نحو تطوير التشريع الإسلامي ( 2-3) … بقلم: د. أسامة عثمان، نيويورك

 


 

د. أسامة عثمان
25 February, 2009

 


Ussama.osman@yahoo.com
قلنا في المقال الأول أن كتاب البروفيسور عبد الله أحمد النعيم "نحو تطوير التشريع الإسلامي - الحريات المدنية وحقوق الإنسان والقانون الدولي" يعد من أهم ما صدر من كتب في عقد التسعينات من القرن الماضي. ولقد استعرضنا ظروف صدوره باللغة الإنكليزية تحت عنوان (Toward an Islamic Reformation)، ثم الترجمة العربية التي قام بها وقدم لها الكاتب المعروف حسين أحمد أمين وصدرت عن دار سينا في عام 1994. ثم نوهنا لأهمية ما يقوم به دكتور النعيم من أعمال في تأصيل قضايا حيوية في الفكر والتشريع الإسلامي من خلال أعماله الأكاديمية وغيرها. وفي هذا المقال، سنستعرض القضايا التي تناولها الكتاب في موضوع تطوير التشريع الإسلامي. يقر الدكتور النعيم بدءَ ببعض المبادئ العامة التي مثلت الفرضية التي قام عليها الكتاب وهي أن للشعوب الإسلامية، في عالمنا المعاصر، حق ممارسة حقها الجماعي الشرعي في رسم مصيرها في إطار هوية إسلامية بما في ذلك تطبيق الشريعة الإسلامية إن أرادت ذلك، شريطة ألا تنتهك الحق الشرعي لأفراد أو جماعات داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها في إطار علاقات الدولة القومية الحديثة. ثم يقرر أن المحاولات المستمرة في القديم والحديث لإصلاح جوانب الشريعة المتعلقة بالقانون العام والتجارب الحديثة لتطبيق الشريعة الإسلامية في المجال العام أثارت من مشكلات أكثر مما قدمت من حلول ولم  تستطع أي تجربة إسلامية أن تحل المعضلات القانونية التطبيقية التي سيفصلها في الكتاب ويقدم دعواه على أنه يهدف للمساهمة في مهمة تغيير مفاهيم المسلمين ومواقفهم  وسياساتهم على أسس إسلامية لا على أسس علمانية، ذلك أنه ما لم يقع إصلاح حقيقي يقوم على مفاهيم حديثة على أساس ديني مقبول فإن المسلمين سيواجهون حاضرا ومستقبلا بخيارين لا ثالث لهما: إما تطبيق القانون العام للشريعة التقليدية رغم نقائصها والمشكلات التي تترتب عليها أو التخلي عن القانون العام الإسلامي وتطبيق قانون علماني. ويرى المؤلف أن البديلين غير مقبولين ويأمل أن يوفق في المواءمة بين التزام المسلمين بالقانون الإسلامي وبين إنجازات وثمار العلمانية في إطار ديني. وقبل أن يشير أحدهم إلا التناقض في الحديث عن "العلمانية في إطار ديني" باعتبار أن العلمانية تعني قصر الدين على مجال الاعتقاد الشخصي يزعم المؤلف أن تشخيص ومعالجة المشكلات التي أسهمت في ظهور العلمانية قد يمكننا من إضفاء الشرعية الدينية الإسلامية على القانون العام في الدول الإسلامية بعد استئصال المشكلات المتصلة تاريخيا بالربط الوثيق بين الدين والسياسة. وهنا يقدم فرضية أخرى يناقشها في متن الكتاب وهي أن القانون العام في الشريعة كما طوره الفقهاء المسلمون المؤسسون لهو في حقيقته نظام وضعي ولا ينبغي أن يكون مقدسا دينيا. وعليه فإنه يرى أن من الممكن تنحية بعض جوانب الشريعة دون المساس بالمقدسات الدينية لدى المسلمين. ويفرد فصلا في تتبع مصادر الشريعة ونشأة الفقه الإسلامي باعتبارهما نظاما قانونيا دينيا مؤكدا على أهمية القرآن والسنة كمصدرين أساسيين للتشريع في الإسلام ويناقش المصادر الأخرى كالإجماع والقياس والاجتهاد والمصادر الثانوية مثل الاستحسان والاستصلاح الاستصحاب والضرورة والعرف. كما يعرض لرأي الشيعة في هذه المسائل وأوجه الاختلاف والتشابه وهذا أمر يدل على استقصائه للأمر من جميع نواحيه لأن الكثير من الكتاب المسلمين يكتفون بإيراد آراء فقهاء أهل السنة باعتبار أن ذلك رأي الإسلام.
وتسهيلا للعرض والمناقشة يفيدنا المؤلف بأن تقسيم القانون إلى "قانون عام" و "قانون خاص" كما عرفه القانون الروماني وأخذت به الأنظمة القانونية الأوروبية الحديثة لم يكن معروفا لدى فقهاء المسلمين الذين قعدوا قوانين الشريعة حيث أنهم لم يميزوا أبدا بين مجالي القانون العام والخاص وأن النذر المتفرقة التي يمكن أن تدخل في إطار القانون العام هي أقل جوانب الشريعة تطورا ويحصر المؤلف المناقشة في المسائل المتعلقة بالشريعة في المجالات العامة والتي يعني بها النظام الدستوري والعدالة الجنائية والعلاقات الدولية وحقوق الإنسان وكلها تدخل في إطار القانون العام وفقا للتعريف الحديث وذلك في مقابل المسائل المتصلة بالممارسة الدينية أو القانون الخاص مع إقراره بعدم إطلاقية هذا التصنيف وتداخل المجالات القانونية وتفاعلها كما هو الحال في قوانين الأسرة والمواريث التي تدخل في مجال القانون الخاص ولكنها تؤثر وتتأثر بمسائل دستورية في مجال القانون العام. ويفرد المؤلف لكل مجال من مجالات القانون الإسلامي العام الأربعة أعلاه فصلا يناقش فيه ما قال به المسلمون في القديم والحديث وما عاشوه في تجاربهم التاريخية والماثلة والمشكلات القائمة على مستوى التنظير وعلى مستوى التطبيق قبل أن يخلص إلى تقديم ما يراه مخرجا.
ويورد المؤلف أمثلة من المجالات الأربعة للقانون العام: الدستورية والعدالة الجنائية والعلاقات الدولية وحقوق الإنسان. ففي مسألة الدستورية يناقش قضايا تثير مشكلات في الدولة القومية الحديثة التي تمثل الإطار الوحيد الباقي والممكن لشكل الدولة الإسلامية، وفي إطار ذلك يناقش مسألة السيادة ومسألة المواطنة ووضع المسلمين من حيث وضع النساء والرجال في ظل الشريعة، كذلك وضع غير المسلمين في ظل دولة الشريعة سواء أكانوا من الرعايا أو الأجانب كل ذلك في إطار مبدأ "المساواة أمام القانون" إلى جانب سلطات الحاكم الإسلامي ومشاركة الشعب في السلطة وغير ذلك من قضايا الدستورية ونظم الحكم.  ويستعرض المشكلات التي تعيشها محاولات تطبيق الشريعة في كل مظهر من مظاهر الدستورية هذه. فمسألة الأقليات غير المسلمة مثلا لم تجد الشريعة لها حلا في أي تجربة مطبقة أو في أحكامها النظرية تبعا لما هي عليه الآن. فالتمتع بالمواطنة الكاملة الذي كفله لها القانون العلماني لن تتنازل عنه لتقبل بالوضع الأدنى الذي تقضي به الشريعة إن أحلت محله. وسيساندها في هذا المطلب المجتمع الدولي وشطر كبير من مواطني البلد نفسه من المسلمين وما تجربة السودان ببعيدة عن الأذهان.
معضلة أخرى لم تجد لها الشريعة التقليدية حلا ذات ارتباط بقضية دستورية هي وضع المرأة. فالمرأة قد اكتسبت حقوقا في التعليم وفي الحياة العامة تحت ظل الأنظمة العلمانية لن تقبل بأقل منها إن طبقت الشريعة كما هي منصوص عليها. بل أنه يشير إلى أن الرجال المسلمين أنفسهم (وهم وحدهم الذين سيتمتعون بالمواطنة الكاملة في دول إسلامية تطبق الشريعة) سيفقدون بعضهم حقوقهم الدستورية الأساسية متى ما عادت الشريعة قانونا عاما في بلادهم، ومن ذلك تأثر حقوق الاعتقاد والتعبير والاجتماع وقانون الردة وتزايد سلطات الحاكم في ظل الشريعة. وهذه النواحي كما ترى لا تتصل بمسألة الدستورية فحسب ولكنها تدخل أيضا في باب العدالة الجنائية وحقوق الإنسان وفي علاقات القانون الدولي في متسوى من المستويات.
وعلى مستوى العلاقات الدولية في ظل دولة الشريعة فإن المؤلف يعرض لتناقضات وتوترات معينة في ظل دولة الشريعة التقليدية مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي القائمة على تنظيم العلاقة بين الدول وفقا لمبادئ المساواة  والعدالة من أجل تعزيز التعايش السلمي وخدمة الدولة ورخائها. والدول في حالة تطوير مستمر لتشريعاتها الداخلية لتتوافق مع هذا الغرض العام للقانون الدولي والمسلمون ليسو استثناء من ذلك إن أرادوا أن يحكموا شريعتهم باعتبارها قانونا داخليا ينبغي أن ينظروا فيه ليروا كيف يوائمون بينه وبين التزامات العلاقة مع الآخرين. ومن مناطق التوتر إن طبقت الشريعة الإسلامية التقليدية فإنها تبيح استخدام القوة في سبيل نشر الإسلام وتقسم العالم إلى دار إسلام ودار كفر وبالتالي لا تعترف بالسيادة المتساوية للدول غير الإسلامية وفي ذلك رفض للمبادئ الأساسية للقانون الدولي.  ويمكن أن يذكر هنا أيضا مثالا يدخل في إطار العدالة الجنائية وحقوق الإنسان والعلاقات الدولية وهو أن الرق في ظل الشريعة يمكن أن يعاد تبنيه متى توافرت الشروط الشرعية لهذا النظام لأنه لم يلغ قانونا في الشريعة وإن كان قد انتهى فبسبب تطور الظروف. وبديهي أن الشريعة لم تبتكر الرق وقد عرفته كغيرها من الحضارات السالفة وقد كانت هنالك ظروف ومبررات لوجوده لم تعد قائمة الآن ولكنه ظل قائما في الشريعة التقليدية من الناحية القانونية حتى وإن اختفى من الممارسة في جميع البلدان الإسلامية. ويرجع الفضل في ذلك للقانون العلماني الذي حرمه وحاربه حتى زال ولم يختف بسبب أن الشريعة قد حثت على العتق وحسن معاملة الأرقاء. وبعد تفصيل مطول من المؤلف يبين فيه بأن الرق لم يلغ كنظام قانوني في الشريعة يشير إلا أن هذا أمر لا يمكن القبول به عقلا في عالم اليوم ولا وسيلة لإلغائه من خلال الآليات الداخلية للشريعة، ولك أن تتخيل نظاما دستوريا لا يمنع الرق قانونا في ظل القانون الدولي السائد اليوم وشرعة حقوق الإنسان! ولكن المؤلف يرى أن الحل لهذه المعضلة موجود في الإسلام وفق منهج التطوير الذي يقترح والذي يعتبره المخرج من كل هذه المآزق والذي سنعرض له لاحقا. 
وفي مجال حقوق الإنسان والشريعة وهي من المجالات التي كرس لها المؤلف جزءَ من وقته وجهده وبحث فيها كثيرا خلص إلى أن غالبية الكتاب المسلمين عن قضايا حقوق الإنسان ينحون في كتاباتهم عادة إلى التهرب والمواراة، إلى أنه نوه إلى قلة من الكتاب المسلمين المحدثين انتهجت سبيلا أكثر أمانة وصراحة منها كتيب صغير لباحث هندي هو حسين تبنده بعنوان "التعليقات الإسلامية على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" يبين فيه بشكل واضح التناقض بين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 مع الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بحقوق المرأة  وبحقوق غير المسلمين ويذهب حسين تبنده إلى أن المسلمين غير ملزمين باحترام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في هذه المجالات. وهنا يبين دكتور النعيم أنه يرى أن الشريعة هي التي ينبغي تصحيحها من منظور إسلامي حتى تتضمن هذه الحقوق العالمية للإنسان، ويذكر، كما هو حال دائما بعد تبيان التناقضات في الشريعة التقليدية، أن الإصلاح المطلوب ينبغي أن يحتفظ بشرعيته الإسلامية إن أردنا له أن يكون ذا فاعلية في تغيير مواقف المسلمين وسياساتهم تجاه هذه القضايا.
ومن ناحية عامة، فإن المؤلف قد بنى حجته على ضرورة تطوير التشريع الإسلامي بعد أن أبان بعد قراءة متأنية لما كتب في مسائل القانون العام في القديم والحديث ومحاولات الإصلاح الإسلامي وقراءات بعض الباحثين من غير المسلمين إلى جانب إطلاعه على تجارب حديثة لمحاولة تطبيق الشريعة في إطار الدولة القومية الحديثة وخلص إلى بيان المناطق التي لم تستطع الشريعة التقليدية ودعاتها تقديم إجابات شافية فيها لمواطنيها قبل أن تكون للآخرين.
والمسائل التي أثارها المؤلف والتي أوردنا لها أمثلة ليست جديدة  ولكن لا يمكن يمكن الرد عليه فيها على طريقة ردود "شبهات حول الإسلام" فالمؤلف صاحب مرجعية إسلامية ومنهج إسلامي وإلمام بالقضية من جميع أطرافها فلا يجوز وصفه بالجهل أو الغرض كما يجري الحال عندما يتعرض المستشرقون أو الغربيون أو ما يسمون بالعلمانيين عموما لمعضلات أساسية لم تجد الشريعة الإسلامية التقليدية لها حلا بعد، ولن تجد، أن استخدمت منهجها التقليدي في الإصلاح فيما يرى المؤلف. ولكنه يرى أنه لا مناص من تعديل القانون العام في الدول الإسلامية لأن هناك دعوة متزايدة إلى إعادة تطبيق الشريعة الإسلامية بوصفها القانون العام للدول الإسلامية يقر المؤلف بمشروعيتها على الرغم من توقعه أن يكون مآلها الفشل لاعتقاده بتناقض القانون العام للشريعة الإسلامية مع حقائق الحياة المعاصرة ولكنه يبشر، على غير نهج العلمانيين، بحل من داخل الإطار الإسلامي نفسه وفقا لمنهج وفهم جديدين وهذا سيكون موضوع المقال القادم بإذن الله.
أسامه عثمان، نيويورك
نقلا عن جريدة الصحافة بتاريخ الثلاثاء 24 فبراير 2009،
للإطلاع على مقالات أخرى للكاتب انقر هنا


 

 

آراء