كان شاعرنا الفذ المرحوم التيجانى يوسف بشير اول ضحايا الابتزاز باسم الدين حيث تمّ فصله من الدراسة بسبب الحوار الذى كان دائرا بين محبى شعر شوقى (امير الشعراء) وعشاق شعر حافظ ابراهيم (شاعر النيل) وقد صوّر اديبنا الفرق بين شعر الاول عن الثانى كالفرق بين القرآن الكريم وكلام البشر، وذلك على سبيل صيغ المبالغة الادبية. ومن المعروف ان قصيدته الشهيرة (المعهد العلمى ) قد قامت بتوثيق ذلك الحدث وكشف فيها التيجانى الاسباب الحقيقية التى كانت من وراء الحملة الشعواء والتى حرمته من معشوقه وهو المعهد ، وقد كانت مشاعر الحسد والغيرة هى التى تقف وراء من قاموا بتصعيد حملة (التكفير والشواء الادمى للشاعر). وقد تطوّر هذا النوع من الابتزاز كثيرا بعد ذلك التاريخ وبرغم أن الحزب الشيوعى كان اهم ضحاياه ، لكنى ازعم وللمفارقة ان هذا الحزب لعب دورا فى اضعاف مناعة المجتمع المدنى تجاه العنف ! من المعروف ان الشيخ حسن الترابى وتنظيمه السياسى بمسمياته المختلفة لاحقا من اخوان مسلمين الى جبهة ميثاق و جبهة اسلامية ، قد ادركوا منذ وقت مبكّر سهولة ابتزاز المجتمع المدنى المتسامح فى السودان باسم الدين ، وقد نجحوا فى استخدام العنف تحت راية الجهاد وسلاح التكفير واكتساب مساحات جديدة لتنظيمهم كل يوم ، وقد لعبت ظروف التخلف الفكرى والثقافى دورها فى نمو الظاهرة فى مجتمع شبه امى يشكل الدين نسيجه المعرفى والروحى فى آن. كان الارهاب ينحصر فى مؤسسات المجتمع الحديثة كالجامعات والمعاهد العليا والمدارس الثانوية ويحدثنا تاريخ السودان الحديث ان قضية شوقى او قضية معهد المعلمين الشهيرة فى الستينات كانت هى التالية بعد حادثة التيجانى ولكن هذه المرّة فقد كان الحال مختلفا حيث قام المدعو شوقى بسب الرسول الكريم وآل بيته، وقد التقطت الجماعات الاسلاموية الحدث ونفخت فيه بدعوى شيوعية شوقى الامر الذى قاد فى النهاية الى ازمة طرد نواب الحزب الشيوعى المنتخبين من البرلمان بغير وجه حق ، وقد كانت المسالة قد شكلت اكبر ازمات ما عرف بفترة الديمقراطية الثانية بعد اكتوبر، وكان لها آثارها السالبة فيما بعد. وهى حادثة قد تورّط فيها الجميع ممن يفترض فيهم حماية النظام الديمقراطى من امثال الصادق المهدى الذى رفض الامتثال لراى القضاء حينها ، وحتى المرحوم اسماعيل الازهرى الذى شوهد يقود احدى المظاهرات المنددة بالحزب الشيوعى والمنادية بحله وطرد نوابه !وبرغم من موقف الحزب الشيوعى المادى من التاريخ والذى يؤمن بأن العوامل الاقتصادية هى المحرك الاساسى لعجلته its economic interpretation الاّ ان ذلك الحزب اجتهد كثيرا فى توجيه عضويته باهمية احترام العقائد والاديان وهى حقيقة ثابتة ولا يهم بعد ذلك ان نجيب على التساؤل حول عضوية شوقى فى الحزب الشيوعى لانها ليست بذات اهمية، اذ من المؤكد انه كان سيخضع للمحاسبة اذا لم يتم تصعيد تلك الحملة وبتلك الدرجة من الكثافة ، لأن الاجابة النهائية فيما يخص عضويته فى الحزب من عدمها لن تأتى ابدا، فكشوفات العضوية فى المنظمات الشمولية تعتمد على الذاكرة وعلى درجة عالية من التأمين والسرية لا تقل عن طريقة تأمين تجارة المخدرات .على اية حال فان موقف الماركسية من الاديان يتعارض مع المفاهيم الدينية وهو الذى وضع حاجزا سميكا بين هذا الحزب والجماهير وطوّق عنقه بمأساة كانت الاحزاب الاسلاموية تجد متعة فى شد الطوق لتضييق (الخناق ) على الحزب، او ترخيه عند (الطلب) وحسب حالة تيرمومتر الصراع السياسى، ويحدثنا التاريخ ان الحزب الشيوعى ومنظماته (الجبهة الديمقراطية وسط الطلاب ) كان وما يزال فريسة سهلة للابتزاز باسم الدين ويمكن ايراد نموذجا اخر كحادثة الاستاذة رقية وراق والتى كانت طالبة فى جامعة القاهرة فرع الخرطوم فى ثمانينات القرن الماضى حينما القت قصيدة استخدمت فيها مفردات قرآنية فى رمزية رائعة للاحتجاج على وضع المرأة السودانية ومآلات واقعها المتردى بسبب هيمنة المجتمع الابوى الذكورى ، ولم يكن خطاب رقية الجندرى حينئذٍ استهتارا او تمردا على القيم الاسلامية بأية حال من الاحوال ، وانما كان نقدا يستهدف تغييب مفاهيم الطبيعة المرحلية للخطاب القرآنى نفسه على يد السلفيين وغيرهم من اصحاب اهل النقل ، الامر الذى اضر كثيرا بقضايا المرأة. ولكن كانت المفاجأة فى تنصل الجبهة الديمقراطية عن رقية وخطابها خضوعا للابتزاز باسم الدين اولا ولأن قضية الجندر قضية تابعة او هى تناقض ثانوى بالقياس الى الخطاب الطبقى والذى يمثل التناقض الاساسى الذى يجب حله حيث يمكن تجميد قضية الجندر الى حين قيام دولة الطبقة العاملة، ورغم ما يعلن عنه الحزب من اهتمام ظاهرى بموضوع المرأة ، الاّ أن مثل هذه المواقف العملية المتمثلة فى التخلى عن رقية ربما توضح طبيعة التفكير الحقيقى للحزب بعيدا عن التنطع الفلسفى، فقد شاءت ارادة الثقافة الذكورية ان تهيمن على (قيادة الفرع ومركزية الجبهة الديمقراطية) بحكم طبعا الاغلبية الميكانيكية للرجال فهم قوّامون على النساء حتى فيما يعرف بالمنظمات الثورية.لكن بعيدا عن قضايا الابتزاز باسم الدين وتأثيراتها ، فان الحزب الشيوعى يتخذ مواقفا عملية هى الاقرب الى المنظمات الاسلاموية ويمارس دور فى اضعاف مناعة المجتمع المدنى . وحتى لا اتهم بلوثة العداء للشيوعية كما يحلوا للبعض الترديد فى ردهم على الانتقادات التى توجه لتجربة هذا الحزب ، وحتى لا اتهم بذلك دعونى اتعرض لقضية الابتزاز الاسفيرى والتى كان بطلها شبح اسفيرى اسمه محمد ناصر. حيث قام هذا الشخص باتهام احدى موظفات الامم المتحدة لحماية اللاجئين - وذلك فى منبر سودانيزاونلاين - بانها قامت بتسليم لاجئا اثيوبيا الى الامن بدلا عن حمايته كما تفرض عليها مهنتها. وقد حدث ان قامت الموظفة بفتح بلاغ وبعد تحقيقات النيابة اتضح ان محمد ناصر مجرد اسم وهمى لا وجود له ، وان الشخص الذى قام بتزكية عضويته، هو عضو فى الحزب الشيوعى او الجبهة الديمقراطية. كان لا بد من ان تقرر المحكمة استدعائه كمتهم ، وليس كشاهد، على اعتبار ان محمد ناصر مجرد شبح اسفيرى لا وجود له فى الواقع . لا تعليق لى بعد ذلك لأن القضية الان بين يدى القضاء حيث دفع محامى الدفاع بعدم اختصاص المحكمة فى النظر الى قضايا النشر فى الانترنت ومن المتوقع ان يقوم القضاء بانشاء محاكم لهذا النوع الجديد من القضايا مثله مثل كثير من دول العالم .كنت قد تعرضت فى بداية هذا المقال الى قضية ابتزاز المجتمع المدنى بواسطة العنف الذى ظلّت تفجره التنظيمات الاسلاموية تحت مختلف الزرائع ولكنه كان دائما وما زال يتم تحت مسمى الجهاد الاسلامى خاصة فى الجامعات والمعاهد العليا، وهى المؤسسات التى تبقى بها بعض الاكسجين لرعاية الحريات الفكرية وتكوين الشخصية المستقلة الناقدة ، وذلك فى نظام تعليمى بنكى تتلخص فلسفته فى عبارة (العلم يرفعهم والضرب ينفعهم) ولكن هذا الضرب وهذا القمع يطالهم لا على يد اساتذتهم هذه المرة، ولكن على يد الطلاب المنتمين الى تنظيمات الترابى بتفريعاتها المختلفة فيما بعد من ( مؤتمر شعبى وآخر وطنى ). وقد اصبحت ظاهرة العنف الطلابى من اكثر الظواهر المقلقة للطلاب واولياء الامور وذلك خوفا من ان يسقط بناتهم وابنائهم ضحايا للعنف والى الابد. وقد كان من المفترض ان تقوم التنظيمات الطلابية المناهضة للتنظيمات الاسلاموية بالعض على النواجز فيما يتعلق بالقيم التى اهدرها الهوس الدينى وعلى رأسها الحملة ضد العنف الطلابى لمصلحة حرية التفكير والتعبير لا التكفير وبالتالى دعم مصداقيتها وفعاليتها. أعود واذكر القارىء بأن الطالب المتهم فى قضية التشهير الاسفيرى اعلاه، والذى تحرش بموظفة الامم المتحدة، هو نفس الطالب الذى قام بالاعتداء البدنى على زميله فى الاتحاد وهو الطالب علاء الدين من تنظيم (حق ) ومسؤول الدار فى نفس الوقت ، وذلك فى العام ٢٠٠٥. وحينما تقدم تنظيمه بشكوى للاتحاد مطالبا محاسبة الطالب المعتدى وهو العضو الفائز فى انتخابات جامعة الخرطوم فى ذلك العام عن قائمة الجبهة الديمقراطية ، استجاب الاتحاد بتشكيل لجنة محايدة للتحقيق فى حادثة الاعتداء وقد كان ، وقامت اللجنة المعنية بالتحقيقات المطلوبة واوصت بمعاقبة الطالب ،ولكن الجبهة الديمقراطية تآمرت مع بقية من تنظيمات ليفلت الطالب من العقوبة ! وقد جاء ذلك المسلك من فرع الحزب الشيوعى بجامعة الخرطوم والجبهة الديمقراطية منافيا للوائح وقوانين الاتحاد اولا ، ثم انه كان اهدارا حقيقيا لمصداقية التنظيمات المعارضة فى مناهضة قضية العنف الطلابى وقد كان ذلك المسلك بمثابة اغتيال للمجتمع المدنى المنهك اصلا فى السودان، عن طريق اضعاف مناعته ضد العنف والقتل داخل مؤسساتنا التعليمية، وآثار ذلك النفسية الضارة ، كون العنف هو السبب فى ابتعاد الكثير من الطالبات والطلاب عن الاشتغال بقضايا العمل العام .
طلعت الطيب
محافظة البرتا - كندا
talaat1706@hotmail.com