نحو تطوير التشريع الإسلامي ( 1-3) …. بقلم: د. أسامه عثمان، نيويورك

 


 

د. أسامة عثمان
18 February, 2009

 

 


Ussama1999@yahoo.com
"نحو تطوير التشريع الإسلامي - الحريات المدنية وحقوق الإنسان والقانون الدولي" هذا هو عنوان الطبعة العربية لكتاب يعد من أهم ما صدر من كتب في عقد التسعينات من القرن الماضي. ولقد صدر هذا الكتاب أول ما صدر باللغة الإنكليزية تحت عنوان
 (Towrd an Islamic Reformation)، في أول طبعاته عام 1990 من جامعة سيراكوز في ولاية نيويورك وكتب المستشرق الأمريكي  الكبير جون فول مقدمة له.  ثم توالت طبعاته بأكثر من لغة منذ ذلك العهد وحتى الآن. ولقد صدرت منه طبعتان بالعربية أولاهما في عام 1994 عن دار سينا التي اختفت عن الساحة بعد أن طبعت كتبا مهمة في مجال التنوير والمعرفة، وصدرت منه طبعة أخرى بالعربية عن مركز القاهرة لحقوق الإنسان في عام 2006 في إطار سلسلة الإصلاح. ولقد قام بالترجمة العربية  الكاتب المعروف حسين أحمد أمين صاحب "دليل المسلم الحزين للسلوك في القرن العشرين" الذي أورد مقدمة للطبعة العربية جاء فيها "يبدو أن المصريين قد اعتادوا أن تكون بلادهم مصدر الإشعاع الفكري في العالمين العربي والإسلامي ذلك أن القليلين من مثقفيهم هم الذي يلقون بالا إلى الثمار الفكرية في الأقطار المحيطة بقطرهم، أو لو يقدرون الضرر الذي سينجم حتما، عن هذه العزلة وهذا الإغفال، ها وقد مضى أكثر من ربع قرن على ظهور كتاب في السودان، هو  كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام" للشهيد محمود محمد طه، الذي أعده أهم محاولة ينهض بها مسلم معاصر لتطوير التشريع الإسلامي، وللتوفيق بين التعاليم الإسلامية ومقتضيات المعاصرة، دون أن يحظى في مصر، أو في أي بلد خارج السودان على حد علمي) بالاهتمام الذي هو أهل له ودون أن تلمس له تأثيرا في اتجاهات مفكرينا ومثقفينا وجمهور شعبنا رغم احتوائه على فكرة أساسية ثورية لا شك عندي في قدرتها متى صادفت القبول لدى الرأي العام الإسلامي، على أن توفر الحلول لمعظم المشكلات التي تكتنف موضوع الشريعة في إطار إسلامي" انتهى الاقتباس من تقديم حسين أحمد أمين.
ما قاله الأستاذ حسن أحمد عن أمين عن كتاب الأستاذ محمود يكاد ينطبق انطباقا تاما على الكتاب الذي نحن بصدده من حيث الإغفال وعدم التنويه والاهتمام به ليس في البلدان العربية وحدها بل في السودان نفسه الذي ينتمي إليه مؤلف هذا الكتاب كما انتمى إليه مؤلف "الرسالة الثانية من الإسلام" من قبل. ولا أحسب أن صحيفة سودانية قد تناولته من قبل أو أن منتدى قد عقد حلقة نقاش عنه منذ صدوره وكنت أحسب أنه لم يصل السودان ولكنه شاهدت نسخا منه ذات مرة يعلوها الغبار من طول المكث في أرفف إحدى مكتبات شارع الجامعة. وفي مقابل الإهمال الشديد الذي لقيه في العالم العربي فقد لقى اهتماما كبيرا في العالم الإسلامي غير العربي وفي الجامعات ومراكز البحث العلمي في العالم الغربي لأهميته. ومن قبيل ذلك ترجمته للغة الإندونيسية وعقد المركز النرويجي لحقوق الإنسان ندوة علمية في مدينة أوسلو في فبراير 1992،  بعنوان حقوق الإنسان وإصلاح التشريع الإسلامي كان هذا الكتاب محورها ولقد قدم معظم بحوث الندوة عن الكتاب من مساهمات من باحثين في القانون الدولي وأساتذة مرموقين من الشرق والغرب مثل البروفيسور محمد أركون من جامعة السوربون و البروفيسور اشتياق أحمد من جامعة استوكهولم  والبروفيسور خالد دوران من جامعة فلادلفيا و البروفيسور روي موتاهيده أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد والبروفيسور نور كيرباييف من جامعة موسكو وعدد من أساتذة جامعة أوسلو والباحثين بمركز حقوق الإنسان هذا إلى جانب المحتفى به ومؤلف الكتاب الذي نحن بصدده البروفيسور عبد الله أحمد النعيم أستاذ كرسي القانون الدولي بجامعة أموري في مدينة أطلانطا، ولاية جورجيا. ولقد كان يعمل أستاذا بجامعة أوبسالا بالسويد وقتها ثم مديرا تنفيذيا لمنظمة أفريكا ووتش لحقوق الإنسان بواشنطن.
 ونعود مرة أخرى للمقدمة التي كتبها المترجم لهذا السفر القيم حيث يقول السيد حسين أحمد أمين بعد أن شرح في اختصار فكرة الرسالة الثانية للإسلام وجدتها وثوريتها وبعد الإشارة إلى أنها كانت المنطلق الذي أقام عليه عبد الله النعيم بنيان كتابه ومساهمته الأصيلة في مسألة الشريعة أو القانون الإسلامي العام "وهو شأن كل تلميذ نجيب ذكي لقائد مرموق من قادة الفكر، لم يتوقف عند المدى الذي وصل إليه أستاذه، ولا أبقى الفكرة على الحال الذي تركها عليه ذلك المفكر، وإنما اتجه بكل إخلاص وهمة إلى إنماء الفكرة  وتطويرها للوصول بها إلى نتائجها المنطقية، وتطبيقها على مجالات متنوعة، فهو هنا إذن يؤدي إزاء محمود محمد طه دور أفلاطون إزاء سقراط (......) وقد كان وصفنا إياه بالمزيج من باب الاستسهال، وبسبب إصرار المؤلف الكريم في حوارياتي معه على نسبة كل فضل إلى أستاذه، غير مقارنة كتاب طه بكتاب النعيم كفيلة بأن تسهل بعض الشيء من إدراكنا لحقيقة بعض الإضافات الجوهرية البناءة والإبداعية للنعيم،" ثم يمضي حسين أحمد أمين قائلا "وأضيف هنا قولا أكاد أكون واثقا أن الدكتور النعيم سيستاء منه وسيرفضه ويزور بوجهه عنه، وهو إن إعجابي بكتابه فاق إعجابي بكتاب "الرسالة الثانية من الإسلام" وأما سبب ذلك فأذكره وأنا أكاد أكون واثقا من أن بعض القراء من العرب سيستآؤون منه، وهو أن كتاب النعيم كتب أصلا باللغة الإنجليزية وهي لغة لا تكاد تسمح بالأسلوب الخطابي الإنشائي الفضفاض الذي تميز به للأسف كتاب الزعيم السوداني الراحل، ولا يستسيغ قراؤها الابتعاد عن معايير الفكر المحدد الدقيق".
 وعبد الله النعيم يعتبر الآن من أميز المثقفين السودانيين وأنشطهم وأكثرهم إنتاجا ولقد أنجز الكثير منذ أن غادر الخرطوم في عام 1985. ويعتبر النعيم وجها مشرفا للمفكرين السودانيين في المحافل الإقليمية والدولية ولقد أنجز الكثير من البحوث عن الفكر الإسلامي وحال المسلمين المعاصرين وحقوق الإنسان وقضايا الديمقراطية وصدر له إلى جانب الكتاب الذي نحن بصدده مؤلف آخر بالإنكليزية عن الإسلام والدولة العلمانية ترجم إلى الاندونيسية وتجرى ترجمته حاليا إلى ست لغات أخرى. ولا يكتفي بالتدريس والبحث في معهده فحسب حيث يشرف على مشروعات بحث لطلاب من جميع أنحاء العالم الإسلامي في قضايا على درجة عالية من الحيوية ويمكن الرجوع لموقعه في جامعة أيموري على الإنتيرنت، بل يجوب العالم الإسلامي وغير الإسلامي يلقى المحاضرات وأوراق البحث ويشارك في المؤتمرات التي تتناول قضايا إشكالية في القانون الدولي أو التحرر الإنساني عموما ولقد ترجم إلى الإنكليزية كتاب الأستاذ محمود العمدة "الرسالة الثانية من الإسلام" وترجم إلى العربية رواية فرانسيس دينق "طائر الشؤم" وقد قال في ذلك في مقابلة متميزة أجراها معه الصحفي صلاح شعيب نشرتها جريدة الصحافة في مايو 2008، "إني أعتقد أن د. فرانسيس دينق قد قدم مساهمات قيمة للغاية في مجالات القانون والانثروبولجيا ودراسات الهوية والسلام على المستوى الأفريقي والسوداني بخاصة، ولعله من دواعي محن السودان المتواصلة أن أفكار خيرة أبنائه وبناته، مثل الدكتور فرانسيس دينق، غير معروفة لدى غالبية المتعلمين السودانيين ولقد كانت ترجمتي لرواية "طائر الشؤم" محاولة مني في التعريف بفكر وأدب الدكتور دينق بين قراء العربية في السودان والمنطقة العربية عموما" وللمفارقة فإن ما قاله دكتور عبد الله النعيم عن دكتور فرانسيس دينق ينطبق عليه هو أيضا فمن دواعي محن السودان المتواصلة حقا أن يؤلف أحد أبنائه كتابا يترجم إلى ثمان لغات عالمية ويكون غالبية المتعلمين السودانيين لم يسمعوا به، بل أن بعض الصحفيين يستنكر على بعض الصحف الاحتفاء به أو استضافته في منبرها ليتحدث عن أطروحته الجديدة المنشورة في الكتاب المترجم إلى ثمان لغات فتأمل!
قبل أن نشرع في استعراض كتاب "نحو تطوير التشريع الإسلامي" ينبغي أن نذكر بأن ما يميز مساهمات واجتهادات الدكتور عبد الله النعيم، إذا كانت في مجال الفكر أو التشريع الإسلامي أو القانون وحقوق الإنسان والديمقراطية أنها أصيلة وغير مسبوقة، على الرغم من قيامها كما هو الحال في الكتاب الذي نحن بصدده على المنهجية التي وضعها الأستاذ محمود في الفكرة الجمهورية عموما، ولكن الدكتور النعيم استطاع تقعيدها وصبها في قالب منهجية حديثة اتيحت له بوصفه مختصا في القانون وهذا أمر تميز به على الأستاذ محمود نفسه. ضف إلى ذلك أن حجة الدكتور النعيم أمام الآخرين في المحافل الدولية والإقليمية التي تتناول قضايا حقوق الإنسان أو التشريع أو الديمقراطية حجة نابعة من مرجعية إسلامية لا تقوم على الفهم الاعتذاري السائد عند الكثير من المفكرين التقليديين أو المنهج التلفيقي للإصلاحيين المحدثين للحاق والمواكبة للمقولات الحديثة النابعة من الفكر الغربي في الغالب الأعم فهو لا ينطلق عندما يطرح حجته عن إحساس بالنقص أو شعور بالجميل كما أنه يقدم إسهامه دون إحساس بالتعالي أو الإقصاء ولكنه إسهام من منطلقاته الثقافية والفكرية يتكامل مع جهود غيره في الإطار الإنساني العريض وفي ذلك يقول " كذلك يجب أن نرى تنوع الهوية وتعددها في حالة الفرد الواحد والجماعة، فإنا سوداني وذلك يعني أني أفريقي ومسلم وأتحدث العربية وأتفاعل مع قضايا التحرر الأفريقي والعربي وكذلك انتمي إلى حركة حقوق الإنسان العالمية ومناهضة الاستعمار والسعي لتحقيق التنمية الشاملة، كل ذلك في تساند وتعاضد مع أناس من مختلف أنحاء العالم" من مقابلة جريدة الصحافة المذكورة أعلاه.
يتكون الكتاب من مقدمة كتبها المؤلف خصيصا للطبعة العربية وسبعة فصول.  ولقد أورد المؤلف في مقدمة الطبعة العربية أنه قد آثر الكتابة بالإنكليزية في البداية لسهولة النشر بهذه اللغة ولضمان أن تنال الأفكار الأصيلة في قضايا الحكم وحقوق الإنسان من المنظور الإسلامي المعاصر التي كان قد كتبها أثناء فترة منحة للبحث العلمي من معهد ودرو ويلسون حظا من الانتشار لدى المسلمين في جنوب وجنوب شرقي آسيا وهم غالبية المسلمين على نطاق العالم اليوم, ولا يزال دكتور النعيم يولي هذه القطاعات من المسلمين اهتماما كبيرا فيما يكتب وينشر. ويقرر الدكتور النعيم في مقدمة الكتاب وفيما يطرح من أفكار أنه لا علاقة لأي من أعضاء ما كان يعرف في السودان بحركة الإخوان الجمهوريين بالكتاب أو ما يطرح من أفكار ويقدم كل مساهماته على مسؤوليته الفردية والخاصة، يفعل ذلك من منطلق اعتقاده بأن فكر ونموذج أستاذه محمود محمد طه هو ملك لعامة المسلمين وللإنسانية جمعاء. وسنستعرض ما جاء في فصول الكتاب في قادم الحلقات بإذن الله.
أسامه عثمان
نيويورك 17 يناير 2009
عن جريدة الصحافة الثلاثاء 17 فبراير 2009


 

 

آراء