رسالة مفتوحة إلى د. غازي صلاح الدين ….بقلم: د. الواثق كمير

 


 

 


رسالة مفتوحة

وقفه مع النفس: هل نرغب في العيش سويا؟ (2-4)

تونس – القاهرة
يوليو 2009


إلى

د. غازى صلاح الدين
  (مستشار رئيس الجمهورية والقيادي بالمؤتمر الوطني)

من 

د. الواثق كمير 
kameir@yahoo.com
 

محتويات




تقديم

أولا: مأزق التباعد بين مواقف الشريكين والاستقطاب السياسي

ثانيا: مسئولية قيادة الانتقال : نحو تطوير الشراكة

ثالثا: إشراك كافة القوى السياسية السودانية في بناء المستقبل
(خطوات مطروحة)

رابعا: إشكالية الدين والدولة – الجدل حول القانون الجنائي 

خامسا: هل هناك فرصة لمصالحة تاريخية ..؟





















عزيزى د. غازى
سلامات من تونس الخضراء
ثانيا: الشريكان ومسئولية قيادة الانتقال: نحو تطوير الشراكة

ماذا يريد الشريكان للسودان؟ توحد أم تمزق؟

هذه هي المواضيع والقضايا التي تطرحها بشدة معادلة الوحدة والانفصال، والتي يحتم الواجب الوطني على شريكي الحكم، بحكم قيادتهما لهذه المرحلة التاريخية الدقيقة، إبتدار الحوار حولها بكل صراحة وأمانة وصدق وشفافية، والدعوة الجادة لجرد حساب موضوعي لما فعله كل طرف، من ناحية السياسات والبرامج لجعل الوحدة "جاذبة" كأحد مستحقات الاتفاقية والدستور. فلنسأل عن سياسات الوحدة الجاذبة التي وضعتها أي من حكومتي الوحدة الوطنية، في الخرطوم، أو حكومة الجنوب، وما يلزمها من ميزانية وتمويل، ومدى تنفيذها؟ دع السياسات جانبا، هل أفردت اللجان المشتركة بين الحركة والمؤتمر حيزا، أو جاء على صدر أجندتها، لموضوع الوحدة الجاذبة وآليات تحقيقها؟ فالحركة، في عيون المؤتمر الوطني تسعى للانفصال وترتب له (وهناك من يدعمها من المؤتمر)، خصوصا إن صح إصرارها على استبعاد الجنوبيين المقيمين في الشمال من المشاركة في الاستفتاء المرتقب على تقرير المصير، والذين من المرجح أن يصوتوا لصالح الوحدة. والمؤتمر الوطني في نظر الحركة يريد الانفصال ويخطط له، ولكن على حساب إضعاف حكومة الجنوب وإثارة الصراعات بين قبائله وفصائله السياسية، ليضمن الاستحواذ على أكبر حصة من النفط المنتج، خاصة في أبيى، المرشحة لتصاعد النزاع حولها، وربما العودة للحرب مجددا. إذن، بدون أن يحدد كل طرف موقفه بوضوح من وحدة البلاد ومناقشة العقبات التي تعترض سبيلها بصراحة ووضع كل الضمانات المطلوبة، يصبح الشريكان، ولو على شاكلة "كل شيخ بطريقته"، كلاهما يدفعان بالجنوبيين للتصويت لصالح الانفصال، فليستعدا لتحمل تبعات سياساتهما على مستقبل البلاد والعباد!

التقيت بالراحل المقيم د. جون قرنق بأبيدجان (حيث كنت أقيم)، أثناء زيارته القصيرة لساحل العاج في فبراير 1992، بعد شهور قلائل من الانشقاق الذي حدث في صفوف الحركة الشعبية الذي عرف ب"انقلاب الناصر". وبإيعاز من صديق مشترك كان موجودا معنا حينها، سألت الزعيم الراحل "هل صحيح أن (فلان) يقف مع الانقلابيين؟"، فكان رده، بعربي جوبا "فلان ده عندو كراع معانا وكراع مع الانقلابيين، لكن كراع (كبيرة) بتاعته مع ناس الانقلاب!". فيبدو للمراقب المدقق أن لكل من الشريكين في موقفهما من مستقبل الوطن قدم في موقع الوحدة، والأخرى في موضع الانفصال، ولكن الأخيرة أكبر وأضخم! فبينما يصرح كل منهما في العلن ويؤكد وقوفه مع، والتزامه بالوحدة، تكشف سياسات وتوجهات الطرفين أن كلاهما يعمل من أجل الانفصال، أو على أقل تقدير الدفع للأمام بأجندة الانفصاليين! فكيف ذلك؟:

فمن جانب المؤتمر الوطني: قبل ما يزيد عن العقدين من الزمان، بلورت الجبهة الإسلامية (النسخة السابقة للمؤتمر الوطني) نظرتها وتوجهاتها نحو جنوب السودان في ما أسمته "مشروع ميثاق السودان"، في أعقاب انتفاضة مارس/أبريل 1985. فبينما أمن المشروع على وحدة السودان، أوحت صياغته الذكية بالتشديد على استثناء الجنوب جغرافيا- حيث الأغلبية غير المسلمة- من تطبيق الشريعة الإسلامية. قصدت الجبهة بهذا الأسلوب اصطياد عصفورين بحجر واحد. فهي تؤكد لإتباعها من الشماليين جدية الجبهة في أمر تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، من جهة، بينما تسعى لاستمالة ومغازلة المغالين من الجنوبيين بالإيحاء لهم بمرونتها السياسية من ناحية قبولها بالاستثناء، وهكذا بإمكانية انفصال الجنوب إن هم أصروا على ذلك، من جهة أخرى. أثار مشروع "ميثاق السودان" جدلا وسخطا شديدين وسط القوى السياسية في ذلك الوقت، إذ رأى فيه المنادون بالوحدة من شماليين وجنوبيين دعوة صريحة للانفصال. وبعد الاستيلاء على الحكم في 30 يونيو 1989، أصبح الهم الشاغل للجبهة الإسلامية هو القضاء عسكريا على الجيش الشعبي لتحرير السودان الذي يشكل العقبة الرئيسية في طريق تمكين سلطتها في جنوب السودان. وفى سبيل ذلك اتبعت الجبهة نهجا "جهاديا" لإخضاع الجنوب في ظل سودان إسلامي موحد بحسب مقتضيات وشروط "المشروع الحضاري" للدولة الإسلامية. بينما، سياسيا عملت الجبهة الإسلامية على الإيحاء بأن سلطتها تحترم رغبات السودانيين الجنوبيين في الانفصال إن أعلنوا ذلك صراحة في وقت أصبح فيه العالم متعاطفا مع قضايا الأقليات وحقها في تقرير مصيرها. ومن ناحية أخرى، ركزت الدعاية الإعلامية التي إظهار جون قرنق-ومؤيديه- بالمتشدد، وتشبيهه بلوردات الحرب الذين لا يريدون سلاما لشعوبهم، والذي يقف في طريق تحقيق تطلعات الجنوبيين. هذه المرونة من جانب الجبهة هي التي مهدت للتفاهمات اللاحقة مع "مجموعة الناصر"، وإقرار حق تقرير المصير في اجتماع فرانكفورت في يناير 1992. ورغما عن ظني بأن الاتفاق (الذي وقعه د. على الحاج نيابة عن الجبهة) قد أغضب كثيرون داخل التنظيم باعتباره بمثابة موافقة سافرة على انفصال الجنوب، إلا أنه شكل أرضية مشتركة للتوقيع على اتفاقيات السلام من الداخل في النصف الثاني من التسعينات، إلى أن تم إقراره دستوريا تبعا لاتفاقية السلام الشامل بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في يناير 2005. إذن، فالسؤال الذي يطرح نفسه بشدة، ويحتاج لإجابة أمينة، هو: دون توجيه المكتب القيادي للمؤتمر الوطني، في اجتماعه بتاريخ 4 يوليو 2009، بتعزيز فرص الوحدة في قانون الاستفتاء والعمل على تقوية هذا الخيار، ما الذي فعله الحزب الحاكم منذ إقراره بحق تقرير المصير في أوائل التسعينات، وما هي استراتيجياته وسياساته الراهنة، لاستخدام هذا الحق إيجابيا كأداة لتحقيق الوحدة الطوعية؟  
   
ومن جانب الحركة الشعبية: فهي مطالبة، وبنفس القدر، بعد عامين من المشاركة في السلطة، بتوضيح موقفها بشفافية من وحدة البلاد، وأن تلعب الدور الذي ظل جمهور مناصريها يتوقعه منها، وأن تتخلى عن "الإمساك بالعصا من منتصفها". فقد تعرض موقف الحركة من الوحدة للانتقادات من الشماليين بحجة أن الحركة بمجرد، وحتى في وقت مبكر قبل، وصولها للسلطة قد بدأت في التنصل من مشروعها. وتضاعفت الاتهامات بعد رحيل قائدها من ناحية تركيز الحركة على تنفيذ اتفاقية السلام الشامل في القضايا الخاصة بالجنوب، مع إغفال ملحوظ لقضايا التحول الديمقراطي والحكم الراشد. وقد تصديت بالحجج والبراهين للرد على اتهامات وظنون المنتقدين للحركة في مقدمة كتاب (جون قرنق: رؤيته للسودان الجديد وإعادة بناء الدولة السودانية) والعديد من المقالات الأخرى. ولكن الآن، يبدو أن هذه الدفوعات قد فقدت قوتها ومنطقها في إقناع حتى كوادر وقواعد الحركة التي بدأ الشك ينتابها في مواقف حركتهم من القضيتين المتداخلتين: الوحدة والعلاقة بين الدين والدولة. فقد كانت هذه الحجج قوية ومقنعة في وقت محادثات السلام، والتي وضعت قيوداً ثقيلة على ما يمكن تحقيقه من خلال المفاوضات، كما كانت أيضاً مقبولة، حينما كانت الحركة الشعبية في المعارضة. أما بعد توقيع اتفاقية السلام، فإن الحركة تملك 28% من السلطتين التنفيذية والتشريعية على المستوى الفيدرالي، و45% في كل من جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، بجانب 10% من السلطتين في باقي ولايات شمال السودان، إضافة إلى قاعدة سياسية جماهيرية يعتد بها في كافة هذه الولايات. فمطالبة الحركة الشعبية بحضور فاعل والمشاركة في كل مستويات الحكم خلال الفترة التي تسبق الانتخابات، كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى تمكين الحركة من الترويج، على قدم المساواة مع شريكها في الحكم (المؤتمر الوطني)، لوحدة السودان على "أسس جديدة". وفوق ذلك كله، فإن اتفاقية السلام الشامل تلزم وتملي على الحركة الشعبية العمل الجاد لجعل الوحدة جاذبة. وبالتالي، بينما للجنوبيين، خارج الحركة الشعبية، مطلق الحرية في الترويج والتعبئة من أجل الانفصال، فالحركة ملزمة، وكذا كوادرها، بالمثابرة في تحقيق شروط الوحدة الجاذبة. إذنَ، هذا واجب لا يجوز سياسياً وأخلاقياً للحركة الشعبية أن تنفض يدها عنه، وإلا تكون قد وقعت في خطأ جسيم خرقت بموجبه اتفاقية السلام، وأصابتها في مقتل.
  
لا ينكر إلا مكابر وجود المتشككين في رؤية السودان الجديد في صفوف الحركة الشعبية منذ تأسيسها، رغما عن تنامي نفوذهم بعد وفاة زعيم الحركة. فقد كانت ولا تزال هناك اختلافات حول الوحدة. وسبق أن تجرأت بالقول بأن "كل المؤمنين بالرؤية هم "حركة شعبية" بيد أنه ليس كل من هو "حركة شعبية" يؤمن بها! وفى الواقع، حدثت خلافات حول قضيتي الوحدة والانفصال تحولت إلى مواجهات عنيفة في لحظات تاريخية معينة في سياق تطور الحركة الشعبية والجيش الشعبي، منذ الأيام الأولى في 1983. ثم جاء الانشقاق المدمر الذي أفضى إلى قتال دموي في صفوف الجيش الشعبي بعد "إعلان الناصر" في أغسطس 1991 الذي دعي إلى حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقد تمت مناقشة صريحة وواضحة لهذه الاختلافات والخلافات خلال المؤتمر الأول للحركة الشعبية في أغسطس 1994 والذي قرر في ضوئها أن تحقيق السودان الجديد وحق ممارسة تقرير المصير هما الهدفان التوأمان للحركة، مما يبدو معه وكأن الحركة الشعبية تسعى لتحقيق هدفين متناقضين في نفس الوقت: الانفصال ووحدة السودان! سؤال رئيسي يطل برأسه هنا: كيف ستعالج أو توفق الحركة بين مشروعها الأساسي لسودان موحد، من ناحية، وحق تقرير المصير، من ناحية أخرى، وسط اعتقاد سائد بأن هذا الحق مرادف ومطابق للانفصال؟ هل وكيف ستترجم الحركة إلى سياسات عملية مناشدة رئيس الحركة للجنوبيين في خطابه الجماهيري بكادوقلى في 7 يوليو 2009 لتغليب خيار الوحدة في صناديق الاستفتاء؟ 

خلاصة الأمر، أنه إن كان الشريكان متمسكين بالوحدة، فليفتحا الحوار الصادق حول هذه القضية، مع إشراك القوى السياسية الأخرى، مما يغنى عن العودة لحرب جديدة لن تجئ نتيجتها لمصلحة أي منهما، بل ستلحق الضرر بالجميع! فغموض موقف الشريكين من الوحدة، واستبعادهما لهذه القوى، هو الذي أفضى إلى، بل هو مصدر وأس الخلاف العنيف والجدل المحتدم حول نتائج التعداد السكاني، مواعيد الانتخابات، قضية أبييى، ترسيم الحدود، وقانون الاستفتاء. فإن تطابقت النوايا مع الأفعال واتسقت الرؤى مع السياسات لما تداعى الوضع السياسي للتأزم والاستقطاب، ولما دعونا الخارج للتدخل سواء ذهبنا إليه أم جاء إلينا في عقر دارنا!




 


 

آراء