القارة السمراء والمحكمة الجنائية …
20 February, 2009
kamal.bilal@hotmail.com
تسير كينيا بخطى حثيثة نحو الخضوع لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية في ملاحقة كبار المسؤولين عن أحداث العنف التي شهدتها البلاد عقب الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2007، فقد رفض البرلمان الكيني مؤخراً تشكيل محكمة جنائية خاصة لملاحقة المسؤولين عن تلك الأحداث التي أودت بحياة أكثر من «1500» شخص، واغتصاب حوالي «3000» إمرأة، وتهجير مئات الآلاف قسراً عن قراهم وتهديم وحرق منازلهم. وكانت لجنة تحقيق وطنية بقيادة قاضي محكمة عليا قد أوصت بملاحقة عشرة من صفوة المجتمع الكيني منهم سياسيون ورجال أعمال للاشتباه في قيامهم بالتنسيق مع بعض رجال الشرطة بتنظيم هجمات على مواطنين على أساس عرقي وقبلي. وقد سلمت لجنة التحقيق نسخة من تقريرها النهائي للأمين العام السابق للأمم المتحدة «كوفي عنان» الذي توسط في الأزمة السياسية بين الرئيس الكيني «مواي كيباكي» ومنافسه «رايلا اودينجا» بشأن صحة نتائج الانتخابات الرئاسية التي شكك الإتحاد الأوربي في نزاهتها.
يمكن إرجاع قرار البرلمان الكيني رفض تشكيل محكمة جنائية خاصة إلى خوف السياسيين من فتح الجراح القبلية غير المندملة بعد، أو ربما لعدم ثقتهم في عدالة القضاء الوطني، ومهما تكن دوافع القرار فإنه فتح الباب على مصراعيه لانعقاد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي وذلك على أساس عدم وجود إرادة سياسية لملاحقة المتهمين أمام القضاء الوطني. وكما هو معلوم فإن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يقوم على مبدأ التكامل مع القضاء الوطني للدول، بحيث لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التدخل إلا في حال لم يرغب القضاء الوطني أو لم يكن قادراً على النظر بشكل ملائم في جرائم تدخل في نطاق اختصاص المحكمة. وبالنظر إلى هذه الحالة فإن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لا مفر منه إذا أخذنا في الاعتبار أن كينيا عضو في المحكمة منذ مصادقتها في مارس 2005 على ميثاق روما المؤسس للمحكمة.
يشتكي بعض قادة القارة الأفريقية من أن المحكمة تستهدف قارتهم دون غيرها، فهي تنظر حالياً في أربعة ملفات جميعها أفريقية. ويرى رئيس جمهورية بنين «توماس بوني» أن المحكمة تتحرش بالمسئولين الأفارقة، وأن لديه إحساساً بأنها تطارد القارة. وقد وصل سوء ظن بعض القادة الأفارقة بالمحكمة مبلغاً عظيماً لدرجة اتهام رئيس رواندا «بول كيغامي» لها (بأنها أنشئت خصيصا للدول الإفريقية والفقيرة دون غيرهما مما يجعلها شكلاً جديداً من أشكال الاستعمار والعبودية حيال القارة السمراء). في مقابل ذلك يرى آخرون أن تفرد المحكمة بالنظر في قضايا تقع في القارة يرجع لطبيعة الصراعات الدموية التي تشهدها القارة، حيث أن جرثومة العنف تنتقل من بلد أفريقي إلى آخر. ويمثل هذا الاتجاه المحامي الفرنسي من أصل ليبي «هادي شلوف» الذي يرى أن موقف بعض القادة الأفارقة المعارض للمحكمة ينبع من خوفهم من أن يتم استهدافهم مستقبلاً من قبلها بسبب أفعالهم في حق شعوبهم.
بالنظر إلى تنامي الصراعات التي تشهدها القارة الأفريقية حول السلطة والثروة وتكالب القوى الأجنبية على الموارد الطبيعية للقارة في ظل الأزمة المالية العالمية وشح الغذاء، تواجه القارة تحديات جساماً لا مناص من التصدي لها، فلابد للسياسيين من القيام بواجباتهم حيال تقسيم السلطة والثروة وتوفير الأمن للمواطنين ونزع فتيل الصراعات الإثنية حتى لا تعطى القوى الإقليمية والدولية ذرائع للتدخل في شؤونهم الداخلية، فغنى القارة بالموارد الطبيعية وطمع الدول الغربية فيها وصراعها عليها جلب إليها ما يمكن تسميته بلعنة الموارد. كما يقع على عاتق الأجهزة العدلية الوطنية وأجب إنفاذ القانون ومعاقبة المسؤولين عن الجرائم الجماعية حتى لا يقرع المدعي العام للمحكمة الجنائية على أبواب دول القارة باباً بعد باب، حيث أن هنالك حتى الآن «30» دولة أفريقية عضو في المحكمة الجنائية الدولية، ويمثل هذا العدد نسبة «58%» من إجمالي الدول الأفريقية البالغ عددها «53» دولة، وقد تنازلت تلك الدول عن علم أو جهل منها عن جزء من سيادتها الوطنية وجعلت مواطنيها بمن فيهم المسؤولون الرسميون عرضة للملاحقة الدولية دون حصانة في حال تقاعس القضاء الوطني أو فشله في ملاحقة المشتبه في ارتكابهم جرائم تقع تحت اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وخطورة هذه الأوضاع أنها تأتي في زمن عسكرة العلاقات الدولية وتطويق القارة السمراء بحبل من مسد القانون الدولي لا تستطيع له فكاكاً.