العدالة أم السلام؟ (1- 2) … بقلم: د. أسامه عثمان، نيويورك
1 April, 2009
دعيت لحضور ندوة عقدت في نيويورك في الأسبوع الماضي عن "كيفية استدامة اتفاقيات السلام" عقدت بالتشارك بين إدارة الشؤون السياسية بالأمم المتحدة وأكاديمية فولك بيرنادوت السويدية المختصة في تطوير جهود الوساطة وحل النزاعات لتحسين إدارة الأزمات الدولية. وسميت الأكاديمية بهذا الاسم تخليدا للمواطن السويدي فولك بيرنادوت الذي كان أول وسيط للأمم المتحدة في الشرق الأوسط ونجح في التفاوض لوضع اتفاق الهدنة الأول في فلسطين عام 1948 وكان بصدد وضع الخطة الثانية عندما اغتيل فيما يعرف حاليا بالقدس الغربية لان القدس لم تكن مقسمة وقتها. ولم يقبض على الجناة ولكن التحريات أثبتت أن القتلة كانوا من رجال عصابة أشتيرن التي كان من أبرز أعضائها مناحيم بيغن وإسحاق شامير التي رأت فيه العقبة الأساسية في مخططها لضم القدس بكاملها والتوسع في أرض في فلسطين التاريخية كما يقولون. كشأن مثل هذه الملتقيات كان هنالك جانب نظري يستعرض آخر التطورات في علم التفاوض وشروط النجاح في استمرارية الاتفاقات بعد توقيعها وأسباب نجاح بعض الاتفاقيات وفشل البعض الآخر. وكان هنالك جانب عملي تناول بعض التجارب المعروفة في مجال التفاوض لإحلال السلام في بعض البلدان مع اشتراك من كانوا في أطقم المفاوضات أو تطبيقها في حوار مباشر مع المشاركين. وعلى الرغم من أن التركيز كان على تجارب أخرى مثل نيبال وسيراليون وليبريا وأنغولا وغيرها لكن السودان وتجاربه، فشلا ونجاحا، كانت حاضرا باستمرار في استشهادات المستشهدين. فقد سيقت اتفاقية شرق السودان نموذجا لنوع الاتفاق الذي يتجاوز المرحلة الأولى وهي الاتفاق الإطاري ليتحول إلا اتفاقية تمهيدية لم تشتمل على آليات تنفيذ أو آليات رصد ومتابعة ومعالم لقياس ما نفذ منها أو لم ينفذ. وسيقت اتفاقية أبوجا بين الحكومة وبعض فصائل حركات دارفور كنموذج للاتفاقيات العرجاء التي تتنكب الطريق منذ لحظة انطلاقها. واستشهد بالاتفاق الذي تم بين الحزب الحاكم في السودان وحركة التمرد في الجنوب نموذجا لاتفاق السلام الشامل الذي يعتبر أعلى مرحلة في مراحل اتفاقيات السلام. وتطبيق هذه الاتفاقية لم يخضع لتقييم كامل بعد لأنه لا يزال مستمرا وأحرز نجاحات في بعض الجوانب وإخفاقات في جوانب أخرى ولكن مساره ومنتهاه سيمثل نموذجا للدراسة إن نجح في أن يؤسس لتحول ديمقراطي يقود إلى تداول سلمي للسلطة في إطار دولة سودانية موحدة أو يقود لانفصال لدولتين لا يعلم أحد ماذا ستكون العلاقة بينهما لان ذلك يخرج من إطار اتفاق السلام. وإن لم ينجح سينضم إلى قائمة الاتفاقات الفاشلة التي تمثل مستودعا للدراسة واستنباط العبر.من بين الأشياء التي وردت في المناقشات مسألة العدالة والسلام في المفاوضات وما بعدها وربما يكون من المفيد تناول تجارب مضى عليها بعض الوقت وصار من الممكن إخضاعها للدراسة والتحليل ولا شك أن في ذلك بعض الفائدة بسبب أن الأمر قد تجدد طرحه بشكل ملح بعد صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف رئيس جمهورية السودان. سنتناول في هذه المقال معالجة مسألة العدالة في مفاوضات السلام من خلال نموذجين بارزين في علم حل النازعات وهما اتفاق السلام الشامل في كل من سيراليون وليبريا. بدءا ينبغي أن نذكر بأن مفاوضات السلام لا تقترحها أو تبادر بها الأمم المتحدة في الكثير من الأحيان، فهنالك الكثير من الاتفاقيات تمت بمعزل عن الأمم المتحدة مثل اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل أو الأردن وإسرائيل أو اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية وفي القارة الأفريقية هنالك الكثير من الاتفاقات التي تمت بعيدا عن الأمم المتحدة منها الاتفاق في ليبريا وسيراليون والسودان ولكن الأمم المتحدة تعلب دورا في معظم الاتفاقيات بعد توقيعها ولضمان حسن تطبيقها. وصراعات سيراليون وليبريا من النوع الذي يتجاوز حدود البلد الواحد ليؤثر في الدول المجاورة فيصير صراعا إقليميا. تعتبر مسألة المحاسبة على الفظائع التي ارتكبت أثناء فترة الصراع وما يتبعها من أضرار جسيمة تترتب على أعداد كبيرة من أفراد الشعب العريض بل على المشاركين في الصراع أنفسهم من أصعب العقبات عن الدخول في مختلف مراحل التفاوض على حل لإيجاد وضع جديد والتأسيس للسلام. نسبة لصعوبة هذا الأمر كثيرا ما يتم إهماله أو السكوت عنه في الاتفاق النهائي مثال ذلك اتفاق السلام الشامل في السودان الذي سكت تماما عن الفظائع التي وقعت أثناء سنين الحرب الطويلة والانتهاكات التي قام بها الطرفان. وبعض الاتفاقات تنص على عفو عام يشمل الجميع وتعتبر فيه العدالة ببساطة ثمنا للسلام وبما أن ذلك يعني في الكثير من الأحيان التضحية بالعدل والمحاسبة والتغطية على منتهكي حقوق الإنسان من كل الأطراف. تنص بعض الاتفاقيات على شكل من أشكال الترتيبات غير القضائية مثل إنشاء لجان للحقيقة والمصالحة وتكوين لجان للتعويضات وجبر الضرر وفحص دخول المحاربين المسرحين لأجهزة الجيش والشرطة لاستبعاد أصحاب السجل السيئ في مجال حقوق الإنسان. ولقد تطورت هذه الترتيبات في الآونة الأخيرة لتشكل فرعا جديدا من فروع علم حل النزاعات وإدارة الأزمات صار يعرف بالعدالة الانتقالية. ولقد صاحب هذه التطورات تطور موازٍ في القانون الدولي أدى لرفض مبدأ العفو العام للانتهاكات الخطيرة مثل الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب الكبرى والإبادة الجماعية. ولقد أصدرت الأمم المتحدة موجهات واضحة لممثليها لعدم تأييدهم لهذا الاتجاه للعفو الشامل، ولقد دار نقاش في أوساط الأمم المتحدة عن إن كان من المناسب أن يشهد ممثل الأمين العام حفل توقيع اتفاق نيفاشا أو أن يغيب عنه لأنه أهمل تحديد آلية للمسآلة في قضايا الانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان أثناء فترة الحرب وهل يعتبر حضوره مخالفا للموجهات الصادرة في هذا الصدد.وقاد كل ذلك إلى التفكير في المحاكم الدولية الخاصة ببلد معين مع وجود مكون محلى كما في محكمة أروشا أو محاكم مختلطة كما هو الحال في محكمة سيراليون أو المحكمة الخاصة باغتيال الحريري وما تبعه من اغتيالات أخرى ثم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية التي كان يفترض أن تكون بديلا للمحاكم الخاصة ولكن التعثر الذي تواجهه حاليا جعل فكرة المحاكم المختلطة لا تزال حية. والسبب الرئيسي في غياب مسألة العدالة الجنائية في مفاوضات اتفاقيات السلام هو إصرار الأطراف أو أحد الأطراف على عدم تضمين ذلك والتهديد بمغادرة طاولة المفاوضات عند الحديث عن هذا الأمر. كما أن التهديد بتضمينه قد يستخدم من أحد الأطراف في ديناميكية التفاوض كعنصر ضغط على الطرف الآخر وما تصريحات خليل إبراهيم في الدوحة وعند بدء الجلسات بأن مسار العدالة الدولية ينبغي أن يسير في شكل مواز للمباحثات في الدوحة وعن استعدادهم للقبض على رئيس الطرف الآخر المطلوب للعدالة الدولية، هذا فضلا عن التصريحات الأخيرة التي جعلت الحركة تستصحب هذا الجانب كشرط لاستئنافها للمفاوضات. وربما تكون هنالك أسبابا أخرى تقود إلى إهمال مسألة العدالة مثل عدم الإلمام بالوسائل المتاحة للأطراف وفريق التفاوض أو استعجال الوسطاء للتوقيع قبل أن تتعقد الأمور أو وجود جانب إنساني ضاغط. كثيرا ما يستشهد أوكامبو في سعيه اللاهث لصدور قرار التوقيف وتنفيذه إلى أن هناك ظرف إنساني ضاغط ذلك أن الناس يموتون في دارفور بالآلاف ولا يمكن الانتظار. من المفارقة أن الحجة نفسها يستخدمها بعض الوسطاء لاستبعاد مسألة العدالة من مفاوضات السلام لأن البحث في مسألة العدالة يعوق الوصول إلى اتفاق.يمثل اتفاق السلام في سيراليون لعام 1999، واتفاق السلام في ليبريا لعام 2003، نموذجين ناصعين للإشكالات التي ذكرنا أعلاه. فالصراع في البلدين متشابه من حيث اتساع نطاق الانتهاكات ومن حيث أن أقطاب تلك الانتهاكات كانوا من أقطاب مباحثات السلام وما تبعها من ترتيبات انتقالية. وعلى الرغم من ذلك، فإن معالجة مسألة المحاسبة اتخذ شكلا مختلفا في كل من الحالتين: نص الاتفاق الذي أنهى الصراع في سيراليون على عفو شامل غير مشروط يشمل حتى الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، كما نص على تكوين لجنة لجبر الضرر وإنشاء صندوق لتعويضات الضحايا وإنشاء لجنة لحقوق الإنسان لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل. وترك أتفاق إنهاء الحرب في ليبيريا الباب مفتوحا لمسألة العفو على أن تنظر فيها الحكومة الانتقالية في سنتي حكمها المقررة، كما نص على إقامة هيئة للحقيقة والمصالحة ولكنه لم يذكر شيئا عن تعويض الضحايا، كما وضع ترتيبات للتحقق من ماضي الأفراد المرشحين للاستيعاب في قوات الأمن من حيث منظور حقوق الإنسان. ولقد قادت عدة أسباب إلى تضمين العفو الشامل في اتفاق سيراليون منها أن المتمردين كانوا على قدر كبير من القوة والقدرة على الحركة السريعة وكانوا قد نجحوا قبل المحادثات بفترة ليس طويلة في شن غارة على العاصمة فريتاون وقاموا بعمليات نهب وقتل واسعة النطاق. والسعي لتحقيق مكاسب عسكرية قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات أمر معروف لدى جميع أطراف الصراعات الحكومي منها والمتمرد. ربما كان دخول حركة العدل والمساواة القصير للعاصمة السودانية هو الذي جعل منهم المفاوض الوحيد من حركات التمرد في المحادثات الأخيرة في الدوحة. وهنالك لسبب آخر لتغليب العفو في الاتفاق الأخير في سيراليون هو أن سيراليون كانت قد شهدت اتفاق سلام قبل ثلاثة أعوام من الاتفاق الأخير اشتمل على عفو شامل، وعليه حضر الجميع للمفاوضات الأخيرة وليس في ذهنهم غير احتمال العفو الشامل.على الرغم من أن ليبريا لم يكن لها ماض مع العفو في الاتفاقات السابقة، إلا أن الفكرة طرحت أثناء المفاوضات كما طرحت فكرة إنشاء محكمة لجرائم الحرب وأفضى تضارب الاتجاهين للاتفاق على لجنة للحقيقة والمصالحة وبالتالي ترك أمر العدالة ليحدد في المستقبل. والجدير بالملاحظة أن الحراك الذي وقع بعد توقيع اتفاقات السلام قد إلى معالجات مختلفة عن ما نص عليه الاتفاق في كلا البلدين حيث أنشئت "محكمة سيراليون الخاصة" بطلب من الحكومة ومساعدة الأمم المتحدة واستثنت جرائم الحرب من العفو ليصبح كبار لوردات الحرب مطالبين للعدالة. وفي ليبريا نص أمر تأسيس هيئة الحقيقة والمصالحة على أن لا توصي الهيئة بالعفو في جرائم الحرب على من يثبت لها ضلوعه في ذلك. مما يذكر أن إنشاء المحكمة الجنائية الخاصة بسيراليون قد لعب دورا في مسار مباحثات السلام في ليبريا. فعندما كانت المباحثات منعقدة أصدرت المحكمة الخاصة بسيراليون أمر توقيف ضد الرئيس الليبيري شارلس تيلور وهو لا يزال في الحكم، كثاني رئيس يصدر عليه أمر توقيف وهو لا يزال في الحكم بعد سلودان ميلوسوفيتش الذي صدر الأمر بتوقيفه وهو لا يزال في الحكم وإن قبض عليه بعد ذلك ببضعة سنوات. كان لصدور أمر توقيف تيلور أثرا ايجابيا على المباحثات لأنه قد هدم أي مصداقية لتيلور واستبعده من أي دور سياسي في المستقبل مما جعل أنصاره يتعاملون مع هذا الواقع الجديد ببراغماتية شديدة ضمنت لهم مكانا في الترتيبات الانتقالية. ولقد وقع تيلور على اتفاق السلام ثم اضطر بعد شهرين من ذلك، للتخلي عن الحكم لأنه صار رئيسا مطلوبا للعدالة، وذلك وفق ترتيبات أفضت إلى إبعاده إلى نيجريا وانتهت في نهاية الأمر بتسليمه للمحكمة حيث يمكث في لاهاي في انتظار أقرب الأجلين الموت أو المحاكمة. ولقد توقع الناس أن يدخل أنصاره إلى العاصمة منروفيا وينشروا فيها الفوضى لتقوية موقف رئيسهم الذي صار متهما في التفاوض ولكن شيئا من ذلك لم يحدث مما جعل قرار التوقيف يسهم إسهاما إيجابيا في عملية السلام وفي التحول الديمقراطي الذي شهدته ليبريا بعد سقوط تيلور وليست كل أوامر التوقيف إيجابية الأثر وهذا ما سنتعرض له في المقال القادم بإذن الله.
أسامة عثمان، نيويورك،