رسالة مفتوحة إلى د. غازي صلاح الدين

 


 

 

 

رسالة مفتوحة

 

وقفه مع النفس: هل نرغب في العيش سويا؟ (3-4)

 

تونس – القاهرة

يوليو 2009

 

إلى

 

د. غازى صلاح الدين

  (مستشار رئيس الجمهورية والقيادي بالمؤتمر الوطني)

 

من

 

د. الواثق كمير

kameir@yahoo.com

 

 

 

 

محتويات

 

 

تقديم

 

أولا:              مأزق التباعد بين مواقف الشريكين والاستقطاب السياسي

 

ثانيا:              مسئولية قيادة الانتقال : نحو تطوير الشراكة

 

ثالثا:              إشراك كافة القوى السياسية السودانية في بناء المستقبل

(خطوات مطروحة)

 

رابعا:   إشكالية الدين والدولة – الجدل حول القانون الجنائي      

 

خامسا:  هل هناك فرصة لمصالحة تاريخية ..؟


عزيزى د. غازى

سلامات من تونس الخضراء

 

ثالثا:    إشراك كافة القوى السياسية السودانية في المستقبل (خطوات مطروحة)

 

خطوة أولى: من التفاوض الثنائي للحوار الوطني

 

إذن، الشريكان مطالبان بفتح الباب لكل القوى السياسية للمشاركة والمساهمة الفاعلة في هذا الحوار، فهي أيضا لها نصيبها من المسؤولية في تحقيق الوحدة، ولو لم تكن مشاركة في الحكم الانتقالي، فضمن هذه القوى من كان على سدة الحكم في السابق وتعامل مع هذه القضية من موقع السلطة، تفاوضا وحربا. فهل نتوقع أن تصمت هذه القوى وتتخلى عن المطالبة بحقوقها الدستورية، وأن لا تسعى للتحالف مع من تختاره من أحزب، حتى لو كان حزب الحركة الشعبية؟ أوليس للمؤتمر الوطني من أحزاب "موالية" تم حشدها في مؤتمر صحفي مشهود كرد فعل لاجتماع هذه القوى السياسية، الذي حضرته الحركة، بل وأكدت خلاله دعوتها لاجتماع جوبا؟ أوليس للمؤتمر الوطني لجان وتفاهمات مشتركة مع جل هذه الأحزاب، ولو بطريقة ثنائية؟ أم أنه كان ليغفر لهذه الأحزاب تقربها من الحركة الشعبية إن تمت هذه اللقاءات بإتباع نفس الأسلوب الانفرادي/الثنائي؟ ولماذا يتحاشى المؤتمر الوطني اللقاء مع القوى السياسية مجتمعة وليس على إنفراد أو بالقطاعي، مما يثير الشكوك ويلهب الظنون؟ حقيقة، هذا هو الانطباع الذي خلفه رد الفعل الغاضب لقيادات المؤتمر الوطني على اجتماع "تحالف المعارضة"، والذي توجه رئيس الحزب ورئيس الجمهورية بانتقاده اللاذع وهجومه غير المسبوق على الحركة الشعبية.

 

وللإنصاف، فمشاركة الحركة في هذا الاجتماع ما هو إلا تنفيذ لمقررات قديمة لاجتماعات سابقة للمجلس الوطني الانتقالي للحركة ترجع تواريخها إلى أغسطس وديسمبر 2007. فالقرار رقم (8) لاجتماع المجلس، في 16-18 أغسطس 2007، "أخذ علما بتقارير اللجنة السياسية المشتركة واللجنة التنفيذية المشتركة وأشاد بجهود اللجنتين في التعاطي الايجابي مع المؤتمر الوطني فيما يتصل بالتنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل. وبينما حث المجلس اللجنتين لمواصلة هذا التعاطي، إلا أنه وجه المكتب السياسي الانتقالي بالبدء في التفاعل مع كل القوى السياسية الوطنية ومنظمات المجتمع المدني لدعم تنفيذ الاتفاقية والتحول الديمقراطي". وتحت عنوان (علاقات الحركة الشعبية مع القوى السياسية الأخرى) قرر اجتماع المجلس الوطني الانتقالي، بتاريخ 8 ديسمبر 2007، أولا: "التزام الحركة الشعبية إشراك كل القوى السياسية في حوارٍ جاد بغرض تفعيل، اتفاقية السلام الشامل والإسراع بتنفيذ كافة بنودها والتعجيل بالمصالحة الوطنية والتحول الديمقراطي"؛ وثانيا: "المبادرة بإطلاق عملية سياسية تنخرط فيها كل القوى السياسية بهدف التوصل إلى عقد اجتماعي، وصياغته ليشمل جميع القضايا التي تناولتها اتفاقية السلام بما يحقق الإجماع الوطني حولها". ولكن، لظروف موضوعية وأخرى ذاتية، تتصل بعدم متابعة سكرتارية الحركة لهذه المقررات، جاءت مشاركة الحركة في هذا الاجتماع ودعوتها للقوى المشاركة للقاء بجوبا متأخرة وفى وقت اتسم فيه الوضع السياسي بالتأزم والاحتقان.

 

وقد ينظر البعض، وعلى رأسهم المؤتمر الوطني، لهذا التطور وكأنه انتهازية سياسية أو مكايدة وابتزاز أو تكتيك سياسي، أو حتى تهويش أو إستقواء بالآخر، من جانب الحركة، بينما يعتبره آخرون، خاصة وسط قواعد الحركة المحبطة، كصحوة من جانبها وتفعيلا لمقررات مؤسساتها. ولكن، بغض النظر عن تعدد التفسيرات، فثمة سؤال هام يطرح نفسه: ما هي مصلحة المؤتمر الوطني في عزل نفسه من كل القوى السياسية والاكتفاء بالموالين له والانكفاء عليهم؟ فإن كان المؤتمر الوطني حقا حريصا على عملية التحول السلمي وجاد في التزامه باتفاقية السلام الشامل، فما السبب الذي يمنعه من التعاطي مع القوى السياسية مجتمعة في حوار ليطرح فيه مواقفه بإيجابية وأمام الجميع، بدلا عن عرضها على، والحوار حولها، مع أحزاب تفتقد للقواعد الجماهيرية، وبصعب التمييز بينها وبين المؤتمر الوطني، ربما فيما عدا أسماء وشعارات هذه الأحزاب، وإن ظلت تواليه لأكثر من عقد من الزمان؟ فهذا يعد بمجرد حوار مع النفس قد لا يكون بالمجدي سياسيا أو ينفع كبديل مجز عن الحوار مع الآخرين المخالفين له في الرأي! في رأيي، أن المؤتمر الوطني جانبه الصواب في التقييم الموضوعي السليم ورده على اجتماع المعارضة، خاصة مشاركة الحركة ودعوتها للقوى المشاركة للقاء في جوبا، ورفضه للمشاركة بذريعة اللجان المشتركة للشريكين. ولعل اتفاق حزب الأمة مع حركة العدل والمساواة قد يحث المؤتمر الوطني على مراجعة جدوى منهجه، بحساب المحصلة النهائية والتراكمية، في إبرام الاتفاقيات الثنائية. وربما قصد السيد الصادق المهدي بذلك الكيد للمؤتمر الوطني بالتعبير عن خيبة ظنه في ما أحرزه اتفاق التراضي من تقدم، مما ألحق الإساءة بالأذى بعد تجربة "نداء" جيبوتي. ومن ناحية، يمثل اتفاق حزب الأمة مع "العدل والمساواة" دعما سياسيا لموقف الحركة التفاوضي وتأكيدا لاتهامها للمؤتمر الوطني بالنكوص عن تعهده بتنفيذ وثيقة حسن النوايا الموقعة بين الجانبين في الدوحة، في فبراير الماضي.

 

من المهم هنا التشديد على أن الحركة قد قدمت الدعوة لمؤتمر جوبا، تنفيذا لمقررات مؤسساتها، ولو جاءت متأخرة بعض الشيء، فتوقعت أن يرحب المؤتمر بالخطوة ويحتفي بها، بل ويبادر بالتنسيق مع الحركة في الدعوة للاجتماع والإعداد له مع بقية القوى السياسية. فما يضير الحزب الحاكم، والمسيطر على مفاصل الدولة، والشريك الأكبر في قيادة مرحلة الانتقال، من التفاكر والحوار مع القوى السياسية مجتمعة حول مواضيع مفصلية تتصل بعملية التبادل السلمي للسلطة، وإرساء قواعد دولة المواطنة، حتى يجئ هذا الانتقال سلسا وسلميا وشفافا، ولتكون نتائج هذه العملية مقبولة للجميع؟ فالمؤتمر الوطني، بحكم نفوذه، هو صاحب المصلحة الحقيقية في التوصل إلى توافق سياسي عام، إلا كان الحزب غير مطمئن لأن تأتى نتائج الانتخابات لصالحه، فيصبح هو الذي يسعى لعرقلتها، مما يبرئ أحزاب "تحالف المعارضة" من وصم بعض قيادات الحزب لها بأنها "بائسة" و"غير مستعدة للانتخابات"، وأن المؤتمر الوطني لقادر على هزيمتها وإن اجتمعت كلها ضده، وأن لا تظن هذه الأحزاب أن النظام يمكن تغييره "بالحسنى أو بالقوة"! فهل لم ولا يخطر ببال المؤتمر الوطني، ولو افتراضيا، أنه سيكون يوما في خانة المعارضة، بينما تصدح بعض قياداته باستعدادها لقبول نتائجها وإن جاءت في غير صالحه؟

 

وللمفارقة، الشريكان منهمكان في اجتماعات ومشغولان بحوارات لا حصر لها مع كل دول العالم ويستقبلان كل أنواع المبعوثين الإقليميين والدوليين! فلا شك، مثلا، في أن منتدى داعمي اتفاقية السلام الشامل الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية، بمشاركة أكثر من ثلاثين دولة ومنظمة إقليمية ودولية، يعطى دفعة قوية للتنفيذ الكامل للاتفاقية بحكم الدور الفاعل والفعال للمجتمع الدولي في الوصول للاتفاقية نقسها. ولكن، المرء يتساءل: وماذا عن، وأين الداعمون الداخليين من القوى السياسية لذات الاتفاقية، والتي لن تكتمل حلقاتها بدونهم، الكاظمون للغيظ والذين ارتضوا بها واعتبروها خارطة طريق لتحول حقيقي، بعد أن فاتهم حظ المشاركة في التفاوض؟ ألا ننشد رأيهم أو نعطيهم فرصة للحوار حول الاتفاقية وتفعيل تنفيذها؟ إن تبدل مواقف القوى الخارجية بما تمليه مصالحها يقف كخير شاهد على خطورة وضع كل البيض في سلة الخارج، والتعويل عليه للخروج من الأزمة. فما يراه البعض كأقصر الطرق قد يقود للتهلكة! وهذا ما نهتنا عنه تعاليم ديننا الحنيف! 

  

خطوة ثانية لإشراك القوى السياسية: المشاركة في تنفيذ اتفاقية السلام

 

مع أن مسؤولية تنفيذ اتفاقية السلام الشامل تقع على عاتق الشريكين، إلا أنه من الضروري إشراك وانخراط اللاعبين الآخرين لضمان التنفيذ الأمين للاتفاقية. فبقية القوى السياسية، خاصة الأحزاب التقليدية التي كانت في السلطة أبان فترات التحول الديمقراطي السابقة (1953، 1964، 1985)، لم تمر بتجربة مماثلة تكون فيها إدارة الانتقال خارجة عن سيطرتها. ومما يعقد الوضع شعور بعض هذه القوى بأنها مطالبة فقط بالبصم على الاتفاقية والمساعدة في تنفيذها بدون أن تكون مشاركة في محادثات السلام، مما دفع بها للدعوة إلى "مؤتمر جامع" للتوافق حولها. صحيح أن الاتفاقية تتضمن آلية للمراقبة، مفوضية التقدير والتقييم، إلا أن عضوية المفوضية وسلطاتها وطبيعتها الدبلوماسية تضع العديد من العراقيل في سبيل كشف الخروق من قبل الطرفين والتوصل للحلول المناسبة. كما أن المفوضية تركز على إجراءات التنفيذ والمخرجات الأولية (outputs)، في ضوء الجداول الزمنية المحددة، دون أن تنفذ إلى الأثر التراكمي (impact) على الهدف الأساسي للاتفاقية المتمثل في تعزيز البناء الدستوري لدولة المواطنة الذي يعطى وحدة السودان الأولوية. فموضوع الوحدة يحتاج للمتابعة الأمينة والتقييم الموضوعي لما اتخذه، ويتخذه، الشريكان من خطوات ايجابية في هذا الشأن.

 

ففي ظل هذه التحديات التي تواجهها عملية تنفيذ الاتفاقية، لماذا لا يبادر الشريكان بإنشاء "منبر قومي أهلي" تشترك فيه القوى السياسية والمجتمع المدني (الحديث والتقليدي) كآلية غير رسمية لمراقبة سير، وتحديد العقبات التي تعترض تنفيذ الاتفاقية، مع ابتداع الحلول التوافقية التي ترضى الجميع؟ أليس هذا أجدى من الاعتماد فقط على دعم وسند الدول الراعية للاتفاقية، أو الخارج عموما؟ قد حان الوقت لإشراك القوى السياسية الأخرى، لضمان التنفيذ الأمين للاتفاقية، والاعتراف بدورهم الهام كمساهمين أصيلين (stakeholders) في عملية بناء السلام. الشكل الذي يتخذه المنبر، إن كان في هيئة مجلس استشاري أو لجنة موسعة (على غرار لجنة الحكماء) وصلاحياته، وعضويته، يمكن التداول بشأنها بين الشريكين، من جانب، وبينهما وبين القوى السياسية، من جانب آخر. أما عضوية المنبر فيمكن أن تترك للقوى السياسية، إضافة للشريكين، بحيث تقوم بترشيح شخصيات، حزبية كانت أم مستقلة‘ طالما حازت على موافقة الجميع، ومشهود لها بالموضوعية والنزاهة، على أن يستمر المنبر حتى نهاية الفترة الانتقالية. ولا تتناقض هذه المبادرة مع، أو تنتقص من، مهام أو أهداف مفوضية التقدير والتقييم، بل هي خطوة لتجاوز الاستقطاب السياسي الراهن وتحقيق التقارب بين الشريكين وكافة القوى السياسية وإشراكها في الحوار الوطني حول تصورات حل الأزمة الوطنية.   

 

خطوة ثالثة لإشراك القوى السياسية: الحكومة الانتقالية

 

إضافة إلى الرد الغاضب، وما حمله من سخرية، على اجتماع "تحالف المعارضة" الأخير، أبدى المؤتمر امتعاضه من مشاركة شريكه في الحكم في هذا اللقاء، خاصة والتحالف أعلن عن انتهاء شرعية حكومة الوحدة الوطنية الراهنة بحلول 9 يوليو 2009، الموعد الذي حدده الدستور الانتقالي لقيام الانتخابات، مطالبا بتكوين حكومة "قومية انتقالية" تفي بمستحقات، وتشرف على هذه الانتخابات لضمان حيدتها ونزاهتها. وجاء الرفض القاطع لهذا المقترح سريعا وعلى لسان عدد من قيادات المؤتمر الوطني، رغما عن ترحيبهم وسعادتهم  لتصريح سكرتارية الحركة الشعبية الذي نفى موافقتها على الدعوة لقيام مثل هذه الحكومة.  وسبب آخر لغضبة المؤتمر الوطني من شريكه في الحكم هو مشاركته في اجتماع سيناقش مسألة الاتفاق على مرشح واحد للرئاسة ضد مرشح المؤتمر الوطني في الانتخابات المرتقبة، كما صرح الناطق باسم التحالف، مما جعل البروفسير إبراهيم غندور، أمين التعبئة السياسية بالمؤتمر الوطني، يسارع بالقول بأن الفريق سلفا كير، رئيس الحركة الشعبية،  يساند ويدعم ترشيح المشير البشير، لانتخابات رئاسة الجمهورية. وهو تصريح سارع بنفيه، مستخدما مفردات ساخرة، ياسر عرمان، نائب الأمين العام للحركة لشعبية. في اعتقادي أن المؤتمر الوطني قد حمل اجتماع المعارضة، وما ورد خلاله من تصريحات، أكثر مما يجب و"أداه توم وشمار" كمن يخلق من "الحبة قبة". لماذا؟:

الاجتماع لم يترك أي انطباع بأن المجتمعين قد تراضوا على مناقشة أو التوافق على مواضيع بعينها، خاصة مع الحركة الشعبية التي لم تشترك فيه إلا بدافع التعرف على يدور في عقول ويعتمل في نفوس المعارضين، ممن تربطها معهم علاقات قديمة، على أن تقوم لجنة مصغرة بتحديد والاتفاق على أجندة لقاء جوبا الذي دعت إليه.

لا أشك في حرص الحركة الشعبية على المضي قدما في الشراكة مع المؤتمر الوطني، رغما عم ما يعتريها من عقبات وما تعترضها من مطبات، في التنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل، كمرجعية لمشروعية حكمها للجنوب ومصدر لما تحقق من مكتسبات كبيرة للجنوب.

على المؤتمر الوطني أن يكون مطمئنا (ويضع في بطنه بطيخة صيفي) بأن الحركة لن تقبل بأن يتحول الاجتماع المرتقب في جوبا إلى منبر لمراجعة الاتفاقية على غرار "المؤتمر الجامع" الذي ظلت بعض القوى تدعو له. فللحركة موقف ثابت من أي تحرك يهدف إلى إعادة التفاوض حول اتفاقية السلام الشامل. كما أنه من غير المرجح أن توافق الحركة على مقترح المعارضة بتشكيل حكومة قومية لإدارة ما تبقى من فترة انتقالية قبل الانتخابات، وقد عبرت قياداتها عن رفضها لهذا الاقتراح في أكثر من مناسبة.

ضعف حجة تحالف أحزاب المعارضة التي تفيد بعدم دستورية حكومة الوحدة الوطنية بحلول يوليو2009. فمد أجل الحكومة حتى فبراير 2010 يجئ كنتيجة طبيعية ومنطقية لتأجيل الانتخابات بحسب قرار المفوضية القومية للانتخابات (وهو الأمر الذي كان حريا بالمعارضة الطعن في دستوريته). و يبدو أن المعارضة لم تحسب خطواتها جيدا قبل إعلانها لموقفها على الملأ، مما جعله يبدو مرتبكا ومربكا. فالفتوى بعدم شرعية الحكومة، ولو جازت بمنطق عدم الالتزام بالموعد الأصلي للانتخابات، كان يجب أن لا تقتصر على حكومة الوحدة الوطنية وحدها بل تتعداها للطعن في دستورية كل الترتيبات الدستورية القائمة على الاتفاقية والدستور لتشمل حكومة الإقليم الجنوبي ومجلسها التشريعي، والحكومات الولائية، والمجلس الوطني، والمجالس التشريعية الولائية، طالما جميعها من المفترض أن ينتهي أجلها في يوليو 2009! فما هو، إذن، المسوغ الدستوري لبقائها؟ أم هل تطمح المعارضة أيضا في تغييرها بمنطق قومية التشكيل؟ ولمزيد من الإرباك في موقف المعارضة، وفى قراءة خاطئة للدستور الانتقالي، صرح مبارك الفاضل، رئيس حزب الأمة-الإصلاح والتجديد (في ندوة لحزبه بمنطقة الهدى بولاية الجزيرة)، أن الحكومة الحالية "سيصبح رئيسها رئيسا بالوكالة حسب المادة 55/2 من الدستور الانتقالي". فالمادة 55 من الدستور تختص بتأجيل انتخابات رئيس الجمهورية، وتنص فقرتها 55/1 على أنه "عند تعذر انتخاب رئيس الجمهورية لأي سبب حسبما تقرره المفوضية القومية للانتخابات وفقاً لقانون الانتخابات، يتعين على المفوضية تحديد موعد جديد لإجراء الانتخاب بأعجل ما تيسر، شريطة ألا يتجاوز ستين يوماً من اليوم الذي كان مقرراً فيه إجراء الانتخابات"، وتليها الفقرة 55/2 التي تنص على أن "يستمر رئيس الجمهورية شاغل المنصب، رئيساً بالوكالة، لحين إجراء الانتخابات المؤجلة وتمتد فترته تلقائياً لحين أداء الرئيس المنتخب اليمين الدستورية". فما علاقة تعذر انتخاب رئيس الجمهورية، والذي ترك تقرير أمره لمفوضية الانتخابات، بعدم دستورية الحكومة طالما توافق الشريكان، بحكم نصوص الدستور، على تأجيل الانتخابات مما يعنى صراحة شرعية كل الترتيبات الدستورية القائمة إن لم ينص الدستور خلافا لذلك؟

الخلاف يجب أن لا يتركز حول مواقيت الانتخابات، وبالتالي الجدل حول دستورية الحكومة أو انتهاء أجلها، بل أن ينصب على القضايا التي تقف في طريق الوصول للتوافق الوطني لإكمال مهام الفترة الانتقالية في سياق الحفاظ على الترتيبات الدستورية القائمة وتجنب انهيار الوضع الدستوري، الذي يستمد مشروعيته من اتفاقية السلام الشامل. فهل يقصد الداعون لحكومة قومية (أو حكومة تكنوقراط) أن يعاد التفاوض والتوصل لبناء دستوري جديد؟ أم سيعهد للحكومة المقترحة مهام تنفيذ الاتفاقية بعد فشل الشريكان في أدائها؟ وما هي السبل والوسائل التي ستنتهجها المعارضة في إقناع الشريكان للتخلي طواعية، عن السلطة أو إقصاءهم عنها في حالة رفضهما؟ هل ستلجأ للمحكمة الدستورية، أم ستقود الثورة أو الانتفاضة لإسقاط الحكومة الراهنة؟ إن دعوة تحالف المعارضة بعدم دستورية الحكومة سيفتح صندوق "باندورا" كما جاء في الأسطورة الإغريقية، والذي ما أن تم فتحه، بدافع الفضول، حتى انطلقت منه كل الشرور والرزايا! ومن جانب آخر، أفلا نستخلص الدروس ونستلهم العبر من تجربة حكومة "جبهة الهيئات" في أكتوبر 1964، والتي انقضت عليها الأحزاب ولم تمهلها لإكمال مهامها، وتجربة حكومة "الشخصيات الوطنية والنقابية" في أعقاب انتفاضة أبريل 1985، والتي لم تنجز شيئا، بل مهدت الطريق لانقلاب "الإنقاذ"؟ إن كل هذه الخيارات لا تتسق مع الواقع السياسي الراهن وتوازن القوى المختلفة، وقد لا تقود لتحقيق أهداف تحالف المعارضة، كما من المرجح أن لا تجد دعما من القوى الإقليمية و الدولية. فالاتفاقية هي نفسها جاءت كنتاج للدور الذي لعبته هذه القوى، وعادت لتؤكد مساندتها لها ووقوفها بجانبها لتخطى عقبات الشركة وخلافات الشريكين باشتراكها الفاعل في منتدى داعمي اتفاقية السلام الشامل، الذي رعته أمريكا ومبعوثها الرئاسي للسودان في واشنطون في يونيو المنصرم.

ولعله الأهم، لماذا يتوجس المؤتمر الوطني من دعوة الحركة للاجتماع مع القوى السياسية في جوبا ويفضل عدم المشاركة فيه، طالما كانت أجندته لا تطال الشراكة معه ومقرراته لن تقر بعدم دستورية الحكومة أو تدعم فكرة الحكومة القومية؟ أفلم تهب كل هذه القوى، ما عدا القليل منها، للمشاركة في "ملتقى أهل السودان" الذي دعي وأعد له المؤتمر الوطني، بما في ذلك الحركة الشعبية التي شاركت بوفد رفيع المستوى وبقيادة رئيس الحركة نفسه؟  فما الغرابة في أن تلتقي الحركة الشعبية بهذه القوى، والمؤتمر الوطني يدرك جيدا ما يربط الحركة معها من علاقات قديمة وصلت إلى حد التحالف لسنوات طويلة تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي؟ أيريد المؤتمر من الحركة التنكر لحلفائها السابقين وكل ما جمعهم من تفاهم مشترك حول العديد من القضايا؟ ففي المقابل، إذن، لماذا لا يقلب المؤتمر "ظهر المجن" لأحزاب التوالي التي ظلت دوما تقف معه في السراء والضراء؟  فالمؤتمر الوطني يطلب ويتوقع من الحركة المستحيل سياسيا! ولماذا لا ينظر المؤتمر لاجتماع جوبا كفرصة لتقوية شراكتها مع الحركة وإدارة الأزمة عبر الانفتاح على القوى السياسية الأخرى وطرح القضايا الوطنية العالقة والحوار حولها مجتمعين للخروج برؤية مشتركة لتهيئة المناخ السياسي للانتقال السلمي للسلطة؟

 

 خلاصة الأمر، أن توتر العلاقة بين الشريكين، وتعثرهما في إدارة عملية الانتقال (دون تحميل المسؤولية لأي منهما)، أسهما بقدر كبير في تأزم واحتقان الوضع السياسي، خاصة استبعادهما للقوى السياسة الأخرى من المشاركة السياسة الفاعلة مما فتح الباب واسعا للاستقطاب. فقد لجأت هذه القوى للشريك الأصغر كحليف سابق لها، لعله يعينهم في تنفيذ اتفاقية القاهرة، المعنية أساسا بالتحول الديمقراطي، بعد أن خاب ظنهم وفقدوا ولو حتى بصيص أمل في استجابة المؤتمر الوطني، إذ لم يخرجوا من "المولد" إلا ببضعة مقاعد في الجهازين التشريعي والتنفيذي. ويشهد على خيبة الأمل هذه رسالة الاحتجاج التي  بعث رئيس التجمع الوطني الديمقراطي، محمد عثمان الميرغني، للحزب الحاكم، معبرا خلالها عن عدم رضاه عن سير تنفيذ اتفاق القاهرة. (الصحافة، 8/6/2009) كما انتقد مولانا بطء تنفيذ الاتفاق بالقاهرة، خلال الأسبوع الثالث من يونيو 2009، إلى كل من الأمين العام لجامعة الدول العربية ووزير خارجية مصر، حيث، على حد قوله، "أنه يتم ذكر الاتفاقيات الأخرى في نيفاشا وأبوجا وغيرها ولا يتم الحديث عن اتفاق القاهرة وكأنه لم يكن". وعلى هذه الخلفية، تمت مشاركة الحركة الشعبية في اجتماع تحالف المعارضة في وقت بدأت فيه الحركة نفسها في الاشتباك العنيف، بسبب اتهامها للمؤتمر الوطني بالتلكؤ في تنفيذ اتفاقية السلام، والدخول في معركة تعديل القوانين مع شريكها في السلطة، في أعقاب إعلان الجدول الزمني للانتخابات، مما أسهم في تعقيد وتوتر العلاقة بين الطرفين.

 

ولعل الطريقة التي تم من خلالها تأجيل الانتخابات هي بمثابة التفاف على، وليس بخرق للدستور الانتقالي. فاتفاقية السلام الشامل لم تغفل عن ترك مساحة لشريكي الحكم لمراجعة جدوى الموعدين المشار إليهما في الفقرتين الفرعيتين 1.8.1 و1.8.3 وهما خاصتان بميقاتي إجراء التعداد السكاني وقيام الانتخابات العامة. بينما حددت الفقرة 1.8.4 ستة أشهر قبل نهاية الفترتين الزمنيتين المشار إليهما في الفقرتين السابقتين لاجتماع الشريكين للقيام بهذه المراجعة، مما يستدعى ضمنيا استصحاب آراء القوى السياسية الأخرى والحوار معها حول الدوافع الموضوعية للتأجيل. ولكن، الشريكان نفضا أيديهما تماما عن هذه المهمة، وتركاها للمفوضية القومية للانتخابات وحولاها إلى سكرتارية تتبع للشريكين وتنطق باسمهما، مما يتناقض مع طبيعتها كجهاز قومي ومستقل يعنى أساسا بإدارة العملية الانتخابية. وطبيعيا، أثار هذا التصرف شكوك المعارضة في تواطؤ الشريكين لمد أجل بقائهم في الحكم (والكنكشة في السلطة)، مما يوحى بأن كل منهما لا يضمن أن تأتى نتائج الانتخابات لصالحه لأسباب موضوعية وذاتية، مما دفعها للكيد للشريكين معا، ولو كان المقصود ضمنيا هو المؤتمر الوطني بحكم قبضته على السلطة في المركز. وعليه، أفتت القوى المعارضة بانتهاء الصلاحية الدستورية للحكومة القائمة، وطالبت بالمشاركة في الحكم عن طريق الدعوة لحكومة قومية، عسى ولعلى أن ينوبها نصيب في قسمة السلطة (والثروة) بعد أن قرأت في التفاف الشريكين على الدستور كمحاولة لمد أجل استحواذهما على الحكم وانفرادهما به لأطول فترة ممكنة. فهكذا، "كبراقش التي جنت على نفسها" ابتدر الشريكان التحايل على الدستور، مما جعل كل طرف في الساحة السياسية يفسر الدستور على مزاجه وكأنه مجرد ورقة لخدمة أغراض ومصالح حزبية!

 

في رأيي أن الطريق الوحيد للخروج بالبلاد من هذا الاستقطاب الحاد هو أن يدرك الشريكان، من جهة، والقوى السياسية الأخرى، من جهة أخرى، أهمية الحوار الجاد حول كل القضايا الوطنية موضع الخلاف وتبنيه كمنهج وحيد لعلاجها. ولن يثمر هذا الحوار أو يصل لنهاياته المنطقية دون إشراك الحركات المسلحة والقوى السياسية والمجتمع المدني بدارفور، بما يفضى إلى تسوية سلمية دائمة للنزاع في دارفور.

 

خطوة رابعة: حكومة قومية أم إعادة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية؟

 

سبق وأن طرحت في سلسلة مقالات منشورة (تحت عنوان طلقة في الظلام، الأحداث، سبتمبر 2008)، في أعقاب إدعاء المحكمة الجنائية الدولية في حق رئيس الجمهورية، الضرورة السياسية لإعادة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، إن كانت فكرة "الحكومة القومية" مستهجنة من قبل الشريكين ولا تجد استحسانا منهما بحجة مساسها بنصوص اتفاقية السلام الشامل، وذلك بإشراك القوى السياسية ذات الوزن والقاعدة الجماهيرية وفق برنامج وطني ترتضيه كل القوى السياسية لإكمال وتعزيز التحول الديمقراطي، والشروع الجاد في إيجاد تسوية سياسية عادلة لمشكلة دارفور، كمدخل سليم لمعالجة جذور أزمتنا الوطنية. الواجب الأول أمام هذه الحكومة هو العمل على تسريع إجراءات تهيئة المناخ، وتسوية أرضية الملعب، تمهيدا لمنافسة انتخابية نزيهة، وذلك بتنفيذ كل النصوص ذات الصلة في اتفاقية السلام الشامل واتفاقية القاهرة. فحكومة الوحدة الوطنية"، بتشكيلتها الراهنة، أسم على غير مسمى، فهي لا تخرج عن كونها حكومة "ائتلافية" بين شريكي الحكم، الغلبة فيها للمؤتمر الوطني. وإن كان السودان "بلد واحد" يحكم دستوريا ب"نظامين"، فان حكومته تبدو في نظر الناس وكأنها "حكومة واحدة" ولكنها ب"كابينتين" (حكومة دبل كابينة!)، يحتل المؤتمر الوطني كابينة القيادة بينما تجلس الحركة الشعبية في كابينة "الركاب" المكيفة!

 

وفى الحقيقة، الحصة "الفعلية" للمؤتمر الوطني من قسمة السلطة ليست 52%، كما حددنها الاتفاقية وأقرها الدستور، بل هي أكثر من 70% في الحكومة. وذلك لأن ال20% التي خصصتها الاتفاقية لتمثيل القوى السياسية الأخرى (شمالية وجنوبية) ذهب جلها لصالح أحزاب "الشبكة" الموالية للمؤتمر الوطني. وهذه الأحزاب هي مع ومن وإلى" المؤتمر الوطني، من ناحية التأييد المطلق لسياسات وبرامج وخطط وتوجهات المؤتمر الوطني. ومن ناحية أخرى، فإن الطريقة التي وافق بها التجمع الوطني الديمقراطي على المشاركة في الجهاز التنفيذي قد أضعف من وجوده وفاعليته، كما قلل كثيرا من شأن الصفة "القومية" للحكومة. ويجب أن لا تثير إعادة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية أي صراع حول الحصص والأنصبة، طالما كانت الحكومة قائمة على برنامج متفق عليه، ولا تتخذ قراراتها بالتصويت.

 

هذه الخطوة لا تمليها ضرورات الوضع السياسي المحتقن أو الانصياع لمطالب المعارضة بالمشاركة في السلطة، إنما تفرضها المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق شريكي الحكم في قيادة المرحلة الانتقالية، خاصة المؤتمر الوطني الذي يتحمل العبء والحمل الأثقل لتحقيق شروط الانتقال، بحكم استمرار سيطرته على مؤسسات الحكم وجهازه التنفيذي خلال الفترة الانتقالية. ولكن هذا لا يعنى، بأي حال من الأحوال، إعفاء الحركة الشعبية كشريك أصغر في الحكم من تحمل نصيبها من المسؤولية فيما يتصل بتنفيذ اتفاقية السلام الشامل، كطرف أصيل فيها، وبغض النظر عن حجم حصة تمثيل الحركة في مؤسسات الحكم الاتحادية. فابتداء، لم تثابر الحركة على الدفع بأهمية وضرورة الاتفاق على برنامج وطني للحكومة لإنفاذ الاتفاقية وسياسات قطاعية تتسق مع أهدافه. كما أن الحركة الشعبية، 1) لم تتحمس لإشراك القوى السياسية الفاعلة ذات القواعد الاجتماعية المعروفة، 2) لم تعمل على، أو تطالب بمراجعة السياسات الاقتصادية الكلية أو القطاعية أو حتى مجرد إثارة النقاش حولها، ومدى توافقها وانسجامها مع متطلبات السلام الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وتحقيق الوحدة "الجاذبة"، فاستدامة السلام تستدعى الاستجابة لكل هذه المطلوبات، فالسلام ليس فقط بقضية سياسية بحتة، و3) لم تضع في قائمة أولوياتها الاهتمام بتفعيل المفوضيات، خاصة مفوضية حقوق الإنسان، ومفوضية الخدمة المدنية، ومفوضية توزيع ومراقبة الإيرادات المالية، والمفوضية القضائية، وتطوير عملها كآليات دستورية مستقلة تتيح مشاركة فاعلة للقوى السياسية الأخرى في صوغ سياسات ومراقبة التحول الديمقراطي وإعادة بناء مؤسسات الدولة المحكومة دستوريا بالديمقراطية والتعددية السياسية.

 

 

آراء