رسالة مفتوحة إلى د. غازي صلاح الدين … بقلم: د. الواثق كمير
10 August, 2009
رسالة مفتوحة
وقفه مع النفس: هل نرغب في العيش سويا؟ (4-4)
تونس – القاهرة
يوليو 2009
إلى
د. غازى صلاح الدين
(مستشار رئيس الجمهورية والقيادي بالمؤتمر الوطني)
من
د. الواثق كمير
kameir@yahoo.com
محتويات
تقديم
أولا: مأزق التباعد بين مواقف الشريكين والاستقطاب السياسي
ثانيا: مسئولية قيادة الانتقال : نحو تطوير الشراكة
ثالثا: إشراك كافة القوى السياسية السودانية في بناء المستقبل
(خطوات مطروحة)
رابعا: إشكالية الدين والدولة – الجدل حول القانون الجنائي
خامسا: هل هناك فرصة لمصالحة تاريخية ..؟
عزيزى د. غازى
سلامات من تونس الخضراء
رابعا: الجدل حول القانون الجنائي: وميض تحت الرماد!
ردود عنيفة (بما فيها ردك الغاضب) صاحبت كلمة ياسر عرمان في المجلس الوطني- رئيس كتلة نواب الحركة الشعبية- حول العقوبات الحدية في القانون الجنائي وتطبيقها على غير المسلمين، لكنها امتدت خارج البرلمان "الانتقالي" ليستغلها الخصوم السياسيون في قهر الرأي الآخر وإسكات صوته لحد التحريض بالقتل، ووصلت ذروتها بإصدار ما يسمى "هيئة علماء السودان" لفتوى تحريضية وتكفيرية في حق نائب الأمين العام للحزب الشريك في الحكم، (بل، ولاحقا، الشروع في تنفيذها بوضع متفجرات أمام مكتبه بدار الحركة الشعبية بأركويت). وفى ظل هذا الغبار الكثيف، جاء بيانك الايضاحى المقتضب (فليكن الخلاف ولتبق حرية التعبير مبدءا يحترمه الجميع) ليخفف مما خلفته الواقعة من احتقان. ومع نجاح بيانك في درء الشبهات وتهدئه النفوس، ومع اتفاقي معك حول الاختلاف في فلسفة التشريع ، إلا أن موضوع الخلاف في حد ذاته يظل سياسيا من الدرجة الأولى ويبقى الاشتباك حوله أعراضه فقط، دون إرجاعه لأصله، مجرد دخان ترقد تحته نار! فهو يتصل مباشرة بمسألة فرص تحقيق خيار الوحدة المفترض نظريا أن يعمل من أجلها الشريكان وكافة القوى السياسية، خاصة في الشمال. من جانب آخر، فاني أرى أن إثارة الموضوع يوفر فرصة لفتح حوار جاد وأمين حول العلاقة بين الدين والدولة التي تقع في صلب قضية الوحدة الطوعية.
لاشك أنه إن شعر الجنوبيون، وخصوصا غير المسلمين، واقتنعوا تماما بإمكانية المنافسة بمطلق الحرية وعلى قدم المساواة، على كل المواقع السيادية العليا في البلاد وبدون أي قيود دستورية (كما يقرره "نظريا" الدستور الانتقالي القائم)، أفلا يمثل الإصرار على تطبيق قوانين ذات أصول دينية في شمال السودان عائقاً ونوعاً من الموانع المؤسسية والثقافية والاجتماعية، الذي يصبح معه الحق الدستوري لغير المسلمين في المنافسة على هذه المواقع، خصوصاً منصب رئيس الجمهورية، مجرد مظهر خادع وأمنية طيبة؟ حتى، ولو تمكن مرشح من غير المسلمين (نظريا أيضا) من الفوز في الانتخابات بمقعد الرئاسة، فهل من المستساغ سياسيا له أن يكون على رأس حكم بالبلاد يطبق قوانين دينيه على "المواطنين" في جزء من البلاد، بينما يخضع فيه "المواطنين" لقوانين مدنية في جزء آخر؟ وبنفس القدر، ألا يتناقض إخضاع غير المسلمين من الجنوبيين إلى أحكام الشريعة الإسلامية في الشمال، بينما يتم تطبيق قوانين مدنية في الجنوب (حتى على غير المسلمين) مع مبدأ مساواة مواطني البلد الواحد أمام القانون؟ وفوق ذلك كله، ألا يمثل هذا التمييز، القائم على دين المواطن، انتقاصاً بيّنا لحقوق المواطنة وإخلالاً بتكامل عناصر "الوحدة على أسس جديدة"، والتي لا تقبل الاجتزاء أو الاختزال؟ فهل سيصوت الجنوبيون لصالح وحدة تقوم على استدامة الترتيبات الانتقالية لاتفاقية السلام الشامل التي تجمع بين نظامين تشريعيين مختلفين، بينما تتيح لهم نفس الاتفاقية خيار إقامة دولتهم المستقلة بقوانينها المدنية؟ وما هو المنطق الذي سيدفع غير المسلمين، أو الجنوبيين عموماً، للقبول طواعية باحتمال تعرضهم، حتى ولو نظرياً، لعقوبة الجلد أو بتر الأيادي؟ وما هو المغري في هذا النوع من الوحدة الذي يحثهم على دفع مثل هذا الثمن، وهم يملكون خياراً آخرا؟ وما الذي يدعو الجنوبي (أو غير المسلمين عموما) للبقاء والعيش في "وطن" لا يوفر له (لهم) حقوق المواطنة الكاملة وبدون انتقاص منها؟
إذن، لعلك تتفق معي على عدد من الفرضيات الأساسية:
i. أن التعدد الديني في السودان يقتضي أن يعالج موضوع الدين والدولة بصورة تأخذ في الاعتبار ذلك التعدد وخصوصية التنوع السوداني، دون النقل الحرفي من تجارب الآخرين، بل الاستفادة واستخلاص الدروس منها.
ii. احتل موضوع الدين والسياسة، أو الدين والدولة، حيزاً كبيراً في الجدل السياسي منذ الستينيات، كما أنه في جانب منه، كان امتداداً لجدل أوسع على نطاق الأمة الإسلامية كلها حول الحفاظ على الهوية في سياق عالم تعددي. وهكذا، فان المطالبة بفصل الدين عن الدولة لم تأت بها الحركة الشعبية التي تأسست في عام 1983، ولا قطاعها الشمالي، أو الشماليين من قياداتها، الذين تلصق بهم فرية "الإلحاد" وكل أنواع الرزايا، ويتم اتهامهم بموالاة الحزب الشيوعي وتصويرهم كغواصاته داخل الحركة. ولكن، لا ينفى هذا التجني على النفر الشمالي موقف الحركة المبدئي من العلاقة بين الدين والدولة كأهم ركيزة لمشروع السودان الجديد.
iii. ظلت مسألة الدين والدولة على قمة أجندة الجولات المتعددة للتفاوض بين الحركة الشعبية وحكومة السودان، منذ أول لقاء لهما في أغسطس1989، من ناحية، وموضوعاً ساخناً للحوار بين الحركة الشعبية وحلفائها في التجمع الوطني منذ انضمام الحركة للتجمع في 1990، ومن بينها أحزاب ذات قاعدة دينية وتوجه إسلامي.
iv. إن الفشل في التوصل إلى اتفاق على إقامة دولة ديمقراطية مدنية يفصل دستورها بين الدين والدولة وفقا لإعلان الإيقاد للمبادئ هو الذي مهد الطريق لتبني ترتيبات "الدولة الواحدة بنظامين" في ماشاكوس في 2002، ولاحقا تضمينها في اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي في عام 2005.
v. حدث اختراق هام في هذا الشأن له أثر إيجابي على وحدة البلاد تمثل في قرار التجمع الوطني حول "الدين والدولة" الذي تبناه مؤتمر أسمرا للقرارات المصيرية في عام 1995، وهو بمثابة موقف متقدم ومتطور للقرار الذي أصدره التجمع حول نفس الموضوع في نيروبي عام 1993. ورغماً عن أن "إعلان أسمرا" أكد على حق تقرير المصير للجنوب، إلا أن القرار الخاص بالعلاقة بين الدين والدولة، تم تثبيته على مبدأ عدم استغلال الدين في السياسة، وذلك بإقرار العديد من التدابير الدستورية التي تكفل المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيساً على حق المواطنة، بما في ذلك الاحتكام للقضاء، وتطابق كل القوانين مع المبادئ والمعايير المعنية بحقوق الإنسان والمضمنة في المواثيق والعهود الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان، وتقضي ببطلان أي قانون يصدر مخالفاً لذلك وتعتبره غير دستوري.
لماذا نخلط المواضع فنفرق بين شعبنا ونحصد الشقاق؟
وبالتالي، فإن تم الاعتراف بأن وحدة السودان يتهددها الخطر، فما الذي يمنع المؤتمر الوطني من التوصل إلى اختراق ثالث في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان؟ ودون تحامل على المؤتمر الوطني، إلا أنه، كحزب جاء للسلطة "كجبهة إسلامية" تدعو إلى تطبيق الشريعة وإقامة الحكم الإسلامي في كل السودان، وظل يمسك بمفاصل الدولة ويقود مؤسساتها، يتحمل النصيب الأكبر من مسؤولية الحفاظ على وحدة البلاد بعد احتكار كامل للسلطة لأكثر من عقد ونصف من الزمان (1989-2005). كما سيكون صاحب الحصة الأكبر من النتائج إن تحققت الوحدة أو وقع الانفصال.
أفلا يمكن أن يطور المؤتمر الوطني موقفه من قضية العلاقة بين الدين والدولة بما يسمح بالتعايش السلمي بين مختلف الأديان في إطار دولة مدنية ديمقراطية تكفل حقوق المواطنة للجميع؟ فالحزب الحاكم نفسه تعرض للتحول والتغيير من الأخوان المسلمون" إلى "جبهة الميثاق" إلى "الجبهة الإسلامية القومية"، ومن ثم إلى المؤتمر الوطني"! فقوانين الشريعة التي طبقها نميرى في سياق نظام شمولي، وشكلت أساسا لبرنامج الجبهة الانتخابي، لم ينفعها أو يخدمها في كسب أصوات الناخبين في انتخابات 1986، رغما عن رفضها القاطع وشنها الحرب على الداعين لإلغائها أو تعديلها أو حتى "تجميدها"، إذ حصلت على 733,034 صوتا فقط مقارنة ب 1,531,216 لحزب الأمة الذي وصف زعيمه قوانين سبتمبر بأنها "لا تساوى الحبر الذي كتبت به". فلولا دوائر الخريجين (المثيرة للجدل) لما احتلت المركز الثالث من ناحية عدد الدوائر الانتخابية التي فازت بها! ومن ناحية أخرى، ألا يمكن للمؤتمر الوطني الاستهداء بتجارب الآخرين من الدول الإسلامية (مصر، تركيا، ماليزيا، إندونيسيا، سنغافورا) في الاتفاق على صيغة تكفل المساواة في حقوق المواطنة، وفي الوقوف أمام القضاء المدني، بغض النظر عن المعتقد الديني للفرد؟ لقد نجحت، على سبيل المثال، الجارة مصر في تحقيق التوازن بين حقوق المواطنة، وتطلعات الأغلبية المسلمة في البلاد. فالتعديلات الدستورية التي أجازها مجلس الشعب المصري في مارس 2007، أبقت على المادة (2) المثيرة للجدل في الدستور المصري، والتي تجعل من "مبادئ التشريع الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع". وبرغم ما أثارته هذه المادة من شكوك وتخوف وسط الأقباط المصريين، إلا أنها وجدت قبولاً لدى قطاعات واسعة من القوى السياسية المصرية، كما لم تعترض عليها الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، طالما ظل كل المصريين، سواء كانوا مسلمين أم أقباطاً، يخضعون لنفس القوانين المدنية الموحدة للبلاد، فيما عدا تلك المتعلقة بالأحوال الشخصية. وفى لبنان، حيث تقوم السياسة على المحاصة الدينية-الطائفية، يحتكم كل المواطنين اللبنانيين إلى القانون المدني، فيما عدا قضايا الأحوال الشخصية. وهاهو حزب إسلامي عتيق، حزب العدالة والتنمية التركي، يكتسح الانتخابات التركية الأخيرة، وفق دستور يفصل بين الدين والدولة وجيش مكلف دستوريا بإنفاذ العلمانية، بدون أن يتشكك أحد في، أو ينتقص من إسلاميته!
وهذا كله لا يعنى توقف الحوار والجدل حول موقع الدين من الدولة والسياسة في كل هذه البلدان من أجل الإعلاء من قيمة المواطنة، بغض النظر عن الانتماء الديني للمواطن طالما كانت حرية العبادة والتدين وإقامة الشعائر مكفولة للجميع! فلماذا نخلط المواضيع فنفرق بين شعبنا ونقسم الناس ونزرع الشقاق بينهم، فلا نحصد إلا التشرذم والتفكك والانهيار الشامل.
أم هل يظن المؤتمر الوطني إن إخلاء الساحة السياسية في شمال السودان من الحركة الشعبية (أو الشماليين بداخلها) أو الجنوبيين، سيحسم الصراع حول موضوع القوانين الدينية ويغلق ملف العلاقة بين الدين والدولة نهائيا؟ إن كان كذلك، فمثل هذا الاعتقاد يفتقر إلى بعد النظر والواقعية. فالجدل حول قضية الدين والدولة، كما أسلفنا ذكره، كان مسرحه شمال السودان، منذ الستينات من القرن الماضي، وليس جنوبه. فمن جانب، لا يوجد إجماع حول قوانين الشريعة حتى وسط المسلمين أنفسهم، فالسيد الصادق المهدي، على وجه المثال، دائما ما يذكرنا بضرورة التفريق بين "رؤية المؤتمر الوطني" و "رؤية أغلبية مسلمي الشمال" لهذه القوانين، بينما وافق مولانا محمد عثمان الميرغني على تجميدها في إطار اتفاقية "سلام السودان" في 1988. ومن جانب آخر، هناك أعداد مقدرة من غير المسلمين، سواء كانوا مسيحيين أم من أصحاب كريم المعتقدات الأفريقية، في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان. ولا أحتاج إلى التشديد على أن هذه المناطق مأهولة بقواعد الحركة الشعبية وتمثل جزءا من مشروع السودان الجديد الذي يشكل فصل الدين عن الدولة أحد دعائمه الأساسية. بلا شكك أن موضوع الدين والدولة ستكون له تداعياته، وسيلقى بظلاله على عملية "المشورة الشعبية" في هاتين المنطقتين. فالتعدد الديني في شمال السودان الجغرافي لا يقف عند هذا الحد، فأين مكان قبط السودان في هذه المعادلة وهم أصحاب حق أصيل فيه؟ وهل نسينا دارفور؟ فحركة تحرير السودان، على الأقل جناح عبد الواحد محمد نور، تدعو بقوة لفصل الدين والدولة ويجاهر زعيمها ب"العلمانية"، وإن تعمد البعض التقليل من أمره والتبخيس من شأنه. فهكذا، على المؤتمر الوطني أن لا يسعد كثيرا بتجنب الحركة الشعبية أو الجنوبيين إثارة هذه القضية في هذه المرحلة، التي ستظل محورا للصراع وعائقا للوحدة حتى في حدود الشمال الجغرافي. فمن يعتقد في أن تطبيق قوانين الشريعة، سيحقق الاستقرار في شمال السودان، كعامل مشترك للهوية في هذا الجزء من البلاد، فليمعن النظر في تجربة الصومال حيث يشترك الجميع في الدين واللغة والأصول العرقية.
ولكن، هذا العبء الثقيل الواقع على المؤتمر الوطني لا يعفى القوى السياسية الأخرى، بما فيها الحركة الشعبية، من مباشرة مهامها الوطنية ونصيبها المقدر من المحافظة على وحدة السودان بتوضيح موقفها من علاقة الدين بالدولة:
i. بعد أربعة أعوام من المشاركة في السلطة، فالحركة الشعبية، الشريك الثاني في الحكم، وبنفس القدر، مطالبة بتوضيح موقفها بشفافية من العلاقة بين الدين والدولة (وكذلك من وحدة البلاد). فحتى إن لم تكن الشريعة مطبقة عمليا في جنوب السودان منذ أن فرضت "قوانين سبتمبر" في 1983، فقد دأبت الحركة الشعبية منذ تأسيسها، كحركة تحرير، على الدعوة بانتظام إلى سودان ديمقراطي موحد وتقاتل من أجله. كما ظلت قضية الدين والدولة تشكل الركيزة الأساسية لمفهوم "الوحدة على أسس جديدة". ذلك بجانب، أن مانيفستو الحركة (ودستورها)، قد أعاد تعريف النزاع السوداني على أنه تعبير عن "مشكلة السودان" وليس "مشكلة الجنوب"، كما تم تعريفه تقليدياً، كما أكد على قومية الحركة. فهل تخلت الحركة عن أحد مبادئها الجوهرية، وبالتالي عن طبيعتها القومية، واكتفت وقنعت فقط بما حققته الاتفاقية من مكاسب للجنوبيين، بما في ذلك دستور الجنوب الذي يفصل بين الدين والدولة؟ وذلك بفهم أن الشمال لا يعنيها في شيء، وكأن المراد من الاتفاقية هو إيقاف الحرب في الجنوب حتى يستقل من أراد أن يستقل بالشمال! وربما سؤال آخر يطل برأسه، هل كانت معارضة الحركة الشعبية المنتظمة ورفضها المستمر للقوانين الدينية منذ سبتمبر 1983 مجرد مزايدة سياسية، في سياق الصراع على السلطة، ولا تعبر عن موقف مبدئي لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الدين والدولة في سودان موحد على "أسس جديدة" والذي ظلت تبشر به وتروّج له لربع قرن من الزمان؟ وهل يعني هذا أن مطالبة الحركة الشعبية بإلغاء هذه القوانين كأحد الشروط اللازمة والضرورية لوقف الحرب، لم يكن إلا ذريعة لانتزاع حق تقرير المصير كخطوة أولى قبل أن تستخدمه مرة أخرى كحجة للانفصال عندما يحين وقت البت في هذا الحق باستفتاء الجنوبيين عليه؟
ii. أما من جانب القوى السياسية الأخرى، كان المرء يتوقع من المعارضين لبعض جوانب الاتفاقية، إثارة الحوار الوطني و الجاد بشأنها، خصوصاً من طرف حلفاء الحركة السابقين في التجمع الوطني (الأمة، الاتحادي الديمقراطي، والحزب الشيوعي) والذين مهروا إعلان أسمرا حول الدين والدولة بتوقيعاتهم، أم هل تنصلوا عن اتفاقهم ذلك واعتبروه قد سقط بتقادم الزمن؟ أم هل اكتفوا بصب جام غضبهم على "ثنائية الاتفاقية" و"قسمة السلطة"، بينما غضوا الطرف عن قضية جوهرية لا تستقيم وحدة السودان بدون إيجاد معالجة جذرية لها، وكأنما الحل "المؤقت" الذي ارتضاه الطرفان المتفاوضان قد جبّ هذه الثنائية، أو صادف هوىً في نفوسهم ولسان حالهم يقول: "الحمد لله الذي خلصنا من اتفاق لم نتحمس له أصلا"؟
إن الدعوة لفصل الدين عن الدولة لا يعنى إطلاقا، كما يسئ البعض تفسيره أو يتناوله خطأ، الإلحاد أو إبعاد الدين (الإسلام) عن الحياة أو المجتمع، ولو بأي شكل من الأشكال، فالدين جزء أصيل من الإنسانية. كما لا يفرض هذا الفصل على المسلم أو غيره أن يهجر نفسه أو ينخلع عن ثقافته. بل المقصود هو أن تبقى الدولة محايدة تماما تجاه مواطنيها على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم، وأن لا يستخدم الدين كأساس للقوانين التي يحتكم إليها جميع المواطنين بغض النظر عن دينهم، إلا بالطبع فيما يتصل بقوانين الأسرة والأحوال الشخصية. فبدون حاجة لفرضها قسرا وبسلطة مؤسسات الدولة، فالشريعة أصلا تلعب دورا رئيسيا في تطوير وتشكيل القيم والمعايير الأخلاقية والتي تنعكس على التشريعات والسياسات العامة عن طريق العملية السياسية الديمقراطية. فالدولة مؤسسة سياسية اجتماعية، يديرها سياسيون من مختلف الأديان والمذاهب، وليست لها سلطات دينية، مما يجعل المحصلة النهائية لتطبيق القوانين الدينية خاضعة للإرادة السياسية للدولة ومصدرا لشرعية النخب الحاكمة باسم الإسلام.
بهذا الفهم أيضا، لا يعنى فصل الدين عن الدولة استبعاد الإسلام من صياغة التشريعات والسياسات العامة، والتي بالضرورة لا بد من عكسها لمعتقدات وقيم المواطنين الدينية، شريطة أن لا يكون ذلك باسم دين بعينه في بلد متعدد الديانات والمعتقدات. فذلك يعنى صراحة تفضيلا لوجهات نظر من يسيطرون على سلطة الدولة فقطـ مع إقصاء أديان ومعتقدات المواطنين الآخرين. وبالتالي، فالمقصود هو الفصل "المؤسسي" بين الدين والدولة، دون أن يعنى ذلك فصل الدين عن السياسة، والذي قد يكون ضروريا ومرغوبا فيه، بل ومنسجما مع واقع المجتمع الذي نشأنا ونعيش فيه. فغالبية أحزابنا السياسية تستند على قواعد دينية وتكوينات طائفية ومذهبية. فحتى القوى السياسة، الموسومة ب"العلمانية" كالحركة الشعبية، مثلا، تثابر على خلق وتطوير العلاقات مع القيادات الدينية المختلفة والزعامات الطائفية والطرق الصوفية. ألم نشاهد فاقان أموم يرتدى الجلباب الأخضر ويطوق عنقه بسبحة "اللالوب" ويتمايل مع دقات "النوبة"، في حضرة الشيخ أزرق طيبة! إضافة إلى أنه من المستحيل أن لا تؤثر القيم الدينية للمسلمين على السلوك والفعل السياسي سواء للمسئولين في الدولة أو المواطنين العاديين.
فهكذا، المسألة في جوهرها ليست بجدل فقهي أو ديني حول دولة "دينية-إسلامية" في مقابل أخرى "علمانية-ملحدة"، بل هي قضية سياسية تتلخص في كيفية حفظ حقوق المواطنة وتأسيس الدولة ودستورها على هذا الأساس، وهو ما قامت عليها مبادئ الدستور الانتقالي! ولكن يظل نموذج "الدولة بنظامين" وضعا انتقاليا أفرزته مباحثات السلام حول قضية الدين والدولة (أو المواطنة) بين طرفي الاتفاقية. فهو الموضوع الوحيد الذي تعثر التوافق عليه فتواصى الطرفان، بشهادة الوسطاء على "ترحيله" وتأجيل البت فيه خلال الفترة الانتقالية، وأفضى إلى استحداث وتقديم عبارة "الوحدة الجاذبة" كمخرج بعد الاستعصاء الذي وصلت إليه مفاوضات نيفاشا في هذه القضية. الآن، والجميع مقبل على انتخابات عامة واستفتاء على تقرير مصير الجنوب، فالفرصة سانحة للانتقال من (التفاوض) إلى (الحوار) بشأنه. فهذان مفهومان مختلفان!
إذن، العلاقة بين الدين والدولة هي التي أصلا وقفت حاجزا وحالت دون وصول مباحثات السلام إلى اتفاق على دولة موحدة "بنظام تشريعي واحد" وفقا لأي من المشروعين المقدمان من طرفي التفاوض: الدولة الإسلامية في مقابل الدولة العلمانية/ المدنية. ومع أن نموذج الدولة الواحدة "بنظامين قانونيين" (والذي هو بمثابة بروفة "لدولتين بنظامين") يمثل وضعا يقر الانفصال نظريا، لا ينفع معه صنع "الشربات من الفسيخ"، ولا ينتظر إلا الاستفتاء ليصير واقعا!، إلا أنه يمثل وضعا فرضه منطق المفاوضات. ومع ذلك، فإن اتفاقية السلام الشامل وفرت طريقين للتوافق حوله.
الطريق الأول: يتمثل في إتاحة الفرصة للفريقين المتفاوضين، الشريكين فيما بعد، وباقي القوى السياسية السودانية إلى إعادة التفكير خلال فترة انتقالية ممتدة حول كيفية المحافظة على وحدة السودان وتعزيزها في المستقبل. بمعنى آخر، توفر الترتيبات الانتقالية مساحة لتطوير وتعزيز رابطة سودانية جامعة قد تقود إلى (سودان موحد ومتحّول ديمقراطيا). وهكذا، فإن التحدي الحقيقي الذي يواجه كافة القوى السياسية والاجتماعية بكل أطيافها وفصائلها، خصوصاً في شمال البلاد، هو استخدام التحول الديمقراطي الذي أفرزته اتفاقية السلام، واستغلال ما وفرته من فرص للتفاعل والحوار، لمعالجة هذه القضية والتي فشلت المفاوضات "الثنائية" بين شريكي الاتفاقية، في الوصول إلى اتفاق نهائي بشأنها. فتجاوز هذا النظام القانوني المزدوج يظل مسؤولية وطنية وقومية جسيمة تقع، وبالدرجة الأولى، على عاتق كل القوى السياسية والاجتماعية السودانية. فإن كانت جميع هذه القوى حريصة على وحدة البلاد واستدامتها، فمن واجبها تحريك أجندة الوحدة ودفعها إلى الأمام، مما يجنب البلاد مخاطر التقسيم إلى دولتين، في أحسن الفروض، أو التمزق والانهيار الكامل، في أسوأ السيناريوهات. ولم لا؟ فقد سبق وأن حدث أكثر من اختراق في أمر المواطنة، من جهة، والدين والدولة، من جهة أخرى، بين الحركة الشعبية وقوى سياسية تستند على قواعد دينية منذ اتفاقية سلام السودان (الميرغني-قرنق) في 1988، ثم مقررات نيروبي للتجمع في 1993، وأخيرا مقررات أسمرا للتجمع في 1995. وللمفارقة، مع أن الجبهة الإسلامية القومية (لاحقا المؤتمر الوطني) هي التنظيم السياسي الوحيد الذي لم يشارك، أو حتى يبارك، في هذا الحوار، إلا أنه أيضا أحدث اختراقا في المفاوضات مع الحركة الشعبية، بغض النظر عن طبيعة تأثيره السلبي على فرص الوحدة، لقبوله أولا بإعلان مبادئ الإيقاد، ثم لا حقا بتوقيعه على بروتوكول ماشاكوس، التي تقوم علية الترتيبات التشريعية الراهنة.
ولكن، إن عزل المؤتمر نفسه من الحوار مع كافة القوى السياسية الأخرى، وفشل في تجاوز "فوبيا" الاتفاقات الثنائية، فالانتخابات هي الطريق الثاني الذي وفرته الاتفاقية لتجاوز عقبة النظامين التشريعيين في دولة واحدة. فإعادة صياغة القوانين، بل وإلغائها، عملية طويلة ومعقدة وليست بحدث عابر. وما تحقق في اتفاقية السلام الشامل، يمكن إخضاعه للتعديل والتطوير من خلال الانتخابات العامة، إذ تم الاتفاق على تأجيل النظر في مسألة العاصمة القومية (الخرطوم)، والبت فيها بواسطة البرلمان القومي المنتخب، وبالتالي ستجد القوى السياسية الراغبة في طرح أجندة القوانين المدنية فرصة أخرى لقيادة المعركة من داخل البرلمان. ولم لا، فالاتفاقية تبيح تغيير القوانين إن توفرت الأغلبية لقوى التغيير في الانتخابات القادمة. فالمادة 2.4.5 من اتفاقية السلام الشامل حول العاصمة القومية، حيث الشريعة الإسلامية وتطبيقها في العاصمة القومية تقرأ "دون المساس بصلاحية أي مؤسسة قومية في إصدار القوانين"، وحيث أن المؤسسة القومية الوحيدة المخول لها إصدار القوانين هي البرلمان القومي، فهذا يعني ضمنياً أن ذلك البرلمان يمكنه إصدار أي قانون، بما في ذلك القوانين المدنية. إن التوافق على تخطى النظام القانوني المزدوج يلقى بظلال كثيفة على خياري الوحدة والانفصال، من ناحية‘ وعلى خريطة واستراتيجيات التحالفات الانتخابية للقوى السياسية المختلفة، من ناحية أخرى.
ولعله من المفيد الانتقال بمثل هذا الحوار إلى رحاب الفكر بأن نفكر في تنظيم مؤتمر أو ندوة لمناقشة الموضوعات مصدر الخلاف في محاولة للإجابة على الأسئلة المطروحة حول قضية الدين ودوره في الدولة والمجتمع: هل قوانين الشريعة تقتصر على تطبيق العقوبات الحدية؟ وما هي القيمة المضافة للتركيز على قوانين العقوبات من ناحية تمكين الإسلام في حياة الناس؟ وهل تصلح هذه القوانين كمؤشر لمدى التدين بين المسلمين أو تجعلنا أكثر إسلاما من المسلمين في البلدان الإسلامية الأخرى؟ وهل ما نعنيه هو الفصل بين الدين والدولة أم الفصل بين الدين والسياسة؟ فهذان، في رأيي، مفهومان مختلفان ولهما تداعياتهما المختلفة على الحوار حول المواطنة ودولة المواطنة والهوية الوطنية، خاصة في البلدان التي تتميز بالتعددية الثقافية والدينية، كالسودان. ومن المفيد أيضا أن ندعو لهذا المؤتمر لفيف من المفكرين من أفريقيا، العالمين العربي والإسلامي، آسيا، وحتى من أوروبا وشمال أمريكا، وذلك بغرض استعراض التجارب وتبادل المعرفة، واستخلاص الدروس التي تعيننا على الوصول إلى توافق نحو بناء دولة المواطنة السودانية.
خامسا :هل هناك فرصة لمصالحة تاريخية.. ؟
إن ما يشهده الوضع السياسي الراهن من تجاذب واستقطاب متعدد الوجوه والاتجاهات يستجدى الشريكين أن يسعيا بجدية لاستحداث منهج وآليات جديدة، وفق مفهوم مشترك "للشراكة"، للتعامل مع بعضهما البعض، من جهة، وبينهما وبين القوى السياسية الأخرى، من جهة أخرى، وذلك بإشراكها في الحوار حول كافة القضايا الوطنية المتصلة بتنفيذ اتفاقية السلام الشامل. فالمؤتمر الوطني والحركة الشعبية ليس بشريكين في الحكم فحسب، بل هما شريكان في القيادة التاريخية للمرحلة الانتقالية ومسئولان عن تحقيق الهدفين المزدوجين لهذا الانتقال والمتمثلين في التحول الديمقراطي وتحقيق وحدة السودان على أسس جديدة.
لا شك أن الشريكين يدركان جيدا (وكذلك بقية القوى السياسية) أن قرار محكمة الجنايات الدولية بتوقيف السيد الرئيس يلقى بظلال كثيفة على الوضع السياسي المتفجر في البلاد، في سياق إقبالها على انتخابات عامة مثيرة للجدل، من ناحية الإيفاء بمستحقاتها الأساسية، ربما أهمها التنافس على رئاسة الجمهورية. بدوره، يطرح هذا المشهد تساؤلا مشروعا: هل الشريكان على استعداد للتوصل إلى مساومة تاريخية (ربما تساعدنا في تعزيز الترتيبات الدستورية القائمة نحو التحول الديمقراطي والوحدة) ليتم التوافق من خلالها على مرشح واحد للرئاسة وفقا للبرنامج الوطني التي ارتضته جميع القوى السياسية الأخرى، وتحت شعار "الوطن فوق الحزب"، وتسويق هذا المقترح، والحوار حوله مع هذه القوى بفهم أن الاتفاق على هذا الترتيب لا علاقة له بالتحالفات الانتخابية للشريكين، أو هذه القوى، والتي تتنافس على أساس البرامج الحزبية، للفوز بمقاعد الهيئة التشريعية؟
عزيزي د. غازي
أطلت وأسهبت علنا نصل لأرضية مشتركة تسمح بالحوار من أجل بقاء وطننا موحد ينتمي له ويفخر به جميع السودانيين!
ولك شكري وتقديري
د. الواثق كمير
kameir@yahoo.com
تونس-القاهرة
يوليو 2009