المنقذ والضحية: محمداني وقضية دارفور … بقلم: د. أسامة عثمان، نيويورك
د. أسامة عثمان
22 April, 2009
22 April, 2009
"المنقذ والضحية: حرب دارفور والحرب على الإرهاب" هذا هو عنوان الكتاب الصادر في مارس الماضي للكاتب اليوغندي الأمريكي محمود محمداني، أستاذ العلوم السياسية والأنثروبولجيا ومدير معهد الدراسات الأفريقية في جامعة كولومبيا في نيويورك. كتب محمداني إلى جانب كتابه المشهور "المسلمون الأشرار والمسلمون الأخيار" الذي استعرضناه على صفحات هذه الصحيفة من قبل عدة مؤلفات في الشؤون الأفريقية من بينها «مواطنون ورعايا» الذي عد واحدا من أفضل مئة كتاب عن أفريقيا في القرن العشرين وفاز بجائزة جمعية الدراسات الأفريقية لأفضل كتاب عن أفريقية لعام 1996، ومنها أيضا كتابه «عندما يتحول الضحايا إلى قتلة» عن مأساة الإبادة الجماعية في رواندا. وربما يكون البروفيسور محمداني معروفا لبعض القراء بعد تفجر أزمة دارفور حيث أن له مواقف مشهودة مغايرة للتيار العام في الولايات المتحدة وله تفسير للرواج الذي حظيت به أزمة دارفور في الرأي العام الأمريكي وفي أجهزة الإعلام العالمية حيث يحمل أجهزة الإعلام الرئيسية جزءا من المسؤولية في مأساة دارفور، إلى جانب رأيه السلبي في المحكمة الجنائية الدولية وآرائه الأخرى حول سيادة واستقلال أفريقيا ومناهضة الاستعمار في أشكاله الجديدة ومقترحاته لحل المشكل. يقع كتاب محمداني الأخير في أربعمئة صفحة ويتكون من ثلاثة أبواب تضم ثمانية فصول ويكاد الباب الثاني يمثل كتابا منفصلا بينما يتكامل البابان الآخران. فالباب الثاني هو عبارة عن دراسة مفصّلة وموثقة حاول فيه توضيح الإطار الذي تدور فيه مشكلة دارفور من خلال التعريف بدارفور باستعراض مكوناتها الجغرافية والتاريخية ونشأة سلطنة الفور ثم الفترة الاستعمارية التي أعادت رسم خريطة القبائل والأجناس وفقا لنمط كسب العيش رعيا كان أو حيازة للأرض ودور كل ذلك في الصراع الذي يدور حاليا. يعتبر المؤلف ذلك الصراع القديم سببا محليا من أسباب الحرب التي تدور الآن. ويضيف إلى ذلك عامل البيئة والجفاف والتصحر الذي قاد خلال الأربعين عاما الماضية إلى شح في الموارد أدى بدوره إلى احتكاك بين القبائل والمجموعات المختلفة. فإن كانت سياسة الاستعمار هي الأصل فإن سياسة الحكومات الوطنية، لاسيما القائمة حاليا في التدخل في هندسة النظام القبلي لمجموعة ضد أخرى بحجة القضاء على تمرد تحدى سلطة الدولة هي من الأسباب التي فاقمت الصراع. ولا ينسى البعد الإقليمي المتمثل في مخلفات الحرب الباردة والصراع بين أمريكا وفرنسا والاتحاد السوفيتي في أفريقيا ومغامرات ليبيا واللواء الإسلامي ودعم القبائل العربية في تشاد وتورّط نميري ومن جاء بعده في حروب تشاد المختلفة مما وفر كميات كبيرة من السلاح في يد القبائل المشتركة من الحكومات ومن مصادر ذاتية. والباب الأول عبارة عن إعادة كتابة لمقالة مطولة كانت قد نشرت في عام 2007 بعنوان «حرب الأسماء: إبادة جماعية، حرب أهلية، تمرّد». ويرى الكاتب أن مصطلح «إبادة جماعية» الذي عرف في أول القرن العشرين ثم صار له تعريف دولي بعد محرقة اليهود وغيرهم أثناء الحرب العالمية الثانية قد صار يستخدم استخداما سياسيا انتقائيا من الولايات المتحدة الأمريكية حيث تطلقه حصرا على المجازر الجماعية التي يقوم بها خصومها أم حلفاؤها فلا تسمي ما يقومون به إبادة جماعية وإن توفرت فيه جميع الشروط لتلك التسمية. ثم يسوق مقارنة بين الحرب على العراق والحرب في دارفور من حيث تزامن وقوعهما وعدد الضحايا ونوع الفظائع المرتكبة والمبررات التي تساق. فالمجازر في العراق ليست إبادة جماعية ولكنها إبادة جماعية في حالة دارفور. ويلاحظ أن رد فعل الجمهور وأجهزة الإعلام يختلف اختلافا بينا فقد لاحظ أن الطلاب في الجامعات وغيرهم من الناشطين ينظرون إلى العنف في العراق من حيث ما سيقود إليه انسحاب القوات وسلامة القوات الباقية بعد الانسحاب أو عند الانسحاب وما هي أفضل الخيارات بينما لا يكاد أحد يتحدث عن أسباب تلك الحرب أو المحاسبة على تبعاتها ويخلص الكاتب إلى أن الجمهور الأمريكي وأجهزة إعلامه ينظرون للوضع في العراق من منظور سياسي وما هي خياراتهم كمواطنين وما هو أفضل حل لبلادهم. في مقابل ذلك لاحظ التعبئة الكبيرة من أجل دارفور على الرغم من قلة عدد الضحايا و العنف مقارنة بالعراق وعزا ذلك إلى أن دارفور بالنسبة لهم موضع لا تاريخ له فهي مجرد نقطة على الخارطة مجرد موقع يتعارك فيه القتلة الذين هم « القبائل العربية» مع الضحايا الذين هم « القبائل الأفريقية» ذلك أن الصراع قد أفرغ من أي محتوى سياسي وصور على أساس أنه قضية إنسانية لا يملك الجمهور إلا أن يتعاطف مع الضحايا فيها من منظور إنساني وأخلاقي دون أن يكون مطالبا بالإجابة عن الأسئلة الكبرى عن ما فعله بوش ونظامه وهل هو محق أم لا وما هي أفضل الوسائل لإنهاء الحرب التي بدأتها دولتهم. فدارفور لم تكن مأساتها بسبب غزو أمريكي وليس فيها جنود أمريكان يخشى عليهم بل أن أمريكا تمدها بالغذاء والدواء. ولقد ضعف محمداني حجته عندما أراد أن يصور حرب الحكومة المركزية وجيشها على حركات التمرد في دارفور لا يختلف عن حرب القوات الأمريكية لحركات المقاومة في العراق لأنها ليست إلا حركات تمرد بالنسبة لها وقد أدخلت حربها ضدها قسرا في إطار حربها على الإرهاب! فمحاولة إبراز التناقض في الموقف الأمريكي لا تبرر بأي حال الموقف المشابه في الحالة الأخرى وبدا في هذه النقطة كأنه يدافع عن سياسة الحكومة السودانية في دارفور وهذه «سبة» يحاول خصومه من الأكاديميين والناشطين إلحاقها به. حتى أن أحد المواطنين من دارفور سأله مؤخرا في مناظره عن كتابه عن المبلغ الذي قبض من حكومة الإنقاذ!
وحمّل أجهزة الإعلام قدرا من المسؤولية في تردي الأوضاع حيث أنها سكتت عن تصوير الصراع الذي كاد دائرا ولا يزال بين قبائل دارفور نفسها وصورا الأمر كما لو أنه فقط حملات جيش الحكومة ضد حركات التمرد والقبائل التي تدعمها كما أن دعوتها للحل العسكري الخارجي لإرغام حكومة الخرطوم أعطي إحساسا لدى حركات التمرد بأنها يمكن أن تحصل على كل شيء مما جعلها مواقفها تصير أكثر تشددا كما أن الدعوة لقوات خارجية أخافت الحكومة وجعلتها تعتقد بأنها ستخسر كل شيء مما شجع العناصر المتشددة فيها وبالتالي ساهمت الدعوة إلى التدخل العسكري في إبعاد الحل وزيادة المعاناة.ومن الأشياء الأخرى التي كرّس لها الكاتب الكثير من الجهد هو مسألة عدد الضحايا وانتقد بشدة تحالف «إنقاذ دارفور» استنادا إلى بيانات وزارة الخارجية الأمريكية التي كلفت لجنة من 12 خبيرا لدراسة التقديرات المختلفة عن عدد الضحايا التي تراوحت بين 400 ألف فيما يذكر تحالف إنقاذ دارفور وهو أقل التقديرات دقة في رأي الخبراء، و عدد 70 ألف التي ذكرتها منظمة الصحة العالمية وخلص الفريق إلى أن عدد الضحايا يقدر بحوالى 112 ألف ضحية لم يقضوا جميعا بسبب الأعمال المباشرة للحرب وإنما قضى الكثيرون منهم بسبب الأمراض أو الجوع أو المياه الملوثة أو الجفاف . أما محمداني فقد انتقد استخدام تحالف إنقاذ دارفور للرقم 400 ألف دون اهتمام بصحة الرقم أو بأسباب الوفيات. ويقدر هو وفقا للمقارنات التي أجراها من ناحيته أنه في الفترة ما بين عام 2003-2004 شنت الحكومة السودانية «حربها على الإرهاب» في عمليات عسكرية منهجية ومبرمجة استخدمت فيها الطيران والأسلحة الثقيلة مما أدي إلى وقوع قرابة 50 ألف من الضحايا. وبالنسبة لمحمداني أن وقائع هذه الفترة ينبغي أن لا يسدل عليها الستار وينبغي محاسبة المسؤولين عن الفظائع التي وقعت ولكن، عنده، إن آخر من يقوم بذلك هو المحكمة الجنائية الدولية فهنالك الكثير من الآليات التي يمكن أن تقيم العدالة دون تلك المحكمة، غير الأفريقية فيما يرى. ومما يذكر أن صحيفة نيويورك تايمز قد توقفت عن استخدام الأرقام المتباينة دوما بعد انتقادات محمداني في الكثير من المنابر وتتبعه لتناقضات محرريها في العدد وصاروا يكتفون بقولهم مئات الآلاف بحسب تقديرات الأمم المتحدة . وعند ورود الحديث عن الأرقام ليس هنالك ذكر للتقدير الذي أوردته السلطات السودانية المتمثل في أن عدد القتلى لا يتجاوز عشرة آلاف لأن هذا الرقم لم يؤخذ به مأخذ الجد في أي محفل خارجي. والعبرة بالطبع ليست بالعدد حيث أن مفهوم «الإبادة الجماعية» لا يقوم على العدد وإنما على عناصر أخرى أهمها القصد المتبوع بسياسة مرسومة لاستهداف جماعة أو جماعات معينة بالعنف ولو كان العدد كافيا فإن عدد عشرة آلاف ضحية الذي أقرت به القيادة السودانية كاف ليعتبر ذلك العمل "إبادة جماعية"يحمل المؤلف على تحالف «إنقاذ دارفور» حملا شديدا ويصف الكثيرين من المنخرطين في صفوفه، وليس جميعهم، بأنهم يناضلون دون معرفة ما يناضلون من أجله لأن هنالك حالة جهل عام بحقيقة ما هي دارفور وأسباب الصراع الحقيقية التي يطمح أن يكون كتابه التفصيلي هو الشرح الكافي لها لمن أراد حقا أن يعرف مسببات الصراع. ويناقش حجة المنخرطين فيها بأنهم قد استفادوا من درس رواندا وهو عدم الانتظار لفهم حقيقة ما يجري قبل التدخل. وهذا الانتظار من أجل الفهم هو الذي جعل المأساة تقع في رواندا فالأولى إذن التحرك ثم الفهم لاحقا. وتمضي الحجة إلى أنه يكفي أن القليلين قد فهموا وليس بالضرورة أن يفهم الجميع لأن المهم هو إيقاف عمليات الإبادة. ثم يحاج أصحاب هذا الرأي، ومن قال أن هناك إبادة؟ فتكون الإجابة هنالك إبادة لأنهم قالوا لهم إنها إبادة وهنا يشير إلى ما وقع تسويغا للحرب على العراق بأنهم قالوا لهم أن هنالك أسلحة دمار شامل فوافقوا على الحرب ثم تبين عدم وجودها. وهنا يكاد المؤلف يقول بشكل غير مباشر أن قضية دارفور قد ضخمت لصرف النظر عن ورطة أمريكا في العراق «فالعراق يجعل بعض الأمريكيين يشعرون بالذنب لمسؤوليتهم في الغزو دون مبررات مقنعة بيد أن دارفور مكان لا يجعل أمريكا تشعر بالذنب بل فرصة لتشعر بأنها تتحمل مسؤولية أخلاقية وإنسانية لحرب لا ضلع لها فيها» ويخلص إلى أن واقع الحال في دارفور أكثر تعقيدا من النظرة التبسيطية للصراع بأنه صراع عرب ضد أفارقة وأن الناشطين الذين يقولون بأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء ما يرون يعتقد أنهم يرفضون فهم السياق الذي يجري فيه ما يجري وبالتالي لن يستطيعوا فعل شيء إيجابي لإيقافه لجهلهم بطبيعة الصراع ودليله على ذلك أن الحركة ليست حركة تدعو إلى السلام كالحركات التي انتظمت أمريكا في الستينات لإيقاف الحرب في فيتنام أو لمحاولة عدم غزو العراق وإنما هي حركة مجتمع مدني تدعو لإرسال الجيوش وتزويدها بما يلزم لتكون فعالة وقاهرة فهي بهذا الفهم تصعد من العنف لتصل للسلام بحسب رأيها. وهي في نهاية الأمر الوجه الإنساني لمفهوم الحرب على الإرهاب وفقا لتصوّر المحافظين الجدد لأنها لا تدعو للحل السلمي لقضية شائكة ومعقدة. ويشرح المؤلف في خاتمة الكتاب أن الحل يتمثل في مدخل ذي ثلاث شعب اتفاق سلام مع دول الجوار يتم التفاوض بشأنه، وحل مشكلة الدولة القومية وتركيبة السلطة الحاكمة وعلاقة المركز بالهامش في السودان، وحل مشكلة حيازة الأرض وتوزيع وإدارة الموارد في دارفور. وسنعرض في المقال القادم لرأيه تفصيلا في المحكمة الجنائية الدولية واستقلال أفريقيا.
نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 21 أبريل 2009
لمقالات سابقة للكاتب في سودانايل اضغط هنا