كلمة السّر: البلديات.. هي .. أو لا شيء..

 


 

 


سالم أحمد سالم
باريس

salim.ahmed@neuf.fr


السودان دخل فعلا في المرحلة الدقيقة الحرجة التي قد يخرج منها في أحسن الحالات بعضو مبتور أو بفوضى عارمة لا تبقي ولا تذر. وعندما أقول السودان فإنني لا أقصد حصرا الحالة الراهنة من حكومة شمولية وأحزاب مهترئة وضنك معيشة وحروبات بائنة وأخرى مستترة، إنما أقصد مستقبل السودان القريب، أو ما سوف تنفتح عليه أضاع السودان قريبا. فالحالة الراهنة التي ذكرت لا تعدو كونها مجرد غطاء سوف ينكشف في أي لحظة فيظهر المخبوء المؤلم. فقد دخلت الحالة الراهنة وحكومتها في مرحلة التحول والتحلل فأصبح في حكم المستحيل علاجها أو ترقيعها أو استمراريتها. لذلك يرتكب السودانيون خطأ تاريخيا جسيما بما فيهم هذه الحكومة إذا انكفأ الناس على ترقيع الحالة الراهنة. لا تراضي ولا اتفاقات سوف تنفع، وجميع الصفقات السياسية ستعود على أطرافها بالخسران المبين... ضعف الطالب والمطلوب.

اليوم نقف ويقف الجميع أمام السؤال الصعب: ماذا أعد السودانيون لمرحلة ما بعد الانهيار التام للحالة الراهنة؟. في تقديري هذا سؤال يجب أن يطرحه كل مواطن سوداني على نفسه وعلى أسرته وأصدقائه. ويجب على كل مواطن سوداني أن يبحث له عن إجابة محددة قبل فوات الأوان.

السؤال صعب والإجابة أصعب. لذلك اسمحوا لي أيها الشعب السوداني أن أتقدم لكم بهذه المذكرة، ومن خلالكم إلى الحكومة الراهنة وجميع الأحزاب والتكوينات والحركات والنقابات ومنظمات العمل المدني والرموز السياسية والفكرية السودانية. تخاطب هذه المذكرة ضرورة إجراء انتخابات بلدية شاملة في كل أقاليم السودان. لجهتي، سوف أراهن رهانا مضمونا بالقول أن لا مخرج للسودان وشعبه وأحزابه وحكومته إلا بانتخابات بلدية عامة ومفتوحة.  

وحتى لا يجنح الناس إلى المفهوم الساذج السائد عن البلديات، لابد أن أشير هنا أن البلدية هي أهم مؤسسة سياسية في جميع الدول المتقدمة في العالم. وضمن هذا المعطى السياسي تتفوق البلديات في أهميتها على كل البرلمانات والمؤسسات الدستورية والأحزاب السياسية الكبرى في هذه الدول المتقدمة، حيث لا تنهض حركة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية خارج رحم البلديات، وسوف أشرح ذلك قدر المستطاع في ما يستتبع من هذه المذكرة.

والمؤسف في الواقع السياسي السوداني أن الحكومات الدكتاتورية العسكرية والحكومات الشمولية الحزبية قد تمكنت منذ استقلال السودان وإلى اليوم من تغييب وتعطيل الدور السياسي الأساسي للبلديات، وحاصرت البلديات وحصرتها في الجانب أو الدور الخدمي. من هنا ساد المفهوم الضيق عن البلديات وغاب الدور السياسي الرائد للبلديات. التعطيل المتعمد للدور السياسي للبلديات هو وحده الذي حال دون تطور الحركة السياسية في السودان، ومن ثم ما نجم عن ذلك من انقلابات عسكرية وبرلمانية ودمار اقتصادي وتهتك اجتماعي وتخلف لا يخفى على العين. وما من شك أن تغييب الدور السياسي للبلديات كان السبب المباشر والرئيسي في انتشار الحروب التي شهدها ويشهدها السودان في جنوبه وغربه وشرقه ثم شماله ووسطه. لذلك لزاما علينا أن نبرهن في هذه المذكرة أن "تفعيل الدور السياسي للبلديات" هو العلاج الذي لا غيره ولا قبله ولا بعده من علاج لمشكلات السودان السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى غيرها من مشكلات السودان العالقة منذ الاستقلال إلى اليوم. وأن "البلديات" هي المفتاح الوحيد لمستقبل السودان وتحقيق التوازن والوفرة، وبدون "البلديات" سوف يزداد الفقير فقيرا والمريض مرضا ولسوف يدخل السودان في سراديب مظلمات من التدهور بما يفوق معدلات التدهور الكائن.

إن بساطة الفكرة (تفعيل الدور السياسي للبلديات) قد تدفع البعض للتساؤل: هل حقا تستطيع "البلديات" أن تفعل كل ذلك؟!. وأجيب: أي نعم البلديات تفعل كل وأكثر من ذلك، وهذا ما سوف أعمل على توضيحه بشيء من الاختصار في هذا السياق.

قد نعلم جميعنا سلفا أن الحكومة الراهنة القابضة، وكذلك الأحزاب التقليدية المسيطرة على سطح الحياة السياسية سوف لن ترغب مطلقا في مثل هذه الخطوة، أي خطوة نشوء بلديات وانتخابات بلديات. فالحكومة من جهتها تخشى أن تؤدي الانتخابات البلدية المفتوحة إلى تفكيك قوائمها التي ترتكز عليها. والأحزاب التقليدية مثلها مثل الحكومة تخشى بل خائفة من خوض تجربة تكون فيها الكلمة الفصل لكم، للشعب السوداني. لكن على الحكومة الراهنة والأحزاب التقليدية أن تعلم أنني لا أهدف من وراء هذه الدعوة إلى تفكيك قوائم الحكومة أو إدخال الأحزاب التقليدية في امتحان عسير تتهيبه وتخشاه. إن الهدف الوحيد من الدعوة إلى إجراء انتخابات بلدية هو التمهيد والتأسيس الصحيح لمستقبل السودان السياسي. هذا التأسيس قد يستغرق عشر سنوات تنقص أو تزيد، لكنه تأسيس لابد منه، ولابد أن يبدأ الآن لأن كل زمن يمر دون إجراء هذه الانتخابات هو فاقد زمني من عمر الوطن والشعب والتجربة السياسية السودانية برمتها. وبدون نشوء بلديات وانتخابات بلديات يعود السودان إلى نقطة الصفر لا محالة.. وما أكثر نقاط الصفر التي عاد إليها السودان مرارا وتكرارا بسبب هذه العلة!.

واستكمالا للفقرة السابقة، لعلني أهمس في أذن الحكومة الراهنة والحركة الشعبية والأحزاب الأخرى بالنقاط التالية، لا من باب بث الطمأنينة في أطراف الحكومة والأحزاب، لكن لأنها حقائق لابد من طرحها:
* سوف تهرع الحكومة الراهنة وربما الحركة الشعبية كالعادة للاحتماء وراء اتفاقات نيفاشا التي أصبحت نصوص مقدسة لا ينبغي مجرد الاقتراب منها أو تصويرها ناهيك عن تعديلها!. لذلك نبدأ بالقول أن تفعيل الدور السياسي للبلديات وانتخابات البلديات لا يمس بأي حال بقدسية نصوص اتفاقات نيفاشا ولا يعدّلها. إجراء انتخابات بلدية عامة لن يتعارض مع اتفاقات نيفاشا. والصحيح أن الانتخابات البلدية سوف تكمل اتفاقات نيفاشا وتسد النقص الدستوري الوارد في هذه الاتفاقات. فقد نصت اتفاقات نيفاشا على إجراء انتخابات برلمانية ثم انتخابات رئاسية، بينما أغفلت نيفاشا أن تنص صراحة على ضرورة إجراء انتخابات بلدية عامة تسبق انتخابات المؤسسات التشريعية وتمهد لها تمهيدا لا يمكن الاستغناء عنه. ومن حيث أن الانتخابات البلدية هي الأساس الديموقراطي بحكم اتساع قاعدة المشاركة الشعبية، فإن انتخاب البرلمان والرئيس يأتي رديفا مكملا لهذا الأساس الديموقراطي ونابعا عنه وليس بديلا عنه.
* إن انتخاب البرلمان والرئيس مع استبعاد أو قبل إجراء انتخابات بلدية عامة يجعل من انتخاب البرلمان والرئيس مجرد انتخابات فوقية مجتزأة لا تقوم على القاعدة أو الركيزة الديموقراطية، الأمر الذي يدحض لاحقا دستورية البرلمان وشرعية الرئيس المنتخب.
* إن إغفال الانتخابات البلدية يجعل المسار الديموقراطي كله مبتورا وناقصا. فمن أبرز المسببات التي أدت إلى تدهور الأوضاع السياسية في السودان كان الاكتفاء بإجراء انتخاب البرلمان كمؤسسة تشريعية وحيدة، حيث يقوم ذلك العدد المحدود من أعضاء البرلمان بالتصرف بيد مطلقة في كل مقدرات السودان. والاكتفاء بسلطة البرلمان هو نوع من سرقة السلطة لا يختلف قيد نملة عن أي انقلاب عسكري لأنه يبسط شمولية حزبية قاسية تتستر تحت غلالة من الديموقراطية الكاذبة. وما من شك أن الحكومة السودانية الراهنة والحركة الشعبية والأحزاب التقليدية قد هيأت نفسها الآن لتنفيذ عملية سطو مماثلة على السلطة عن طريق الاكتفاء بانتخاب المؤسسة التشريعية والرئيس. ولا يمكن تجاوز هذا السيناريو إلا بتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية عن طريق البلديات حيث يمارس الشعب سلطة حقيقية مباشرة. إن مجالس المحافظات المعينة أو المنتخبة سوف لن تقوم مقام البلديات أو تسد مكانها.
* تغييب البلديات، أي تغييب قاعدة المشاركة الشعبية، سوف يعني أن التحول الديموقراطي لن يكون ناقصا ومبتورا فحسب، بل سوف لن يتحقق أبدا. لا تحول ديمقراطي قبل انتخابات بلدية عامة.. نقطة على السطر!

لمجمل المعطيات الوارد ذكرها تظل اتفاقات نيفاشا معيبة دستوريا وغامضة لجهة التحول الديموقراطي ما لم يتم استكمالها بانتخابات بلدية عامة تسبق الانتخابات التشريعية والرئاسية. إن الانتخابات البلدية التي تسبق الانتخابات المزمعة هي جزء مكمل لاتفاقات نيفاشا، ولن تبلغ اتفاقات نيفاشا أهدافها المعلنة بدون تفعيل الدور السياسي للبلديات وإجراء انتخابات بلدية عامة. وسوف أظن هنا أن فقرة الانتخابات البلدية المبكرة قد سقطت سهوا من بنود اتفاقات نيفاشا. وأتمادى في الظن إلى القول أن الدكتور الراحل جون قرنق لو كان على قيد الحياة لكان أعلن موافقته الفورية على إجراء الانتخابات البلدية قبل الانتخابات الوشيكة التي نصت عليها اتفاقات نيفاشا.

* الانتخابات البلدية سوف لن تنال في الوقت الحاضر من قسمة الثروة والسلطة التي استملكها الشريكان بموجب اتفاقات نيفاشا. كما لن تؤدي الانتخابات البلدية إلى فض حكومة الشراكة هذه، أو حتى إلغاء البرلمان المعين لأن البلديات لا تشكل بديلا دستوريا للحكومة أو برلمانها أو وزارتها، كما لن تشكل البلديات جسدا دستوريا قابضا ينازع الحكومة والحركة في قسمة الثروة.
* الانتخابات البلدية العامة سوف تمنح الشريكين والأحزاب التقليدية والأحزاب الجديدة الفرصة الذهبية التي لا تعوض لتحسس نقاط الضعف في بنيانها قبل خوض الانتخابات.. ووقوع الحسرات. فالمنافسة في الانتخابات البلدية المقترحة ستكون مفتوحة أمام كل الأحزاب والتيارات السياسية والأفراد.
* تشكل الانتخابات البلدية بداية الحل الفعلي والدائم لمشكلات السودان المتفاقمة وعلى رأسها قضية دارفور. إذ لا يغيب عن عاقل أن حمل السلاح في السودان يحدث كرد فعل طبيعي للسياسات الدكتاتورية التي غيبت تغييبا نهائيا كل شكل من أشكال المشاركة الشعبية الحرة في إدارة البلاد. والتجربة السودانية تؤكد بوضوح وجود العلاقة الطردية وتلك العكسية بين شمولية الحكم وبين رفع السلاح من جهة، وبين وضع السلاح وبين توافر الحد الأدنى من المشاركة الجماهيرية (هذا برغم رأينا القاطع في نوعية المشاركة الشعبية في أزمنة الفترات المسماة بالديموقراطية). ولعلني لا أذيع سرا بالقول أن أجندة أي مفاوضات محتملة بين الحكومة الراهنة وبين حركات دارفور سوف تشتمل على ورقة أساسية تطالب بإحداث تغيير كامل في الأساليب الديموقراطية القديمة المبتورة وتطالب بتنزيل المشاركة الجماهيرية إلى مستوى الحد الأدنى من المؤسسات الدستورية الإدارية، أي إلى مستوى البلديات. زد على ذلك أن الانتخابات البلدية سوف تحدد بوضوح أوزان وأحجام الحركات الدارفورية، وبالتالي الحصص الحقيقية لهذه الحركات في تمثيل أهل دارفور في طاولات المفاوضات والاتفاقات النهائية أو لاحقا خلال مرحلة ما بعد الاتفاقات.
* الانتخابات البلدية سوف تحدث حركة سياسية واجتماعية واسعة ونشطة في أرجاء السودان، وهي حركة مطلوبة الآن وبإلحاح لأنها سوف تمتص الكثير من حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي الذي يضع السودان اليوم على برميل من البارود قابل للانفجار في أي لحظة بما لا تحمد عقباه الحكومة والأحزاب التقليدية، وإني لكم من الناصحين.
* الانتخابات البلدية وما يصاحبها من حركة اجتماعية نشطة هي الدليل الوحيد الذي يؤكد شيئا من نية الحكومة وقبولها للتحول الديموقراطي قبولا طوعيا. لقد أسرفت الحكومة الراهنة في القول بأنها عازمة على قبول التحول الديموقراطي، إلا أن كل كلام الحكومة لن يمنح الشعب السوداني ولا الرأي العام العالمي مثقال ذرة من التأكيد أو الركون خاصة وأن كل تصرفات الحكومة الراهنة وخططها وقمعها تؤكد تمسكها الشديد بحكمها الشمولي، وأنها، أي الحكومة، عازمة على شرعنة شموليتها بانتخابات برلمانية رئاسية شكلية.
* الحركة الاجتماعية النشطة التي تصاحب الانتخابات البلدية تعطي الرأي العالمي رسالة قوية وعملية حول توجهات الحكومة الراهنة، الأمر الذي سوف يخفف من التشدد الدولي تجاه الحكومة السودانية بما في ذلك موضوع محكمة الجنايات الدولية وخلافه من المواضيع القديمة أو الملفات الجديدة التي سوف يتم فتحها قريبا وفي التوقيت المناسب...  

أظن أن هذه المسببات كافية بالزيادة لحمل الحكومة السودانية وأطرافها على قبول إجراء الانتخابات البلدية. ذلك لأن اقتناع الحكومة بالانتخابات البلدية ضروري لأنه سوف يجنب الحكومة والبلاد الكثير من الخسائر الفادحة الوشيكة.

لماذا البلديات؟

أولا المشهد الدولي:
ذكرت آنفا أن البلديات سوف تظل الوسيلة الوحيدة القادرة على إخراج السودان من مأزقه التاريخي...  أي نعم هي "البلديات" لا غيرها ولا قبلها ولا بعدها. فإذا نظرنا إلى المشهد السياسي الدولي على مستوى العالم الصناعي نجد أن البلديات هي أم الأحزاب وأنها تحظى من الأحزاب السياسية في هذه الدول باهتمام لا يقل درجة عن اهتمام هذه الأحزاب بالفوز بالمؤسسات التشريعية مثل البرلمان ومجالس الشيوخ ورئاسة البلاد ورئاسة البلديات. إن أم المعارك الديموقراطية التي تخوضها الأحزاب السياسية في الدول الديموقراطية المتقدمة هي معارك انتخابات البلديات. فالبلديات هي "مصنع الحياة السياسية" في جميع الدول المتقدمة في العالم، حيث تلعب البلديات الدور الرائد في عملية التقدم الذي تحرزه هذه الدول. والبلديات في الدول المتقدمة هي المدرسة التي يتخرج منها السياسيون. الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان عمدة بلدية باريس، والسيد بيرتراند ديلانوي عمدة بلدية باريس هو المرشح الأقوى لزعامة الحزب الاشتراكي الفرنسي تمهيدا لترشيحه للرئاسيات المقبلة أو لرئاسة الحكومة الفرنسية بعد الانتخابات. جميع شاغلي المواقع الدستورية في البرلمانات والمجالس التشريعية في فرنسا وسائر أوروبا هم في الأساس رؤساء بلديات. فالنجاح في البلديات هو معيار نجاح السياسي. مثلا السياسي اليميني الفرنسي رئيس الحكومة الأسبق آلان جوبيه خسر كل شيء بمجرد خسارته الانتخابات المحلية. شيراك وديلانوي وغالبية الزعامات السياسية والوزراء والأطقم الإدارية الأوروبية جميعهم تخرجوا من قواعد البلديات التي صقلتهم وأعدتهم أيما إعداد.. خلافا لجماعتنا إياهم في السودان الذين يهبطون على كراسي الحكم من أعلى إما بواسطة مظلة عسكرية أو بقفطان.. والبعض منهم يولد وعلى مؤخرته كرسي الحكم..

كل برامج الأحزاب الأوروبية والأميريكية تبلورت وتجمعت عن برامج الانتخابات البلدية، والأحزاب السياسية الأوروبية ما هي إلا نتاج للبلديات. فالبلديات هي التي أفرزت الأحزاب وبرامج الأحزاب الأوروبية، وهذه الأحزاب والبرامج هي التي صنعت التطور المذهل الذي تحققه أوروبا على مدار الساعة وفق دوران عجلة الآلية الديموقراطية. باختصار فإن كل عمليات التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي في أوروبا عموما تتم داخل بوتقة البلديات. لذلك لا يمكن أن تكون دكتاتورياتنا وأحزابنا الشمولية على صواب وهذا العالم المتقدم على خطأ!. وحتى لو كانت أوروبا على خطأ فمرحبا بهذا الخطأ الذي يحقق مثل هذه الطفرة الحضارية التي تلبي احتياجات المواطن الأوروبي وتفيض عن حاجته على هيئة تبرعات وهبات يقدمها الأوروبي لشعوبنا التي شردتها وقتلتها الدكتاتوريات والشموليات!. (هناك إعلان تجاري نشر على صفحة كاملة في غالبية كبريات الصحف العالمية. الإعلان كان عن الدهان الشعبي الآسيوي"تايغر بون". مصمم الاعلان وضع في منتصف الصفحة الخالية تقريبا صورة صغيرة لعلبة الدهان وكتب تحتها عبارة صغيرة تقول"مليار شخص لا يمكن أن يكونوا على خطأ"). ونحن نقول بدورنا أن كل الشواهد تؤكد أنه لا يمكن أن تكون كل أوروبا والغرب على خطأ ودكتاتورياتنا على صواب... ولعن الله من يرفع الدين في وجه هذه الحقيقة الناصعة.. فالدين الحق ليس معكم بل مع الديموقراطية العادلة وضد الدكتاتورية الظالمة التي ترفع المصاحف والأطفال على أسنّة رماحها.  

ثانيا: المشهد السوداني: تحريك المفاصل الديموقراطية
الشعب السوداني لم يمارس أي شكل من أشكال الديموقراطية منذ 40 عاما، تحديدا منذ عام 1969 تاريخ الانقلاب العسكري لحكومة (مايو 1) العسكرية، وإلى يوم الناس هذا. الفترة القصيرة المسماة بالديموقراطية التي أعقبت انهيار حكومة (مايو 1) لا يمكن أن نعتبرها فترة أداء ديموقراطي لأسباب جوهرية. أولا لأن الأداء الديموقراطي خلال تلك الحقبة لم يتجاوز بضعة أسابيع هي أسابيع الحملات الحزبية وإجراء الانتخابات. وثانيا لأن الأحزاب نفسها غير قائمة على أسس ديموقراطية وتفتقر إلى الديموقراطية في بنيتها الداخلية، وبالتالي أفرزت حكومة شمولية حزبية. وثالثا لأن التجربة الديموقراطية كانت مبتورة وناقصة من حيث أنها اقتصرت على انتخاب برلمان فقط، ورابعا لأن تلك الفترة كلها، أي الفترة المسماة بالديموقراطية، لم تتعدى الأربع سنوات، وهي فترة بالقطع غير محسوبة في معايير تجارب الشعوب. لمجمل هذه القرائن فإن تلك الفترة لا تشكل مرحلة ديموقراطية بين مرحلتين عسكريتين، بل هي جزء متتم لهما أو صلة الوصل بينهما. والواقع أن تلك الفترة المسماة بالديموقراطية كانت "فترة إعداد" أعدت فيها الجبهة السياسية الإسلامية نفسها للانقضاض العسكري على السلطة، فكانت حكومة (مايو 2) العسكرية الراهنة التي سمت نفسها حكومة الإنقاذ.. ولا تريد أن تعترف مجرد اعتراف بشريكها الحركة الشعبية!.

أجيال كاملة من السودانيين لم تمارس الفعل الديموقراطي. وقد كان من الطبيعي أن تحفر الدكتاتورية "طويلة الأجل" بصمات أظافرها على السلوك العام في المجتمعات. فالمجتمعات السودانية تعيش اليوم "دكتاتورية الإسقاط". فكل من يمتلك "قوة" القرار أو قوة المال أو قوة السلاح يستطيع أن يسقط دكتاتوريته ويفرض هيمنته على من هو أدنى منه. ومن حيث أن الحكومة الراهنة تستملك قوى المال والسلاح والقرار، نجدها تفرض دكتاتورية مهيمنة لكنها دكتاتورية متصالحة مع الدكتاتوريات الأدنى منها في سلم الدكتاتوريات السودانية. وبذلك تكون الحكومة هي مشيمة الدكتاتورية التي تتغذي منها الدكتاتوريات التي من دونها. ونستطيع أن نلحظ بوضوح "دكتاتورية الإسقاط" على كل المستويات الإدارية في السودان بدء من رئيس الحكومة وقدرته على إصدار قرارات مباشرة على الهواء في أثناء أي حديث له.. وتلك قمة من قمم الدكتاتورية المهينة حيث لا يحتاج رئيسها الرجوع ولو شكليا إلى مؤسساته الشكلية...، ثم في طبيعة علاقته، أي الرئيس، بأجهزته الحكومية. ومن ثم يستشري الإسقاط الدكتاتوري من أعلى قمة هرم الحكومة الشمولي سقوطا حتى أدنى وحدة عمل مكونة من شخصين!. فالعلاقة في كل أركان البلاد أضحت علاقة "أمر وتنفيذ أمر"، أمر من أعلى وتنفيذ واجب على من هو أدنى. لقد أضحت الدكتاتورية المتنزلة سمة أساسية في علاقات العمل وداخل المؤسسات ودور العلم والعبادة. وفي موازاة ذلك فقد تحولت المدارس والجامعات إلى أخطر بؤر تفريخ الدكتاتورية حيث تحكمها عصابات الصبية المسلحة التي تفرض دكتاتوريتها على باقي الطلاب والتلاميذ والمدرسين، بينما يقوم الهيكل التعليمي بتخريج الجماعات المتشربة بالعنف الدكتاتوري بدلا عن الكوادر المؤهلة.

نحن إذن أمام حقيقة اجتماعية خطرة تهدد الديموقراطية المقبلة. (فالديموقراطية آتية لا ريب فيها، آتية طوعا أو كرها). مصدر الخطورة هنا هو أن الديموقراطية ليست مسألة معلقة في الهواء، بل هي ممارسة عملية على أرض الواقع لابد أن تنسلك فيها كل مجتمعات البلاد. لذلك من الطبيعي أن تتأثر الديموقراطية بالسلوك العام المشبع بالدكتاتورية. لكن، وبرغم داء "نقرس الدكتاتورية" الذي أصاب مفاصل المجتمعات السودانية، لكنني مؤمن أنه في حكم المستحيل أن تصبح الشمولية سمة ثابتة في المجتمعات السودانية. ولعلني أمضي إلى التفاؤل أن "مرض الشمولية" لا يعدو كونه حالة طارئة ولسوف يظل في خانة الاستثناء الذي يزول بزوال مصدر العلة. مبعث تفاؤلي أن السلوك الديموقراطي جزء أصيل في مكونات ومكنونات المجتمعات السودانية نراه على مستويات العلاقات الأسرية وفي قدرة المواطن البسيط على التعبير عما في نفسه أحيانا في أحلك الظروف.

"خميرة الديموقراطية" إذن كامنة في نفس غالبية المجتمعات السودانية، ولا يمكن استئصال السلوك الديموقراطي إلا باستئصال المجتمعات السودانية عن بكرة أبيها. وبفضل خاصية الديموقراطية غير المكتسبة، فشلت كل أنواع العنف والقمع في تدجين المجتمعات السودانية، وفشلت كل محاولات استبدال الهوية النفسية للمجتمعات السودانية بهوية أخرى تقبل الهيمنة الدكتاتورية. لقد جهدت حكومة مايو في نسختيها الأولى والثانية في تدجين الشعب السوداني، إلا أن كل محاولاتها ذهبت مع الريح. ولكي نتأكد من هذه الحقيقة علينا أن نعقد مقارنة سريعة بين المجتمعات السودانية وبين مجتمعات بعض الأقطار المجاورة مثل مصر. فالشعب السوداني يكاد يكون الشعب الوحيد في المنطقة الذي يتقن فلسفة المواجهة ضد الحكومات الدكتاتورية ورفع السلاح في وجهها.

قد يقول من قائل أن الشعب السوداني قد استكان 20 عاما للحكومة الراهنة. لكنني أرى غير ذلك. وأرى أن طول أجل هذه الحكومة لا يعود إلى قوتها أو قدرتها على إحكام السيطرة، بل يعود في الأساس إلى عدم توافر البدائل. وعدم توافر البدائل يعود في جانب عظيم منه إلى أن غالبية المجتمعات السودانية، مع أنها تعيش ديموقراطية اجتماعية متميزة، إلا أنها لم تستوعب بعد الأثر المباشر للديموقراطية السياسية في تطوير حياة الفرد وأسرته. أو أن فهم المجتمعات السودانية للديموقراطية السياسية أضحى يقتصر على علمية انتخاب البرلمان والرئيس وعودة الزعامات الحزبية. وما من شك أن الدكتاتوريات المتعاقبة والأحزاب قد زرعت هذا الفهم الخاطئ للديموقراطية وعمقته في نفوس المجتمعات السودانية مثلما عمقت المفهوم الخاطئ عن البلديات وغيبت دورها السياسي. لذلك لابد من تبيان أن الديموقراطية السياسية هي المحور وهي الأساس في عملية تلبية احتياجات الفرد وأسرته وفي بناء الوطن بصفة عامة.

لمجمل المعطيات السابق ذكرها يظل الشعب السوداني على حال من التأهيل والاستعداد الفطري للعودة السريعة للأداء الديموقراطي. على أن العودة الفاعلة للديموقراطية لن تتم قبل أن يدرك الشعب السوداني أن "الديموقراطية السياسية" ليست مجرد كلمة بلا معنى واقعي، وأن يدرك أيضا أن الديموقراطية السياسية ليست دائما ذلك السرداب الذي تطل منه زعامات الأحزاب إياها، وأن الديموقراطية السياسية هي الطريق الوحيد لتوفير احتياجاته كلها من ماء وغذاء وتعليم ووفرة ودواء.     

لا تطور ولا استقرار بلا ديموقراطية
وعليه، وقبل أن نمضي قدما إلى طريق الديموقراطية، وهو الطريق الوحيد المفضي إلى الخلاص، لابد أن أقول أن الديموقراطية في أبسط تعريفاتها هي وضع القرار في يد المواطن. لماذا؟ لأن المواطن وحده دون غيره هو الأكثر دراية باحتياجاته وهو الأكثر إحساسا بآلامه وبعضّة الجوع في معدته وبالمرض في جسده، والمواطن هو الأكثر علما باحتياجات أطفاله. لذلك عندما يقرر المواطن فإنه يقرر من موقع الأصيل العارف معرفة مباشرة باحتياجاته اليومية والمستقبلية. وعليه كان من البديهي أن تعجز أي فئة دكتاتورية حاكمة عن الوصول إلى هذا الإحساس المباشر الذي يحس به المواطن. لذلك تصدر الحكومات الدكتاتورية والشمولية الحزبية قرارات تتناقض مع متطلبات المجتمعات ولا تستمزج رأي الناس ولا ترعي مصالحهم (مثل قرارات الحكومة بإنشاء مجموعة من السدود في شمال السودان) وهنا يقع التناقض بين ما تريده الفئة الدكتاتورية وبين ما يريده الشعب.

وبسبب هذا التناقض تنتقل الحكومات الدكتاتورية في علاقتها مع الشعب من موقع دغدغة آمال المواطن في بيانها الأول إلى الأبوية ثم إلى البابوية، ثم إلى الدكتاتورية وبالتالي استخدام العنف والجبروت لفرض قراراتها المرفوضة اجتماعيا. مقابل عنف الحكومة يفرز جسد المجتمعات مضادات حيوية تقاوم تلقائيا قرارات وسياسات الحكومة الدكتاتورية باعتبار أن الحكومة وقراراتها أضحت بمثابة الجسم الغريب الذي يلفظه الجسد أي الشعب. وبسبب التشادد بين نزعات الحكومة ومقاومة الشعب يختل إيقاع الحياة وتتعطل عملية التطور تماما. وتتجسد لنا هذه الحقيقة في الدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي يصيب البلاد خلال كل حكم شمولي، هذا الدمار الهائل الذي لا نراه على حقيقته إلا بعد انقشاع الحكم الدكتاتوري.

فالحكومة الدكتاتورية تعجز عن إحداث التطور لأن التطور هو عملية نمو طبيعي لا يمكن أن فرضه بالقوة. فأنت مثلا لا تستطيع أن تأمر شجرة بأن تنمو، ومهما فعلت أنت تظل الشجرة هي التي تحدد درجة وسرعة نموهما. الشجرة وحدها هي التي تحدد كمية الماء والغذاء والتمثيل الضوئي الذي تحتاجه. الشجرة وحدها هي التي تحقق التوازن بين احتياجها من الماء والغذاء وبين درجة نموها، تموت الشجرة إذا غمرناها بماء يزيد عن حاجتها مثلما تموت بالعطش. فإذا كان هذا حال أي شجرة أو نبتة صغيرة، فما بالك بشعب! وبرغم هذه البديهية العلمية الناصعة تظن الأحكام الدكتاتورية أنها قادرة على تحديد الجرعات التي يحتاجها الشعب من الماء والغذاء والتعليم والصحة، لذلك تفشل الدكتاتوريات ويصبح في حكم المستحيل حدوث تطور في جوانب الحياة تحت ظل حكومة دكتاتورية شمولية مهما بلغ حجم الثروات الوطنية، حيث يصبح معدل دخل الفرد مجرد رقم ليست له علاقة بالواقع المزري للمواطن.

وبما أن الشعب، كما ذكرنا، هو وحده القادر على معرفة متطلباته وتحديد أولوياته، ظلت ولسوف تظل الديموقراطية، أي حكم الشعب لنفسه، هي الآلية الوحيدة القادرة على إحداث التطور وترقية الحياة في المجالات كافة من تعليم وصحة وغذاء ووفرة في الإنتاج. وهذا هو لغز التطور الذي تشهده الدول الديموقراطية في العالم. ولسوف تظل الديموقراطية هي الآلية الوحيدة القادرة على تحقيق التوازن المطلوب بين عمل الإنسان وبين توفير الاحتياجات الأساسية له ولأسرته. لقد فشلت الدكتاتوريات والشموليات على مدى أزمنة التاريخ عن تحقيق هذا التوازن بينما نجحت الديموقراطيات في تحقيقه مثلما نجحت تلك الشجرة في تحديد احتياجاتها من الماء والغذاء والضوء. على أن الشعب لن يتمكن من تحديد متطلباته وأولوياته ما لم يباشر هذه المهمة بنفسه انطلاقا من الخلية الاجتماعية الأساسية وهي البلدية.

إذن الديموقراطية تساوي التطور. إذن تطور السودان وتلبية احتياجاته العاجلة والآجلة يظل يرتهن إلى "إعادة تشغيل" الآلية الديموقراطية، أو بالأحرى عودة الحراك إلى مفاصل المجتمعات السودانية. والحراك الديموقراطي يبدأ بتداول المجتمعات السودانية حول كيفية ترقية الواقع الحقيقي الذي يعرفه ويعيشه كل مواطن... الواقع الملتصق بحياته اليومية في القرية والحي والفريق. هذا يعني وبلا جدال أن الحركة الديموقراطية لابد أن تبدأ من مستوى القاعدة الاجتماعية في كل أركان البلاد في مدنها وضواحيها بأن يبحث ويتداول سكان كل قرية أو فريق أو حي في كيفية ترقية حياتهم وتلبية احتياجاتهم على المستوى المحلي المحدود. وهكذا تتشكل خلايا الأداء الديموقراطي في كل أرجاء وأركان البلاد. ومن الطبيعي أن تتلاحم كل هذه الخلايا على المستوى الوطني لتشكل معا وفي اتساق القاعدة الديموقراطية الوطنية الشاملة النابضة بالحياة والتنافس والحوار والقادرة على إحداث التطور. تلك هي القاعدة الديموقراطية التي لا محيد عنها ولا بديل لها، وتلك هي البلديات التي أقصدها.

التداول والحوار على مستوى الخلية أو البلدية بدوره لا يتم في فراغ، بل يتمحور حول أفكار ومقترحات ووجهات نظر محددة تتقدم بها بعض الجماعات. بمعنى أن كل جماعة صغيرة تتبنى "برنامجا للتطوير" تظن أنه القادر على تلبية المتطلبات المحلية من تعليم وعمل وعلاج ومواصلات وخلافه. وغني عن الذكر أن المواطن يشارك في مناقشة هذه البرامج الصغيرة سواء في ندوات أو على نواصي الطرقات أو أثناء تناول الوجبات، الأمر الذي يقود إلى إغناء هذه البرامج المقترحة وإضفاء التعديلات اللازمة عليها. ثم بعد ذلك يقوم المواطن بأداء دوره الأساسي في اختيار البرنامج الذي سوف يتوافق بالضرورة مع متطلباته وطموحاته على هذا المستوى المحلي المحدود.

وبما أن الوطن كما ذكرنا عبارة عن مجموعة من الخلايا المجسدة في البلديات، فمن البديهي أن تلتقي آلاف البرامج التي تبلورت في هذه البلديات لتشكل كل مجموعة منها كتلة برنامج متماسك على نطاق الوطن. تلك هي النواة الأولى والصحيحة للبرامج السياسية. وبذلك نكون قد حصلنا على أول خلية سليمة لبرامج سياسية واقعية نابعة عن واقع الحياة الفعلية للمواطن وتخاطب وتعالج متطلباته الفعلية اليومية والمستقبلية. ومن مزايا مثل هذه البرامج أنها تكون قابلة للنفاذ والتطور ويمكن البناء عليها مستقبلا. وبذلك تختلف هذه البرامج اختلافا كليا عن الهرطقات والعموميات التي تتنزل على الشعب من أعلى بواسطة الحكومات الدكتاتورية الشمولية أو بواسطة أحزاب "الرجل الواحد عبقري زمانه"!.

ومن الطبيعي أن تتشكل حول هذه البرامج الجماعات المتقاربة فكريا فتحصل البلاد على أحزاب سياسية لها برامج علمية نابعة من القاعدة الاجتماعية وذات زعامات متبدلة نابعة أيضا من عمق المجتمعات. أحزب تبلورت برامجها من أسفل إلى أعلى، وتصعدت قياداتها وكوادرها من القاعدة الاجتماعية العريضة يتم اختيارها وتنحيتها بواسطة القاعدة الاجتماعية. من مجمل هذه المعطيات نستطيع أن نرى الدور الذي لا غنى عنه الذي تقوم به البلديات في بنية الأحزاب والفكر السياسي والحياة السياسية كلها. وهنا يكمن الفرق بين أحزاب الدول الديموقراطية وبين أحزاب السودان التي يتم تكوينها في السقف ثم يتم إسقاطها بعنف على القاعدة الاجتماعية في البلاد!.

لابد أنكم لاحظتم أنني أعمل على بناء الواقع السياسي كله من أسفل القاعدة الاجتماعية. والوقع أنه لا توجد طريقة أخرى لبناء الهياكل السياسية أو الحزبية السليمة إلا من بداية السلم الاجتماعي. فقد فشلت وتفشل الدكتاتوريات لأنها تتنزل من أعلى بقوة السلاح، وكذلك تفشل الأحزاب السودانية الراهنة لأنها لم تتبلور عن حركة القاعدة الاجتماعية، بل هبطت على الناس من أعلى. وبما أن البرنامج السياسي السليم هو فقط الذي يتبلور عن رغبات القاعدة الاجتماعية، فإن الأحزاب السودانية قد ولدت بعيب خلقي جسيم هو افتقارها للبرنامج. لذلك تعتمد الأحزاب التقليدية على الولاء الديني أو العرقي أو الجهوي. كما رأينا بالعين المجردة الفشل الذي منيت به كل محاولات تكوين أحزاب جديدة برغم جودة برامجها المكتوبة. ويعود هذا الفشل إلى أن الأحزاب الجديدة بدورها تريد أن تتنزل من أعلى إلى القاعدة الاجتماعية، فهي بذلك لا تختلف كثير شيء عن الدكتاتوريات والأحزاب التقليدية.

كل هذه المسببات انتهت بالسودان إلى عدم توافر البديل السياسي القادر على إخراج البلاد عما هي فيه من صنوف التردي. وعدم توافر البديل أصاب المجتمعات السودانية بحالة من الإحباط واليأس ولو إلى حين. ويتجسد الإحباط في المقولة التي يرددها لسان حال الشارع السوداني: (لو ثرنا وطردنا الحكومة الراهنة سوف تأتينا الأحزاب من جديد... ما الفائدة ؟). الشعب محق في تساؤله وفي إحباطه، إذ لا فائدة ترتجى من عودة الأحزاب. والحكومة من ناحيتها تعمل على تكريس فشل الأحزاب طالما أن ذلك يمد في أجلها ويباعد بينها وبين ثورة المجتمعات السودانية.

إن أهم لوحات المشهد السياسي السوداني الراهن أن الأحزاب الشمولية والدكتاتوريات قد عطلت الدور السياسي للبلديات، وتمكنت بذلك من إقصاء الشعب إقصاء تاما عن أي فاعلية أو دور سياسي. وبمضي السنوات دخل في يقين الزعامات إياها أنها تستطيع أن تستغني تماما عن الشعب، ومن هذا اليقين نشأ في السودان صراع حول السلطة أطرافه فقط زعامات الأحزاب والدكتاتوريات، بينما يلعب الشعب دور القطيع الذي ينتظر المنتصر من النطاح. هذا المشهد البائس هو الذي أفرز للديموقراطية الفوقية المبتورة. على أن هذا المناخ المثقل بالدكتاتوريات والملبد باليأس الشعبي سوف لن يستمر إلى الأبد، بل قد لا يستمر إلى بضع سنين، بل قد لا يستمر إلى بضع شهور. مثل هذا الواقع عادة ما ينفجر عن تحول مباغت تكون فيه الدكتاتورية هي الخاسر الأكبر. وأعتقد أنه قد بقي قليل من الوقت أمام الحكومة والأحزاب التقليدية السودانية لكي تقبل بتفعيل الدور السياسي للبلديات بإجراء انتخابات بلدية حرة وفق المعايير والأدبيات والأهداف الوارد ذكرها... هي البلديات.. خذوها أو لن تأخذوا شيئا.. ثم إن سلاح الصمت والتجاهل قد صدئ وتكسّر.. وإياك أعني يا حكومة!

سالم أحمد سالم
باريس
15 سبتمبر 2008 - 15 رمضان
 


 

آراء