قلها يا عمر قبل يوم التغابن… بقلم: سالم أحمد سالم-باريس

 


 

 

Salimahmed1821@yahoo.fr

  انتهت الجولات الداخلية والخارجية للحكومة السودانية في معاركها الرامية إلى دحر قرار قاضيات المحكمة الجنائية الدولية. وقد كنت أظن أن الحكومة السودانية الراهنة قد عادت بحصيد من المعرفة ووصلت إلى عصارة التجربة. وكنت أظن أن هذه الحكومة قد أدركت، بعد أٌمّة، أن مسألة الجنائية الدولية ما هي إلا إفراز لأعمالها وسياساتها الداخلية.

وكنت أظن أن الحكومة قد أدركت أيضا أن كل قضايا السودان أضحت تقتضي معالجة شاملة، وأنه لم يعد في قيد الممكن للحكومة معالجة ملف الجنائية الدولية منفردة ولا يمكن لها معالجة هذا الملف منفردا في معزل عن قضايا السودان الأخرى. وكنت أظن أن الحكومة سوف تخصص فترة ما بعد الجولات للجلوس أولا إلى النفس والاعتراف إليها والنظر بشيء من العقلانية قدر الممكن ووضع حسابات الربح والخسارة في مقبل الأيام، والجلوس طوعا إلى عموم شعب السودان والتداول معه في المعالجات التي لابد من قبولها والعمليات الجراحية التي لابد من أجرائها. وكنت أظن أن الأمور قد أضحت واضحة بالنسبة للحكومة ولا تحتاج إلى مزيد من الشروحات على الهوامش والمتون.  كلها ظنون موضوعية لا يتطرق الشك إلى معقوليتها وبساطتها، بل وضرورتها بالنسبة للحكومة قبل غيرها.

إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث. وليت أن الحكومة قد سدرت في صمتها المعهود. فقد خرجت علينا الحكومة بأقوال وأفاعيل وأهازيج وهي تحاول أن تقلب كل قواعد المنطق والحق فبدت كالذي يغمض عينيه حتى لا يرى حقيقة نفسه ولا الأشياء من حوله.

وقبل أن نتوغل في موضوعنا الأساسي هذا، يخرج علينا أحد رهط الحكومة، اسمه الطيب مصطفى ويبدو أنه تأهل للكتابة والعمل العام في بلاط الحكومة السودانية تحت لقب "خال رئيس الحكومة" إذ كتب يقول وهو يصف رئيس الحكومة: (أما اليوم فقد تحول إلى الرمز الأوحد المجسِّد لقيم العزة والكرامة والقوة والفتوة والشجاعة والسيادة بل والوطنية. كل هذه الصفات والقيم اجتمعت في شخص الرجل كما لم تجتمع في غيره منذ الاستقلال) ويمضي كاتب الحكومة واصفا مذكرة مدعي الجنائية بالغبية، ثم يعود ليصفها بالمجيدة لأنها على حد قوله (لما حققتت للسودان من توحُّد والتئام صف وتفجر لمعاني الوطنية والسيادة بصورة لم يشهدها في تاريخه الحديث لدرجة تجعلني أزعم أني ألحظ تشكُّلاً جديداً للهوية الوطنية السودانية الشمالية طبعاً لأن الجنوب لم تكن له علاقة بهذه التفاعلات التي شهدها السودان الشمالي!!) انتهى نص كاتب الحكومة. 

 وقبل أن نتوغل في موضوعنا الأساسي، لابد لنا أن ننعطف قليلا لنعالج حكاية خال الرئيس هذه .. ثم نمضي بعدها حُقُبا! فقد قال خال رئيس الحكومة، إن صدق في هذه النسبة الأسرية التي لا تعنينا في شيء، أن رئيس الحكومة قد أصبح (الرمز الأوحد المجسِّد لقيم العزّة والكرامة والقوة والفتوة والشجاعة والسيادة بل والوطنية. كل هذه الصفات والقيم اجتمعت في شخص الرجل كما لم تجتمع في غيره منذ الاستقلال) هي إذن محاولة بائسة للتأليه. فعندما يقول خال رئيس الحكومة أن رئيس الحكومة هو الرمز "الأوحد" لقيم العزة والكرامة والقوة والشجاعة والسيادة والوطنية فإنه يحاول شططا جمع صفات الكمال في شخص رجل، فهو بذلك يصنع للناس إلها ويطلب من الناس أن يخروا له ساجدين.

ففي سياق مترادفات صفات العزّة والكرامة والقوة والفتوة والشجاعة والسيادة والوطنية وغيرها من صفات الكمال التي اختزلها الكاتب في شخص رئيس الحكومة وحده لا شريك له فيها، لم يعد من المستبعد عليه أن يضيف إليها صفات "القابض الباسط الرافع المعز المذل الحكم العدل اللطيف الخبير" ولا مغالاة في ذلك لأننا لو تناولنا صفة واحدة من بين صفات الكمال التي أغدقها الكاتب على رئيس الحكومة بغير حساب وخصه بها وحده لا شريك له فيها، وهي صفة "العزّة" لوجدنا أن العزة لله جميعا كما ورد في نصوص الآيات القرآنية الكريمة: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) النساء. (وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يونس. (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) فاطر. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) الصافات.

أليس ما سعى إليه كاتب الحكومة هو الشرك بالله؟ أليس ذلك هو صناعة الآلهة؟ إنها على اقل اعتبار صناعة الدكتاتور ثم صناعة الوهم في نفس الدكتاتور بأنه الأعز الأكرم الذي يحيي ويميت، على طريقة النمرود بن كنعان، والقادر على فعل المعجزات وسوق الرعية بعصاه ... هذا إلى جانب أفعال التفضيل الأخرى التي تعيد إلى الأذهان هتافات "أبوكم مين؟" أما ما هو دون الشرك بالله فإن كاتب الحكومة يرى أن رئيس حكومته يتمتع وحده لا شريك له في هذه الصفات منذ استقلال السودان .. وليرحمكم الله رحمة واسعة يا اسماعيل الأزهري والمحجوب وإبراهيم أحمد وكل رعيل الحركة الوطنية فأنتم لا تساوون صفرا على شمال قامة رئيس الحكومة العسكرية الراهنة .. أما ما ظنه كاتب الحكومة تشكلا جديدا للهوية السودانية فهو في الواقع أنه رأى الهوية الوطنية السودانية تنهض، بعد فشل محاولات اغتيالها، وهي تنفض عن نفسها رماد "التمكين" الذي أضحى أثرا في خيال أصحابه. 

ويمضي كاتب رئيس الحكومة إلى فقرة أخرى تصطك كلماتها بالاهتزاز والتضارب لترمي كاتبها من جَمَل في حالة من التناقض مع ما ذكره في الفقرة السابقة.

ومرة أخرى استميحكم العذر والصبر على قراءة بعض ما كتبه حيث يقول: (لقد منحت تلك العودة المدوية لنميري بعد الانقلاب الشيوعي شرعية اكتسبها لأول مرة منذ قيامه بالانقلاب ... تلك الشرعية التي استمرت لفترة طويلة بعد ذلك. أما اليوم فقد كان الحدث مختلفاً تماماً إذ لا توجد مقارنة البتة بين الانقلاب الشيوعي على نميري والذي استفز مشاعر الشعب السوداني المسلم وبين المخطط الاستعماري المتستر خلف محكمة الجنايات الدولية التي استهدفت رئيس الجمهورية وأحدثت ذلك التفاعل الجماهيري الهائل خاصة وأن الشعب كان محصناً بدرجة عالية من الوعي أفرزه ذلك الاستفزاز الكبير لمشاعر الناس الذين جُرحوا في كبريائهم وكرامتهم وهم يرون الأعداء المتآمرين يسعون لانتزاع رئيسهم دون غيره من رؤساء العالم وزعمائه بالرغم من براءته بينما يرون المجرمين الحقيقيين الملطخة أيديهم بدماء الأطفال والنساء، المعتدين على أراضي الآخرين يسرحون ويمرحون بل ويتآمرون على الأبرياء ويرمونهم بأدوائهم دون أن يطرف لهم جفن أو تهتز منهم شعرة).

لا يستحق ما كتبه كاتب الحكومة إضاعة المزيد من الوقت في الشرح والتشريح، وتكفي الإشارة إلى أنه أورد هذه المقارنة لكي يعطي أهمية لموضوع الجنائية تفوق أهمية استفزاز الانقلاب الشيوعي للمشاعر الإسلامية، لكنه نسي ما كتبه في السطر السابق فعاد ليساوي بين الحالتين! ثم يقع كاتب رئيس الحكومة في الخطأ الأعظم عندما أكد بنفسه أن الشعب لم يخرج حبّا في الحكومة أو رئيسها بل خرج بسبب الاستفزاز الذي أصاب مشاعره !! وهكذا سعى كاتب الحكومة بنفسه ليغرس حوافره في منتصف الحقيقة التي حاول الهروب منها شاشاي هجاي جاي جاي .. ويبدو أن السودان منقسم إلى شمال جنوب في الفص الوحيد في دماغ كاتب الرئيس لأنه عمي أن يرى أن الجنوب واتفاقية الجنوب (نيفاشا) هي التي خلقت المبرر الوحيد عند القمة العربية والاتحاد الأفريقي لشرعنة رئاسة رئيس الحكومة ومن ثم الدفاع عنه قبالة قرار قاضيات المحكمة الجنائية، وأن الجنوب هو المسمار الذي لا يزال يثبّت الرئيس على سدة الرئاسة .. إذا طار الجنوب طارت معه الرئاسة ولن يبقى للكاتب بعد ذلك إلا صفة القرابة مع ابن الأخت! ... وعدو عاقل خير من خال جاهل .. ولسوف ينكره ثلاث مرات قبل صياح الديك .. ولسوف ترون. عفوا .. نعود إلى موضوعنا الأساسي حيث نجد أن رئيس الحكومة يباغت كل ظنوننا المشروعة تلك وهو يقول في لقاء تلفزيوني أن الشعب السوداني (قد خرج في انتفاضة لدعم للحكومة ... ودعم للرئيس)! عندما استمعت لهذا القول لم املك إلا أن أسأل نفسي بصوت مسموع: هل حقا رئيس الحكومة على حال من الصدق مع نفسه وأنه على قناعة شخصية أن بعض فئات الجماهير السودانية التي خرجت قد خرجت "فعلا" دعما وتأييدا له ولحكومته؟ وهل قال رئيس الحكومة ما قاله عن قناعة، أم أنه قال ما قال من باب استغلال مسألة خروج الجماهير السودانية؟ وبرغم أنني سبق وأن أوضحت مسألة دوافع الخروج الذاتي لبعض فئات المجتمع السوداني ضد قرار التوقيف، إلا أن السؤال يقتضي الإجابة والتوضيح لسببين لصيقين. أولا إذا كان رئيس الحكومة على قناعة شخصية بما قال، فإن الأمر يقتضي التوضيح، وثانيا إذا قال ذلك من باب استغلال ظاهرة خروج الجماهير، فإن دواعي التوضيح تظل أيضا قائمة! والسببان معا يقودان إلى سؤال واحد: لماذا خرجت بعض فئات الجماهير خروجا ضد قرار قاضيات المحكمة الجنائية؟ نعم هنالك فئات من الشعب قد خرجت بسبب مغريات الترغيب أو تحت ضغوط الترهيب المكثف الذي بذلته ومارسته أجهزة الحكومة. لكننا سوف نتفق تمام الاتفاق أن بعض قطاعات من الجماهير السودانية قد خرجت خروجا ذاتيا ضد قرار قاضيات المحكمة الجنائية الدولية وضد مدعيها الأشقر الملتحي الأرجنتيني أوكامبو.

 وعليه سوف نحصر تناولنا لهذه الفئة الأخيرة التي خرجت من تلقاء أنفسها ضد قرار قاضيات الجنائية الدولية ومدعيها الأشقر. تفسير خروج هذا القطاع من الجماهير يضعنا أمام مفترق طريقين. فالحكومة تقول أن الجماهير خرجت تأييدا لها ولرئيسها، وكذلك يقول كل أقطاب الحكومة، وكذلك إعلام الحكومة يردح صباح مساء بهذا القول. وأنا أقول لا وألف كلا .. لم يخرج هذا القطاع تأييدا للحكومة أو محبة في رئيسها لأسباب تبدو أكثر من بديهية.  من أبرز هذه الأسباب:

 أن ممارسات هذه الحكومة قد أفرزت أوضاعا اقتصادية واجتماعية وسياسية قاسية يتبلّغ فيها كل الشعب السوداني ثلاث جرعات يومية مريرة من العذابات والصبر والمهانة والمسغبة وندرة الضروريات وغلاء العلاج والدواء والتعليم وارتفاع معدلات الفقر والتوسع في بناء المعتقلات وضيقها بما احتوت .. طبعا باستثناء فئة قليلة انتفخت صدورها وجيوبها وأرصدتها ورزنت مجالسها. وبديهي أن تفرز تقاطاعت خطوط الأزمات وانعدام الحريات رأيا عاما يدحض مقولة الحكومة.

إذ لا يقبل عقلا أن يخرج شعب تأييدا لحكومة تذيقه الجوع وتهضم حرياته وحقوقه وتبلع ثرواته وتسد أمامه منافذ الرزق والعمل بتشريد الآباء والأمهات والإخوة والأخوات.

فالشعب السوداني شعب سوي غير مريض نفسيا حتى يحب معذبيه. وإذا كانت الجماهير قد خرجت حبا للحكومة ورئيسها، فلماذا تخاف الحكومة من التحول الديموقراطي وتمنع إطلاق الحريات وتحكم بالحديد والنار وأجهزة الاستشعار والاستخبار؟ .. لماذا إذن تخاف الحكومة أن تراهن أن يعيدها الشعب إلى سدة الحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة؟ أطلقوا الحريات كافة وراهنوا على هذا الشعب الذي يحبكم حبا شديدا .. ! أن خروج هذه الفئة يعود إلى طبيعة المناصرة والحماية التلقائية التي يحيط بها المجتمع أو الشعب أي فرد من أفراده.

المحرّض الأساسي والوحيد لهذه المناصرة هي أن يكون الشخص من نفس البلد بصرف النظر عن موقعه وزيرا كان أم خفيرا أو رئيسا، وبصرف النظر إذا كانت المناصرة مع القانون أو مخالفة له.

ففي كثير من الحالات تتم حماية الفرد وهو يخالف القوانين! خذ مثلا، فقد شردت هذه حكومة السودانية الراهنة بضعة ملايين من الشعب السوداني إلى ما وراء الحدود والبحار. وقد عبر بضعة ملايين منهم الحدود إلى المملكة العربية السعودية ومجموعة أقطار الخليج وحتى اليمن وليبيا.

وطبيعي أن ينجم عن مثل هذه الهجرة الجماعية وجود مئات الآلاف الذين يقيمون في هذه الأقطار إقامة غير مشروعة ومخالفة لقوانين الهجرة والإقامة نسبة لعدم حصولهم على تأشيرات الإقامة المشروعة أو العمل. وهنا نطرح السؤال: من الذي يحمي ويخفي هؤلاء عن أنظار الجهات الرسمية وسلطات الهجرة في هذه البلدان؟ الإجابة البديهية أيضا أن السودانيين هم الذين يخفون هؤلاء المخالفين ويقدمون لهم المسكن والطعام والدواء.

وفي أغلب الأحيان يحمونهم ويخفونهم على مضض نسبة لمضايقات السكن. وهنا أيضا نطرح سؤالا آخر: ما الذي يجبر هؤلاء الذين يخفون المخالفين إلى تعريض أنفسهم وأسرهم لعقوبات قانونية قاسية قد تؤدي بهم إلى السجن وفقدان وظائفهم وخسران استقرار أسرهم؟ الإجابة الطبيعية هي: أن روح المناصرة والحماية هي وحدها التي تفرض على هؤلاء إخفاء بني جلدتهم من المخالفين لقوانين الإقامة .. والعيب كل العيب أن يشي مواطن سوداني بآخر أو يتركه عرضة للاعتقال والتسفير  برغم المخالفة الصريحة لقوانين الهجرة في بلدان المهاجر! وإذ ا سألت أي واحد منهم لقال لك يكفي أنه سوداني لكي أحميه وأخفيه.

وحتى هنا في أوروبا يوفر السودانيون مثل هذه الحماية للمخالفين لقوانين الهجرة والإقامة .. فكم من المرات ذهبنا طواعية لتخليص مواطن سوداني من براثن الشرطة الأوروبية! وكذلك تفعل المجتمعات المهاجرة للسودان من تشاد اريتريا وأثيوبيا وغيرها من البلدان الأفريقية، وكذلك تفعل المجتمعات الأوروبية وإن كانت الأقل مخالفة لقوانين الهجرة والسفر. لكن الحمية السودانية في هذا الجانب واضحة وقوية، ففي تاريخنا القريب دارت المعارك ومات الناس فقط لأن شخصا احتمى بقبيلة ترفض تسليمه وإن كان قاتلا لأن ذلك يتنافى مع (قانون) الشرف الاجتماعي للقبيلة بما سوف يجعلها موضع سخرية تسير بها الركبان لو أنها سلمت شخصا استجار بها.

وفي مسند "طبقات ود ضيف الله" تجد عشرات القصص عن "الوُقّاع" أي الذين يقعون أو يلجأون إلى مشايخ الدين لحمايتهم من أولياء الدم أو أصحاب الحق أو من بطش الحكام. وبرغم أن "الوُقّاع" كانوا من الجناة، إلا حمايتهم ضمن ذلك المحتوى والعقد الاجتماعي كان من مكارم الأخلاق لأنه يوقف دايرة الانتقامات المتبادلة بين القبائل والحروب، حيث يقوم مشايخ الدين بتوفير العلاج سواء بدفع الدية أو رد المسروقات أو الحصول على العفو من الحكام والملوك.

      بهذا المنظور نظرت المجتمعات السودانية إلى موضوع طلب توقيف رئيس الحكومة. فقد رأت المجتمعات السودانية أن جهة "أجنبية" تريد القبض على مواطن سوداني وترحيله إلى بلد "أجنبي" ومحاكمته بقضاة "أجانب".

العنصران المهمان هنا هما أن الجهة الطالبة هي "أجنبية" والمطلوب هو "مواطن سوداني" .. بعد ذلك لا يهم إذا كان هذا المواطن رئيسا أو عاملا أو خلافه .. يكفي أنه سوداني ليرفض السودانيون تسليمه. وبحوزة الشرطة السودانية ملفات بعض المطلوبين بواسطة الانتربول، لكنها لا تفعل. من هذه الخاصية الاجتماعية تجاوزت بعض الفئات الاجتماعية كل عذاباتها اليومية التي تسببت فيها هذه الحكومة وخرجت ترفض تسليم "مواطن" سوداني لأيد أجنبية. ولو أنك سألت غالبية الذين لم يخرجوا، وغالبيتهم لا يؤيدون هذه الحكومة، لوجدتهم في عمق أنفسهم يرفضون تسليم "أي زول" لجهة أجنبية .. فقط لأنه سوداني .. وليس لأنه رمز عزة البلاد وكرامتها .. ولا أدري عن أي كرامة يتحدث هؤلاء ..  لا جدال أن أجهزة أمن الحكومة كانت تجهل تماما هذه الخاصية الاجتماعية عند المجتمعات السودانية.

وبسبب هذا الجهل عصف بها الرعب مخافة أن يخرج المجتمع السوداني مؤيدا لقرار قاضيات الجنائية الدولية. وبدافع الخوف خرج حديث تقطيع الأوصال وجز الرؤوس، وهو حديث لا يعدو كونه "تهديد الخائف" الذي يخشى وقوع أمر فوق طاقته فيلجأ إلى مثل هذا الكلام الغليظ العنيف لإرهاب الجهة مصدر خوفه، وهي الشعب السوداني في هذه الحالة. لكن الواقع لم يكن هنالك أدنى احتمال أن يخرج الشعب السوداني مؤيدا لقرار تسليم رئيس الحكومة أو تسليم أي مواطن سوداني أخر. 

 ثم إننا إذا قرأنا حديث تقطيع الأوصال والإجراءات الأمنية ومناخات الإرهاب التي أشاعتها الحكومة الراهنة في كل فجاج السودان قبيل صدور قرار المحكمة، لوجدنا أنها تقدم بيدها الدليل الأقوى على عدم حب الشعب للحكومة أو رئيسها. وتعطي الدليل الأكيد أن الحكومة نفسها تعلم أن الشعب لا يحبها! فإذا كانت الحكومة تؤمن أن الشعب يحبها، فلم كل إجراءات التحوط من هذا الشعب العاشق المتيم بحبها ؟! ومع هذه الحقائق اليقينية، تتمادى الحكومة برئيسها وأقطابها وإعلامها وبمترفيها بالقول أن الشعب خرج تأييدا لها ولرئيسها. وليت أن الأمر وقف عند حد القول. فالحكومة الآن تمارس نوعا خطيرا من الإسقاط الإرهابي بإسقاط تهمة تأييد قرار الجنائية الدولية ضد كل المجتمعات السودانية قاطبة وضد أي مواطن عادي يتحدث في السوق أو في الشارع ويقول أن الغلاء فاحش أو أن الصبر على المرض أقل مشقة من الحصول على الدواء أو أن التعليم دخل سوق النخاسة الاقتصادية أو أن ماء الشرب هو أفضل ناقل للأوبئة والأمراض أو ما هو فوق ذلك من مشاهد الحياة اليومية. وهكذا تستغل الحكومة عدم تأييد الشعب لتسليم مواطن مثلما تستغل خروج بعض الفئات ضد قرار المحكمة وتحول هذا الموقف النبيل إلى أداة ضمن أدوات قمع الشعب نفسه! اطمئنوا .. الشعب السوداني لن يخرج من أجل تسليم مواطن سوداني لجهة غير سودانية .. حتى لمصر القريبة أو السعودية. لكنه عندما يخرج سوف يخرج من تلقاء نفسه منافحا من أجل استعادة حريته وحقوقه المشروعة في حكم نفسه بنفسه .. ولا عاصم يومئذ لأحد لأن الشعب لن يعود أدراجه خالي الوفاض! كل ما نطلبه اليوم هو كلمة حق .. فقلها يا عمر قبل يوم التغابن .. قل إن الشعب السوداني لم يخرج حبا في هذه الحكومة، بل خرج لأنه شعب أبي يرفض الضيم ويقري الطعام ويحمي الديار ومن به استجار، شعب مشى فوق المواجع والفواجع وأعطاك الأمن والأمان فقط لأنك مواطن سوداني وليس لأنك رئيس هذه الحكومة .. هي كلمة حق إن لم تقلها نسألك عنها يوم يقوم الأشهاد. 

  وعلى ذات منوال الحكومة نجد أن خطب رئيس الحكومة وأقطابها وبرامج إعلامها قد تركزت خلال الآونة الأخيرة حول الاستعمار ومناهضة عودة الاستعمار وكأنما جيوش الاستعمار تدق على أبواب السودان. أنا وبالتأكيد عموم الشعب السوداني ضد الاستعمار.

 لكن أليس من الواجب علينا أن نحدد أولا من هو هذا الاستعمار حتى نقف ضده ونحدد الأدوات اللازمة لمناهضته؟

أليس الاستعمار هو من يغتصب البلاد والسلطة والحكم بقوة الحديد والنار؟

أليس الاستعمار هو من يقمع المجتمعات ويصادر حرياتها ويفرض جبروته عليها؟

أليس الاستعمار هو من لا يعترف بأي آلية ديموقراطية؟

أليس الاستعمار هو من يحكم البلد المستعمر حكما دكتاتوريا غصبا عن إرادة الشعب ورغباته؟

أليس الاستعمار هو من يبث عيونه وجواسيسه يعدّون على الشعب أنفاسه وسكناته؟

أليس الاستعمار هو من يعذب ويقتل من يعارضه بلا رحمة أو واعز أخلاقي أو ديني

أليس الاستعمار هو من يتصرف في موارد البلاد وخيراتها كما يريد؟

أليس الاستعمار هو من يسلب خيرات البلد المستعمر ويعطي الفتات لأهل البلاد؟

أليس هذا هو الاستعمار أم أن الاستعمار هو شيء أخر؟

فإذا كان هذا هو الاستعمار، وهو كذلك، فما الفرق بين فعائل وممارسات الاستعمار وبين فعائل وممارسات الحكومة السودانية الراهنة؟

ثم نسال:هل للاستعمار لون واحد محدد هو لون الرجل الأبيض (الخواجة) فقط؟

وهل إذا استعمرتنا الكنغو أو تشاد أو كينيا نفرح ونبتهج ولا نعتبر ذلك استعمارا لأن ألوانهم مماثلة لنا أو أشد سوادا؟

فإذا كنا قد اتفقنا أن الاستعمار هو أفعال، تسقط قيمة اللون وتبقى الحقيقة أن الاستعمار هو الاستعمار إذا كان المستعمر أبيض أو أسود أو بني أو مطابق للون أهل البلاد.

ففي الحرب العالمية الأخيرة استعمر الألمان البيض الشعوب الأوروبية البيضاء والشقراء وذات العيون الخضراء والزرقاء وساموها أقسى صنوف البطش الاستعماري دون اعتداد باللون.

ثم نسأل:إذا أغار سكان إقليم شرق السودان واستولوا بقوة السلاح على شمال السودان لا ينبغي أن نعتبر ذلك عدوانا استعماريا لأنهم جميعهم يحملون الجنسية السودانية؟

وهل إذا فعلت أقاليم غرب السودان نفس الشيء في جنوب السودان نقول زيتنا في بيتنا وكلهم سودانيون ومافيش استعمار؟

الحق والمنطق والعدل تقول لا. كله استعمار، والجنسية السودانية المشتركة لا تبرر الحالة الاستعمارية، وعليه نسأل:إذا أغار فصيل مسلح واستولى على حكم البلاد بالقوة وفعل الفعائل الاستعمارية المذكورة فوق، هل نعتبر ذلك استعمارا؟بلى ورب العزّة. 

سالم أحمد سالم

 باريس 11 أبريل 2009 

 

آراء