذي كان فيه البيض الاغنياء وعلى راسهم الانجليز بالطبع، يسكنون في احياء الخرطوم شرق والخرطوم واحد والخرطوم اثنين الراقية، اذ لم يكن حي العمارات او امتداد الدرجة الاولى قد ظهر بعد، لان قيامه يؤرخ له كما بلغنا، بفترة حكومة الفريق ابراهيم عبود 1958 - 1964م.
اما الاغريقية " خريستو " الخياطة، صديقة عائلة الدكتور ماكولوخ، واحدى سكان حي المقرن آنئذ، والتي حزنت وجزعت اشد الجزع عندما اعلمها هذا الاخير بوفاة زوجته، التي يبدو انها كانت احدى زبوناتها الأثيرات، فلعلها تذكر المرء ببيت الخياطة الذي خلده الشاعر احمد محمد الشيخ " الجاغريو ". في اغنيته " سميري المرسوم في ضميري "، وهو قوله الذي صدح به الفنان الكبير العميد احمد المصطفى:
أهاجر ليها حافي وازور بيت الخياطة
هذا، ويبدو ان مسرح غراميات الجاغريو، على الاقل من وحي ما يرد في هذه الاغنية بالذات، قد كان هو الخرطوم عموم بالتحديد.
ومرة أخرى، تأبى ليلى ابو العلا إلا ان تضع بصمة اسكوتلندية الطابع على عملها الابداعي هذا، تأثراً منها بثقافة اسكوتلندا، وولاء منها لذلك الجزء من المملكة المتحدة الذي عاشت فيه طويلا واحبته، وفيه تفتحت عبقريتها، ومنه انطلقت مسيرتها الابداعية.
كنا قد لمسنا ذلك في الواقع في روايتها " روح النهر العتيق ". وهنا في هذه القصة القصيرة، تستوقفنا ملاحظة الدكتور ماكولوخ التي هي ملاحظة الكاتبة نفسها في الواقع، عن الحضور الكبير نسبيا والملحوظ للاسكتلنديين عموما في السودان، وعلى راسهم كل من الجنرال غوردون باشا واللورد كتشنر باشا على التوالي.
وفي ذات الاطار، توقفنا ليلى ابو العلا من احدى رسائل الدكتور ماكولوخ ، على مصطلح وثيق الصلة بالثقافة الاسكتلندية هو مصطلح " الهوقمانيه " Hogmanay الاسكوتلندي الصميم، الذي معناه الليلة الاخيرة من العام المودع، او ليلة رأس السنة.
ذكر صنف الشاي المسمى " أيرل قراى " الذي كان بحبه الدكتور ماكولوخ، وانطلاقاً من ذلك لحقيقة حب الانجليز عموماً لشرب الشاي، لعله يعيد الى اذهاننا تقليدا اجتماعيا وثقافياً تعلمه السودانيون في اجيالهم السابقة منهم، الا وهي حفلات الشاي، التي درج الناس في السابق على اقامتها داخل البيوت والمؤسسات والاندية والمدارس، ولكنها انحسرت كثيرا خلال العقود القليلة الماضية، واقتصرت ربما فقط على حفلات التعارف الاسري السابق للخطوبة التي تتم عادة داخل منزل اهل المخطوبة، ذلك التعارف الذي كثيرا ما يتحول الى خطوبة رسمية، بل احيانا الى عقد قران قولا واحدا.
تطرق الدكتور ماكولوخ في احدى رسائله الى ابنته الى عادة الخفاض الفرعوني الذميمة، وقد ذكر لها حادثة شهدها هو بنفسه، عندما قدم اليهم رجل مستنير بحمل طفلته ذات الست سنوات، وهي في حالة حرجة من جراء عملية ختان بشعة تعرضت لها.
وقد أشار الدكتور ماكولوخ في ذات السياق الى موقف الحزب الجمهوري برئاسة المهندس محمود محمد طه، الذي عارض قرار سلطات الادارة الاستعمارية البريطانية القاضية بحظر ممارسة ختان البنات وتجريمه، بحجة انه لا يحق للبريطانيين التدخل في تقاليد السودانيين وممارساتهم الخاصة كما جاء في الرسالة المغنية. ولكن ادبيات الجمهوريين عموما حول هذا الموضوع، تشير الى ان وجه الاعتراض الحقيقي لرئيس الحزب الجمهوري على قرار منع الخفاض هو انه يظهر السودانيين بمظهر الشعب المتخلف وغير الراشد، الذي لا يستحق الحرية والاستقلال عن الانجليز.
اما الرسالة الرابعة والاخيرة للدكتور ماكولوخ لابنته ماريون، فقد جاءت قصيرة ومقتضبة للغاية ومتوترة كما ذكرنا من قبل، ومن خلالها نستطيع ان نستشف ان الشابة ماريون ابنة الدكتور ماكولوخ قد عقدت العزم على الارتباط بالشاب السوداني " مكاوي اسماعيل "، ويبدو ان موقف ماريون قد فاجأ والدها بل أطار صوابه، فكتب لها ما نصه:
" فرغت للتو من قراءة خطابك. ولا أكاد أصدق ما سطرته فيه. أفقدت عقلك تماما ؟. بالطبع لا تعني عبارة ( أحضري صديقاً ) إحضار رجل. وبالتأكيد ليس رحلاً سودانيا !. ألا تعرفين طباع جدك وجدتك ؟. من قبل لم يوافقا على ارتباطي بوالدتك الراحلة ؟ بل كانا يؤمنان بأنني لست كفؤاً لها".
نشر البروفيسور بدر الدين الهاشمي مؤخراً، ترجمة الى العربية لنص سردي، هو في الواقع قصة قصيرة جديدة من تاليف الكاتبة الروائية والقاصة ليلى ابو العلا، جاءت في نصها الاصلي بالانجليزية بعنوان؛، Doctor on the Nile ، بينما آثر الدكتور الهاشمي ترجمة العنوان ب " طبيب على ضفاف النيل ".
وقد نوه البروفيسور قبل ان يدلف الى ترجمة ذلك العمل السردي، الى ان هذه القصة القصيرة الجديدة لليلى ابو العلا، سوف تكون من ضمن قصص قصيرة ونصوص أخرى، ستجمع في كتاب من المنتظر ان يصدر في العام القادم ان شاء الله.
يتكون هيكل هذه القصة القصيرة من أربع رسائل خطية، ارسلها في مطلع خمسينيات القرن الماضي، طبيب ومحاضر بمدرسة كتشنر الطبية بالخرطوم، بريطاني الجنسية من اسكتلندا تحديداً ، يسمى " أندرو ماكولوخ "، الى ابنته " ماريون "، الشابة والطالبة بالسنة الاولى بمدرسة الدراسات الشرقية والافريقية بجامعة لندن، يعبر لها فيها عن اشتياقه الشديد اليها، واعتزازه وفخره بها لمًا تتحلى به من الذكاء والفطنة وقوة الشخصية والذوق الفني والادبي الرفيع، ويحكي لها طرفا من ذكريات طفولتها في السودان، ويشكو اليها ما كان يحز في نفسه من الام وتباريح ممضّة ، من جراء وفاة زوجته ووالدة ابنته ماريون قبل فترة قصيرة بالخرطوم نفسها فيما يبدو، ويحكي لها فيها عن طرف من حياته الاجتماعية، والسبل والوسائل التي اهتدى اليها من اجل تزجية اوقات فراغه والهاء نفسه ، حتى يتغلب على آلام حزنه على فقدان زوجته وهو في بلد غريب.
تبدأ القصة مع الرسالة الاولى التي يرسلها الدكتور ماكولوخ الى ابنته ماريون مع شاب سوداني مبتعث للدراسات العليا بانجلترا اسمه " مكاوي إسماعيل "" كان قد التقى به في منزل صديق سوداني مشترك يسمى " محمود ابو زيد "، هو الذي عرفه به، واقترح عليه ان يحمله تلك الرسالة الاولى التي تظهر في القصة لابنته.
جاءت تلك الرسالةً طافحةً بمخايل حزن الدكتور ماكولوخ واساه العميق على فقدانه منذ فترة قصيرة لزوجته أيديث، ومفعمة بمشاعر الشوق والحنين لابنته، ومعبرا عن تلهفه لزيارتها له في الخرطوم لقضاء عطلتي عيد الميلاد ورأس السنة معه، ويقترح عليها في ختام الرسالة، اضمن وسائل السفر واسرعها ، واكثرها امنا لسلامتها الشخصية.
وفي هذه الرسالة كما في الرسالتين التاليتين لها، يعرض هذا الطبيب والاستاذ الجامعي البريطاني عرضاً، لجملة من الوقائع والاحداث، ويدلي يطائفة من الافكار والاراء التي تعكس وتجسد بصورة واقعية مذهلة، كثيرا من مظاهر التاريخ الاجتماعي والثقافي بل والسياسي في نهاية المطاف للسودان في تلك الحقبة التي كانت قد شهدت سلفاً ظهور الاحزاب السياسية منذ منتصف اربعينيات ذات القرن، وانخراطها بداب ونشاط في النضال من اجل ان ينال السودان استقلاله من الاستعمار البريطاني.
أما الرسالة الرابعة والاخيرة التي يتالف منها هيكل القصة، فهي اقصر تلك الرسائل نصاً اذ انها لا تتجاوز الاربعة اسطر طولاً، كما أنها أكثرهن اثارة وشحناً وتوتراً، اذ يفهم القارئ منها صمناً، ان الشابة ماريون ابنة الطبيب البريطاني، قد ارتبطت بالشاب السوداني المبتعث في علاقة عاطفية دون ان يقال لنا ذلك صراحةً ، مما سبب قلقاً وتوتراً لدى الدكتور ماكولوخ، على الرغم من اننا نعرف من خلال السرد القصصي الذي اتخذ من تلك الرسائل مجرد أوعية او ادوات لنقل التداعي السردي، انه رجل اقرب الى ان يكون علمانيا ، وذا ذهنية متفتحة وغير متعصب دينيا الخ ..
وكانت مؤلفة القصة قد هيأتنا ضمنا من خلال السرد، لتوقع ذلك التطور في العلاقة بين المبتعث السوداني مكاوي اسماعيل، والطالبة البريطانية ماريون ماكولوخ، وذلك عندما جعلت والدها يلاحظ في اكثر من موضع من رسائله لابنته، أنها تكثر الحديث في خطاباته إليه، عن ذلك الشاب السوداني.
لقد استوقفتني في الواقع، ذلك السرد والتناول الذي بدا لي عفويا للاحداث من خلال هذا العمل القصصي والتخييلي في الاساس، وذلك لجهة واقعيته الشديدة وامانته الملحوظة في عكس الصورة العامة لروح تلك الحقبة من تاريخ السودان ومجرياتها عموما. ولذلك فقد أحببت ان ادندن بهذه الكلمة حول مظاهر واقعية هذه القصة القصيرة اللطيفة لليلى ابو العلا، كالعهد بأعمالها الابداعية دائما.
وفي الواقع انني عندما قرات مسودة ترجمة هذا العمل لاول مرة، عندما ارسلها الي المترجم الاخ الصديق بروفيسور الهاشمي، قبل ان يدفع بها للنشر، حسبت لفرط واقعيتها انها رسائل حقيقية ارسلها رجل بريطاني ، كان يقيم ويعمل في السودان في اواخر سني فترة الحكم الثنائي، الى ابنته الوحيدة ويتيمة الأم التي كانت تقيم بعيدا عنه في لندن، حيث كانت تتابع دراستها الجامعية هناك، ولم يخطر ببالي مطلقا انها مجرد قصة قصيرة من وحي الخيال فقط. وقد تولد لدي انطباع بان رسائل الدكتور ماكولوخ لابنته ماريون، شبيهة الى حد ما، على سبيل المثال، بالرسائل التي كان يبعثها الجنرال غوردون باشا الى شقيقته في بريطانيا، وهو محاصر حصاراً محكماً من قبل جحافل قوات الامام المهدي طوال عام 1884م ، ومطلع عام 1885م الذي شهد يوم 26 يناير منه، سقوط الخرطوم في ايدي انصار المهدي، ومصرع غردون نفسه في ذلك اليوم الرهيب.
نلمح بوضوح منذ مطلع القصة، أو في بداية الرسالة الاولى، مظهراً لافتاً من مظاهر قيام ليلى ابو العلاء باستدعاء احدى الشخصيات الاساسية في روايتها " حارة المغنى "، هي شخصية رجل الاعمال والمجتمع " محمود ابو زيد "، الذي هو والد " نور " بطل تلك الرواية، او قناع الشاعر الغنائي " حسن عوض أبو العلا " في الحقيقة، كما وفر عند سائر النقاد وعموم القراء بصفة عامة. وفي هذه القصة، يُجاء بمحمود ابو زيد بوصفه صديقاً للدكتور ماكولوخ ، ومريضا يتعالج تحت اشرافه من داء السكر. وهو الذي اقترح على الدكتور ماكولوخ ان يحمّل رسالته لابنته ببريطانيا، للشاب السوداني مكاوي اسماعيل، الذي تصادف ان كان موجودا في منزل محمود ابو زيد عندما زاره ذلك الطبيب.
فهل نحن على موعد مع احتمال قيام ليلى ابو العلا ، باعادة تدوير شخصيات روايتها " حارة المغنى " في اعمال اخرى لاحقة، على نحو ما صنع الطيب صالح في معظم رواياته مع طائفة من شخصيات قرية ود حامد، وخصوصا جماعة " شلة محجوب " مثلا ؟.
تصادفنا واقعية هذه القصة كذلك، عندما تشير الى ان مبرر تفضيل الدكتور ماكولوخ ارسال خطابه لابنته مع الشاب السوداني مكاوي اسماعيل، عوضا عن ارساله عن طريق البريد، هو خشيته ان يتاخر في الوصول اليها، بسبب اضراب عن العمل، دخل فيه عمال مصلحة السكة حديد في تلك الحقبة.
وفي حقيقة الامر ، شهدت فترة اواخر الاربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين في السودان، نشاطاً نقابيا جماً، واحتجاجات واضرابات قوية، في اطار النضال الوطني المناهض للاستعمار، شنتها قيادات عمال السكك الحديدية في مدينة عطبرة تحت زعامة شخصيات معروفة مثل قاسم امين، والشفيع احمد الشيخ وغيرهما.
كذلك تشير القصة الى عملية " السودنة " في تلك الفترة من تاريخ السودان المعاصر، الا وهي عملية احلال الكوادر السودانية محل المسؤولين والموظفين البريطانيين والمصريين في مختلف المهن والوظائف.
وبهذه المناسبة، تصور القصة نظرة الدكتور ماكولوخ لطلابه بمدرسة كتشنر الطبية، وما وصفه بتلهفهم بشغف، لكي يشغلوا الوظائف التي ستفرغ بعد مغادرة الانجليز، كما تصور تبرمه مما وصفه بانعدام اللياقة عند اولئك الطلاب السودانيين، وذلك فيما يبدو، لمجرد انهم قد طالبوا بتغيير اسم مؤسستهم الاستعماري الدلالة " مدرسة كتشنر الطبية "، وكذلك تغيير اسم " كلية غوردون التذكارية " نفسها التي سوف تصير جامعة الخرطوم فيما بعد.
الواقع هو انه قد تم لاولئك الطلاب ما ارادوا، بعد احتجاجهم ذاك بفترة وجيزة. ذلك بان كلية غوردون التذكارية صار اسمها هو: كلية الخرطوم الجامعية ابداءً منذ عام 1951م، بينما صارت مدرسة كتشنر الطبية هي كلية الطب.
يعرض الدكتور ماكولوخ في احدى رسائله لابنته، الى موضوع دور الانجليز في نشر الشيوعية في السودان، واجتهاد سلطات الادارة الاستعمارية لمناهضة ذلك الدور. وهذه لعمري هي احد مظاهر واقعية هذه القصة. ذلك بان دور الضباط والعساكر وربما الاساتذة والاداريين الانجليز في التبشير بالعقيدة الشيوعية في السودان، مما اشارت له عدد من المصادر التي تناولت تاريخ الفكر الماركسي والممارسة الشيوعيه في البلاد، وكثيرا ما يشار الى دور موثر قام به جندي او ضابط صف انجليزي يسمى " استوري " في هذا الخصوص، في الادبيات التي تطرقت لهذا الموضوع.
استوقفني في القصة اعجاب البروفيسور روجر استيفنسون رئيس الدكتور ماكولوخ في العمل هو وزوجته بمعمار الخرطوم، وخصوصا بحدائقها ومصفحاتها الخضراء، فقلت في نفسي متحسراً، واين هذه المسطحات الخضراء والحدائق في عاصمة بلادنا ، حتى من قبل اندلاع هذه الحرب التي احالتها الى كومة من الرماد ؟ . وقد كنت اتساءل دائما: لماذا لا يحول ميدان ابو جنزير الذي هو في قلب الحي التجاري بالخرطوم تماما الى حديقة غناء ؟. كان ذلك من شانه ان يصنع فارقاً في المشهد العمراني والحضري والبيئي للمدينة.
من اللفتات الطريفة ذات الصلة بالتاريخ الاجتماعي لمدينة الخرطوم في العهد الاستعماري التي وردت في هذه القصة، ان حي المقرن كان يعرف بين افراد الجاليات الاوروبية بانه حي " البيض الفقراء "، والمقصود بذلك هم صنوف الاغريق والارمن ، وربما بعض اليهود الشرقيين ومسيحيي بلاد الشام الذين يعرفون بالشوام ومن اليهم، في الوقت الذي كان فيه البيض الاغنياء وعلى راسهم الانجليز بالطبع، يسكنون في احياء الخرطوم شرق والخرطوم واحد والخرطوم اثنين الراقية، اذ لم يكن حي العمارات او امتداد الدرجة الاولى قد ظهر بعد، لان قيامه يؤرخ له كما بلغنا، بفترة حكومة الفريق ابراهيم عبود 1958 - 1964م.
اما الاغريقية " خريستو " الخياطة، صديقة عائلة الدكتور ماكولوخ، واحدى سكان حي المقرن آنئذ، والتي حزنت وجزعت اشد الجزع عندما اعلمها هذا الاخير بوفاة زوجته، التي يبدو انها كانت احدى زبوناتها الأثيرات، فلعلها تذكر المرء ببيت الخياطة الذي خلده الشاعر احمد محمد الشيخ " الجاغريو ". في اغنيته " سميري المرسوم في ضميري "، وهو قوله الذي صدح به الفنان الكبير العميد احمد المصطفى:
أهاجر ليها حافي وازور بيت الخياطة
هذا، ويبدو ان مسرح غراميات الجاغريو، على الاقل من وحي ما يرد في هذه الاغنية بالذات، قد كان هو الخرطوم عموم بالتحديد.
ومرة أخرى، تأبى ليلى ابو العلا إلا ان تضع بصمة اسكوتلندية الطابع على عملها الابداعي هذا، تأثراً منها بثقافة اسكوتلندا، وولاء منها لذلك الجزء من المملكة المتحدة الذي عاشت فيه طويلا واحبته، وفيه تفتحت عبقريتها، ومنه انطلقت مسيرتها الابداعية.
كنا قد لمسنا ذلك في الواقع في روايتها " روح النهر العتيق ". وهنا في هذه القصة القصيرة، تستوقفنا ملاحظة الدكتور ماكولوخ التي هي ملاحظة الكاتبة نفسها في الواقع، عن الحضور الكبير نسبيا والملحوظ للاسكتلنديين عموما في السودان، وعلى راسهم كل من الجنرال غوردون باشا واللورد كتشنر باشا على التوالي.
وفي ذات الاطار، توقفنا ليلى ابو العلا من احدى رسائل الدكتور ماكولوخ ، على مصطلح وثيق الصلة بالثقافة الاسكتلندية هو مصطلح " الهوقمانيه " Hogmanay الاسكوتلندي الصميم، الذي معناه الليلة الاخيرة من العام المودع، او ليلة رأس السنة.
ذكر صنف الشاي المسمى " أيرل قراى " الذي كان بحبه الدكتور ماكولوخ، وانطلاقاً من ذلك لحقيقة حب الانجليز عموماً لشرب الشاي، لعله يعيد الى اذهاننا تقليدا اجتماعيا وثقافياً تعلمه السودانيون في اجيالهم السابقة منهم، الا وهي حفلات الشاي، التي درج الناس في السابق على اقامتها داخل البيوت والمؤسسات والاندية والمدارس، ولكنها انحسرت كثيرا خلال العقود القليلة الماضية، واقتصرت ربما فقط على حفلات التعارف الاسري السابق للخطوبة التي تتم عادة داخل منزل اهل المخطوبة، ذلك التعارف الذي كثيرا ما يتحول الى خطوبة رسمية، بل احيانا الى عقد قران قولا واحدا.
تطرق الدكتور ماكولوخ في احدى رسائله الى ابنته الى عادة الخفاض الفرعوني الذميمة، وقد ذكر لها حادثة شهدها هو بنفسه، عندما قدم اليهم رجل مستنير بحمل طفلته ذات الست سنوات، وهي في حالة حرجة من جراء عملية ختان بشعة تعرضت لها.
وقد أشار الدكتور ماكولوخ في ذات السياق الى موقف الحزب الجمهوري برئاسة المهندس محمود محمد طه، الذي عارض قرار سلطات الادارة الاستعمارية البريطانية القاضية بحظر ممارسة ختان البنات وتجريمه، بحجة انه لا يحق للبريطانيين التدخل في تقاليد السودانيين وممارساتهم الخاصة كما جاء في الرسالة المغنية. ولكن ادبيات الجمهوريين عموما حول هذا الموضوع، تشير الى ان وجه الاعتراض الحقيقي لرئيس الحزب الجمهوري على قرار منع الخفاض هو انه يظهر السودانيين بمظهر الشعب المتخلف وغير الراشد، الذي لا يستحق الحرية والاستقلال عن الانجليز.
اما الرسالة الرابعة والاخيرة للدكتور ماكولوخ لابنته ماريون، فقد جاءت قصيرة ومقتضبة للغاية ومتوترة كما ذكرنا من قبل، ومن خلالها نستطيع ان نستشف ان الشابة ماريون ابنة الدكتور ماكولوخ قد عقدت العزم على الارتباط بالشاب السوداني " مكاوي اسماعيل "، ويبدو ان موقف ماريون قد فاجأ والدها بل أطار صوابه، فكتب لها ما نصه:
" فرغت للتو من قراءة خطابك. ولا أكاد أصدق ما سطرته فيه. أفقدت عقلك تماما ؟. بالطبع لا تعني عبارة ( أحضري صديقاً ) إحضار رجل. وبالتأكيد ليس رحلاً سودانيا !. ألا تعرفين طباع جدك وجدتك ؟. من قبل لم يوافقا على ارتباطي بوالدتك الراحلة ؟ بل كانا يؤمنان بأنني لست كفؤاً لها".