الرقابة وحكم القطيع! … بقلم: د. أسامه عثمان، نيويورك
د. أسامة عثمان
14 April, 2009
14 April, 2009
"حكم القطيع" هو الترجمة العربية، غير الموفقة، لاسم موقع إلكتروني جديد متفرّع عن مشروع "الشبكة المفتوحة" وهو مشروع أكاديمي رصين تحت إشراف معاهد تعني بالانترنت والمجتمع في أربع جامعات عريقة هي هارفارد وتورنتو وكمبردج وأكسفورد " ويعنى المشروع بدراسة تأثير الإنترنت على المجتمع، سلبا وإيجابا، ويقوم على جهد عدد من الأساتذة والباحثين الذين يتناولون التأثيرات المختلفة من منظور أكاديمي. ولكن "حكم القطيع" هو منتج من منتجات "الشبكة المفتوحة" يقوم على مساهمة الجمهور العريض في تقويم شبكة الانترنت لتكون فعلا عالمية ومفتوحة من خلال الإبلاغ عن المواقع المحجوبة لمعرفة أسباب المنع ومدى تكرارها في هذا البلد أو ذاك لمحاولة فهم ما تخشاه السلطات أو الأفراد أو التكوينات الاجتماعية المختلفة وأوجه الشبه والاختلاف وذلك بغرض التفاهم بين الأفراد وتكاتف الجهود لتوسيع مساحة الحرية للجميع مع تفهم الدوافع لإقامة ما يسمى بالخطوط الحمراء أو الدوافع الأمنية بجميع معاني هذه العبارة فعندما يمنع موقع "يوتوب" في بلد ما لعرض صورة لرئيس الدولة لم تعجب السلطات يختلف الأمر عندما يمنع الموقع لنشره صورا تعتبر فاضحة في بلد آخر ولا تمثل شيئا في البلد الذي يمنع الموقع لنشره لصورة لا تعتبر مقبولة سياسيا للنظام السائد وهنالك من البلدان من يمنع ذات الموقع للسببين معا. والهدف من رصد حالات الحجب والمنع والرقابة هو توثيق هذه الحالات وتوعية وإطلاع جمهور أوسع وتعزيز الحوار حول هذه الممارسات. ولقد اختار أصحاب هذا الموقع في جامعة هارفارد له اسم "هيرديكت Herdict " وهي لفظة منحوتة من كلمتين هما "قطيعHerd " وكلمة "حكمVerdict " والقصد هو أن الحكم للجمهور العريض وليس لفئة أو هيئة أو جهة متحكمة أيا كانت، إلى جانب بعد آخر في استعمال لفظة " القطيع" أشاروا إليه في الاستخدام الإيجابي للكلمة هو أن البعض يعتبر الشاة أو النعجة حيوانا خانعا خاضعا يتبع القطيع ويدور معه أينما دار ولا ينفرد بفعل أو رأي دون القطيع لقلة الذكاء أو قلة الحيلة، والواقع أن الشاة ترعى وتمرح في حرية ولكنها تسارع للسير مع القطيع عندما ترى الذئب أو تستشعر الخطر القادم من جهة ما فتستقوي بأمثالها في القطيع حتى لا تؤكل وحدها وفي الأثر إنما تؤكل من الشاة القاصية. فالفكرة هي أن تتكاتف جهود جميع الشياه حتى لا ينفرد بها الذئب مهما كان لبوسه واسمه: هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو شرطة الآداب أو هيئة علماء قمعستان أو جهاز الأمن والمخابرات أو وزارة الثقافة والإعلام وزارة الداخلية أو الخارجية كما هو الحال في كوريا الشمالية مثلا فمراقبة الانترنت تدخل في صميم عمل وزارة الخارجية والمخابرات المضادة! ولا داعي للرقابة الداخلية لأن الرقيب قد صمّم وركّب في ثنايا أنسجة كل مواطن يعيش داخل حدود الوطن. ولقد كان وزير الداخلية في المغرب هو بالضرورة وزير الثقافة والإعلام على عهد الملك الحسن الثاني. والرقابة ليست بالضرورة عمل الأجهزة المختصة أو المخولة بذلك ولقد يجعل أي فرد من نفسه رقيبا على ما يكتب وما يقرأ وما هو مفيد لك وللآخرين. وربما يكون الدافع هو فهمه للدين وتطبيق ما يعتقد أنه هو واجبه الديني بدعوى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الأيدلوجي في حماية النظرية أو النظام وربما تكون الدوافع نفعية بغرض تحقيق مصلحة ما ليست بالضرورة أن تكون مادية مباشرة كتقليعة الدعاوى المرفوعة ضد شخصيات عامة التي شهدتها مصر مثلا بأن يقوم محامٍ مغمور برفع دعوى ضد كاتب معروف أو فنان بدعوى خدشه للحياء العام أو سبه للأديان أو الإساءة لسمعة مصر في الخارج وما إلى ذلك وقد ينجح أو لا ينجح في صدور حكم لصالحه ولكنه هدفه يتحقق في كل الحالات في أن يظل اسمه في أجهزة الإعلام وتجرى معه المقابلات واللقاءات فيكتسب قدرا من الشهرة ربما در عليه قدرا من المال لاحقا. ولقد شهدنا في السودان نموذجا لهذا النوع في مجال الانترنت في محاولة يتيمة وئدت في مهدها عندما تصدى أحد كتاب صحيفة يومية، أقرب إلى صحف التابلويد، إلى أحد مواقع شبكة الانترنت المسجلة في الولايات المتحدة الأمريكية وهو من أوائل المواقع السودانية وأكثرها روادا ورواجا ونجاحا في حملة تشنيع غير مسبوقة استغرقت منه أكثر من عشرة مقالات يومية حافلة بالسباب والتحريض والاستعداء للجهات الفنية لحجم الموقع ومضى بحملته إلى المساجد في مسعى للتحريض والإثارة خارج الصحف وأرادها أن تكون قضية دولة يناقشها البرلمان. اللافت أنه استعدى الهيئة الفنية التنفيذية المعنية بالاتصالات وهي ليست هي مخولة بالحجب والمنع وإنما بتنفيذ ما يطلب منها من الهيئات المختصة بذلك ولكن فهم مثل هذا الصحافي للأمور شائع في كثير من البلدان العربية حيث تنصب الهيئة الفنية نفسها رقيبا وربما قام بذلك فرد واحد فيها. وهدف مشروع "هيردكت" هو محاولة معرفة الجهة التي تقوم بالمنع وأسباب المنع التي ربما تكون فنية بحتة أو سياسية أو اجتماعية أو للاثنين معا، وقد كان الدوافع التي ساقها الصحفي الذي نعني خليطا من الاثنين ولحسن الحظ لم تسفر الحملة عن أي شيء غير أنها زادت عدد قراء الموقع واكسبت القائمين عليه منعة فنية وقانونية في التصدي لمن يحاول قتل المشروع ويجدر بنا أن نشيد بالأقلام التي تصدت لهذه الحملة في الصحف الداخلية ومن بينها مقالين متميزين للصحفيين فيصل محمد صالح وعثمان ميرغني نعتقد أنهما ساهما مساهمة فعالة في تبصير أعضاء البرلمان وبعض أئمة المساجد بأن الأمر ليس كما صورته تلك المقالات التي عاد كاتبها خاسئا كسيرا ولاذ بالصمت بعد المعركة التي خاضها من دون معترك. وهنالك وسائل عدة للتحكم فيما ينشر على الشبكة العالمية غير الحجب. من بينها المراقبة المتمثلة في رصد ما ينشر وما يدور من حوار دونما تدخل للتعرف على ما يجري وطريقة التفكير و شبكة القراء والمناصرين وهذا النوع من المراقبة تقوم به أجهزة المخابرات ومراكز البحث لدراسة ظاهرة معينة أو لمعرفة اتجاهات التفكير والفعل الذي يعقبه لمنع عمل إرهابي أو تخريبي ونموذج ذلك هو مواقع الناشطين الإسلاميين وغيرهم. ومن ذلك أيضا "الفلترة" أي أنتقاء ما يعرض وما يحجب في وقت أو ظرف معين. وليست الرقابة و الحجب كلها سيئة أو مرفوضة فهنالك بعض المواقع التجارية التي تعلن عن منتجات أصلية بأسعار لا تنافس تكون في معظم الحالات لا تمارس عملا قانونيا يعرض المشتري للمساءلة القانونية. هذا غير المواقع التي تروج للجريمة كمواقع الدعارة والاتجار في البشر والمواقع التي تعرض الأطفال للخطر ومواقع الاحتيال والحصول على البيانات والمعلومات الشخصية للمستخدمين. تقوم أجهزة المراقبة برصد مثل هذه المواقع ومتابعتها قضائيا أو تنوير المتصفح بخطرها ليتجنبها. ويحث مشروع "حكم القطيع" المستخدمين على الإبلاغ عن المواقع التي لا يصلون إليها بوسائل سهلة تتمثل في إضافة صورة نعجة إلى مسطرة التصفح ينقر المتصفح عليها إذا حاول الوصول لموقع معين ولم يستطع فيتحول لون النعجة إلى الأحمر إن كان هذا الموقع محجوبا في بلدان كثيرة أخرى أو إلى اللون الأخضر إن كان مسموحا به وعلى المتصفح أن يبحث عن سبب ربما كان فنيا تقنيا أو أن الحجب لم يبلغ عنه من قبل آخرين. وكما هو متوقع فإن عدد المواقع المحجوبة لأسباب سياسية أو اجتماعية يتناسب طرديا مع مستوى الحريات في البلدان المختلفة. فالبلدان الأكثر شمولية هي التي تحجب الكثير من المواقع لأنها بطبيعتها تعتقد في أن عليها أن تفكر للآخرين وأن الدولة تعرف مصلحة المواطن أكثر منه أو أن بعض المواطنين أكثر أهلية من غيرهم ليحددوا منظومة القيم التي ينبغي أن تسود وتلك التي ينبغي محاربتها. يرصد مشروع "هيردكت" مستوى الحجب والمنع في جميع بلدان الدنيا ولكن بعض البلدان ذات المؤشر العالي تحظى ببعض الاهتمام مثل تخصيص صفحة بالعربية مثلا للمتصفحين بالعربية للإبلاغ عن حالات المنع التي تسود في البلدان العربية أكثر من غيرها ويشمل ذلك الكثير من المواقع السياسية خاصة مواقع المعارضات السياسية للانظمة القائمة والمواقع التي يعتبرها البعض تتعارض مع القيم الاجتماعية السائدة وفقا لتعريف الهيئات التي تتصدى لذلك بنص القانون أو بدونه. ولقد لاحظنا في الآونة الأخيرة أنه قد تعذر الوصول لكثير من مواقع الصحف السودانيةلأسباب لا نعتقد أنها تتعلق بالرقابة والرقيب وأغلب الظن أنها تتعلق بإشكالات بين هذه الصحف والجهات التي تصمم المواقع ربما كانت متعلقة بصعوبات مالية تعانيها هذه الصحف أو بالمستحقات المالية لشركات الخدمة أو ترتيبات النشر على الشبكة العالمية.كما لا حظنا أيضا ارتفاعا في المواد التي تنشر في الصحف السودانية التي تصدر في الشبكة العالمية عن مواد حجبها الرقيب من النسخة الورقية للصحيفة ولقد حاولنا فهم دوافع الرقابة من خلال ما حجب لمحاولة استنباط النهج المتبع في الحجب ودوافعه وسنكتب عن ذلك في مقال لاحق عندما نتوفر على دراسة المواد المحجوبة التي بحوزتنا.
أسامه عثمان، نيويورك
نقلا عن الصحافة ليوم الثلاثاء 14 إبريل 2009
للاطلاع لمقالات أخرى للكاتب في سودانايل اضغط هنا