النبع الحالم الذى خرج منه التنين
29 December, 2009
د. عبد السلام نورالدين
A.N.E.D.Hamad@leeds.ac.uk
University of Leeds UK
: ملاحظات على نستالجيا
الاستاذ محمد محمد خير
لم هذا الحنين الجارف الى سنوات عقد الستين من القرن الماضى في السودان؟
يجيب عزيزنا محمد محمد خير "" من اقاصى الدنيا " - ان تلك هى البركه الحالمة التى تستشرف فيها الذاكرة عصرها الذهبى ( كل الناس اخوانا بكل ما يحفر عميقا هذا التعبير ، والغناء مستعذب لصدق دواعيه ولا تلمح مظهرا يشيء بعصبية الا في ميدان كرة القدم - وامطار الستينات كانت دقيقة الموعد يشد ازرها خريف صادق ، لم اسمع بكلمة مدخلات او مضاربة او مرابحة او فاتورة بترول ، لاشيء نشاز . اما لوارى الهوستن والسفنجات التى تستوردها شركة سودان ماركنتايل فقد كانت أعلى مراحل الثراء الاجتماعى، واستحال اللورى لمعشوق يتصل برؤية صاحبه على صعيد المفاخره والامانى كناقه طرفة بن العبد )
يبدو ان العزيز محمد محمد خير وليس استثناءا في هذه النوستالجيا - السودانية الاصيلة يصور عقد الستين من القرن الماضى نبعا حالما وعصرا ذهبيا تحج اليه الذاكرة كلما ثقل عليها عبء احمال الحاضر واندلسا ضائعا لم يحافظ عليه الستينيون كجيل فخلدوه بالمناحات والبكاء على قيعانة .و تظل تلك الساقية تدور بتنويعات مختلفة تعيد فيها انتاج انينها بانتظام رتيب:
الذكريات
يا حليل ايامنا
الا ليت الزمان يعود يوما.
وبحكى لك اياما عدن السلام ياجنة عدن
وليلتنا ليله ليلية ليلة كانت من جنان رضوان
وكانت لنا ايام فى قلبي ذكراها
مازلت اطراها ياليلنا عدنا او عادت الايام
وليلة الذكرى ، ايام البان جديد، ايام طقت ، ايام الوادى ، ايام حنتوب ، ايام الجامعة ، ايام رويال، ايام شناكة، ايام اتينية،ايام الاكربول،ايام ميز الهبوب، ايام القاهرة ، وايام لندن وتمضى ساقية الذكريات المرة تلك على منوال النملة في الحكاية التى ليس لها نهاية ، والتى تبدو وكأن الزمن قد توقف لديها ايضا فى مراوحتها فى ذات المكان الذى يشابة عقد الستين الذى اضحى العالم الوهمى والحقيقى لحبيبنا محمد محمد خير .
وسيظل السؤال شاخصا امام عزيزنا محمد محمد خير وكل الواقفين على رسوم الستين الدارسة .
هل كان عقد الستين عصرا ذهبيا بحق لسودان القرن الماضى ؟ الذى شهد العقد الاول منه بدايات السودان الحديث ؟
ولما كان العزيز محمد محمد خير يعنى بالشعر - بوجه خاص - فأن- البنا الكبير ، واحمد محمد صالح ، وعبدالله عبدالرحمن ، وعبد الرحمن شوقي، والعباسى،والتيجانى يوسف بشير،والهادى العمرابى، ومحمد عبدالوهاب القاضى، وميمان وخليل فرح وتوفيق صالح جبريل وكل فحول شعراء الحقيبة ومطربيها الاماجد ينتمون الى عقد الستين الذهبى ما دام قد تم تقديمهم تحت اضواء جديدة فى عقد الستين الذهبى على يد الاستاذ حسن نجيلة فى ملامح من المجتمع السودانى والاستاذ صلاح احمد محمد صالح فى برنامجة الذى كان زاهرا- حقيبة الفن و وكتابات محجوب عمر باشرى فى صحيفة الثورة واخبار رحمى محمد سليمان وانباء يحى عبد القادر وهكذا اضحى عقد الستين عصر استعادة النخبة السودانية الحالمة لابطالها الاسطوريين وتمثلهم رموزا خالدة لسودان لم يكن .
هل كان عقد الستين عصرا ذهبيا بحق لسودان القرن الماضى ؟ ام ان المسألة كلها لا تخرج من تلك الاحابيل التى تنسجها الذاكرة السودانية بشله حريرها الاسطورى هروبا من مازق قائم ومستقبل تخشى " النخبة الحالمة " ان تحدق فى تفاصيله التى يمكن ان تكون مرعبة لعقل من تقاليده ان يفكر برغباته حينما تستحكم عليه الحلقات " الشريرة "
ما هى مقدمات هذا العصر الذهبى الستينى وكيف تشكل اصلا ؟
لم يك أمام مجتمعات المدن السودانية{1958-1964م) من متنفس آخر يمكن ان يستوعب طاقتها بعد ان اضحت السياسة وكل ما يتعلق أو يدور بها حكرًا لنظام 17 نوفمبر فاتجهت الى الرياضة الى درجة الهوس وعلى وجه خاص كرة القدم – الى الحد الذى أطلق فيه النور التيجاني جادا وهازلا " بعربى جوبا" فى برنامجه عن الجنوب -على طلعت فريد وزير الرياضة وزير " بتاع لعب " فاطاح بة الوزير مؤلف الليالى "وفجورها" وغرق كثر من الافندية فى( مجالس الخمر الذليل وجثة الانثى واسعار البذاءة-محمد المكى) واشتعلت .محافل الاعراس والطرب واضحى "الكفر" "والوتر" مرقى للوجاهة وراجت نكتة عن البروفسر عبداللة الطيب الذى لم يتعرف على اسمة موظف استقبال احدى المحافل فقلب اسمة فاعتذر موظف الاستقبال وسمح لة بالدخول بحسبانة مغنيا معروفا انذئذ.
وسلكت اقدام شباب الشعراء والمثقف الى المنتديات الادبيةواللقاءات الفكرية المغلقة.
صحيح ان تلك الايام التى امتدت من الحادى والعشرين من اكتوبر 1964م وحتى الثامن عشر من فبراير 18-12- 1965م قد كانت مجيدة في حياة المجتمع المدنى السوداني الذى هب لاقتحام السماء بلغة المؤرخ والمفكر الذى تابع يوميات الحرب الاهلية في فرنسا 1870م ولكن تحالف الصادق المهدى - حسن الترابى واسماعيل الازهرى الذى اطاح بمشروع اكتوبر النهضوى في 18-2- 1965م لم يبقْ من ذلك المشروع سوى اسم لشهر .
ودارت الدوائر على صناع اكتوبر واحدا بعد الآخر طوال سنوات الستين التى كان من قدرها ان يكتب لها سؤ الخاتمه - بقلم الانقلاب العسكرى فى 25 مايو 1969
ومن طرائف " بؤرة عقد الستين التى تحج اليها الذاكرة كثيرا انها تسقط حركة الزمان ليتسنى لها ان تنسب قسرا الى الستين مالا يمت اليها بصلة كأغاني الحقيبة التى ازدهرت مع نمو شخصية الخرطوم وام درمان وبحرى والضواحي التى اتصلت بها واندمجت فيها - منذ مطلع القرن الماضى . و يأتى اسقاط الزمان او تثبيتة متوائما مع ذاكرة عقدالستين الاسطورية الذى يضحى فيه خليل فرح ومحمد احمد سرور والتيجاني يوسف بشير والهادى العمرابي واحمد عبدالرحيم حامد العمرى وابراهيم العبادى وعلى نور ومحمد عبدالرحمن شيبون ومحمد المهدى مجذوب وشاكر مرسال وعبدالله الطيب ومحمد المكى ابراهيم وعبدالرحيم ابو ذكرى ومحمد الحى وعلي عبدالقيوم وعبد اللة على ابراهيم ، ابناء دفعة واحدة اينعت وابدعت فى عقد الستين فرمتهم البلايا والرزيا بمقاتلها بعدئذ فتفرفوا او رحلوا .
واذا كانت الجملة الانفة الذكر جد مغرقة فى خلط اوراق الزمن ولا تمت الى الوقائع الحية بواشجة فان العزيز محمد محمد خير يقول بالحرف الواحد في عموده الممتع من اقاصى الدنيا عن عقد الستين ( كان الاغنياء الذين مكن لهم الثراء من الدخول فى السباق المؤسسى على اصابع اليد " علي دنقلا,ا ابو العلا ، عثمان صالح – ابو عاقله وحافظ البربرى تشاركهم راسماليات اغريقية يفيض انتاجها الغذائي على الالسن بالمذاق الخالد الجميل ودونك رغيف بابا كوستا وسندوتشات جورج مشرقى ودسم البان كافورى اما لوارى الهوستن والسفنجات التى تستوردها شركة سودان ماركنتايل فقد كانت اعلى مراحل الثراء الاجتماعي على مستوى الاحياء والمناطق ولملاكها وزن اقتصادي يثير الضغائن ويغذى الوجدان بالغناء " اللورى حلا بى " ويا اللورى تشيل منو غير بنات نوري تشيل منو " ).
ان الفارق الزمني الذى يفصل بين نشأة رأس المال السوداني منذ العقد الأول والثاني في القرن الماضى ( انظر قائمة اسماء قيادات الطوائف والطرق الصوفية, التجار ورجال الاعمال الذين وقعوا بيانا سيء الصيت تأييدا للادارة البريطانية في موقفها الرادع من حركة 1924م ) - والى تلك النشأة يعود ابو العلاء والبربري وعثمان صالح والرأسمالية اليونانية والارمنية واليوغسلاف والايطاليين والاخلاط الذين يعود تاريخ بعضهم الى ما قبل المهدية - انظر قصيدة التيجاني يوسف بشير – ثورة( قم بنا نملا البلاد حماسا) و ظهور علي دنقلا فى عقد الستين ( - ) لهو اطول وابعد من المسافة الزمنية التى تفصل بين اكبر شاعرين فى سودان القرن العشرين: التيجاني يوسف-1937-1909 – ومحمد المكى ابراهيم -1938))
وجريا مع تداعيات النستالجيا وتناغم لحون ارجوحتها واستسلاما للخدر الذى تبثه فى الذاكرة فتتداخل الازمنة والامكنة ، ينقلنا محمد محمد خير الى العصر الذهبي للشاحنات وابطالها الخرافيين من سائقى اللوارى ومساعديهم لتزداد ديكورات قصر عقد الستين بهاءا وتنوعا وامتاعا باغاني - بنات نورى تشيل منو وغير بنات نورى تشيل منو - واللورى حلّ بى -
يبدو ان محمد محمد خير لا يريد ان يفسد علينا المقيل تحت الشجرة الظليلة التى دعانا بكرمه الفياض ان نتجاذب اطراف الذكريات تحت اغصانها الوارفة لذلك لم يتطرق الى المعاصرين الحقيقيين لعلي دنقلا من رجال الاعمال الجدد الذين ازدهروا على ايام 17 نوفمبر - كفتح الرحمن البشير – وخليل عثمان وطلب ومصنع النسيج السوداني الامريكي وبدايات المال الخليجي في السودان ) وان نهاية عقد الستين كان بداية النهاية لرجال الاعمال المحترفين من ذوى الاخلاق والعمل الدائب الصبور كعثمان صالح وابو العلاء وعبد المنعم وبابا كوستا وكل الذين اتى ذكرهم فى قائمة الذاكرة الحالمة لمحمد محمد خير. حينما - انشبت 25 مايو اظفارها الوحشية فى عنق الراسمالية السودانية التقليدية فخنقتها بالتاميمات والمصادرات والمطارادات الامنية ليكون الطريق,, واسعا وسالكا للطفيليين القدامى والجدد من ارباب تراخيص التصدير والاستيراد الذين كانوا الى عهد قريب افندية وضباطا فى الجيش والادارة ,,وقوادين,, بدرجة اسكيل ب ,,وسفن,, فى الاعلاقات العامة-البرسونيل - ليجلسوا على مقاعد التجارة الخارجية والبنوك و المؤسسة العامة للزراعة الالية فحضنوا وفقسوا التنين – الانقاذ - !!! من يصدق ان العصر الذهبى الذى يتحدث عنه الاخ الحبيب محمد محمد خير قد كان ايضا ( بركة ليرقة وشرنقة التنين الذى افسد مذاق الحياة علية شخصيا) اذا كنت تريد ذلك فارجوا ان تقرأ اطروحة حسن الترابى لدرجة الدكتوراه - سلطة الازمة - او دولة الازمة - اغسطس 1964م والتى تحولت لديه فى التطبيق الى فقه الضرورة - : الضرورات تبيح المحظورات .
يبدو ان عقد الستين – باستثناء تلك الشهور الاربع من 21 اكتوبر 1964م الي 18 فبراير 1965م التى كانت امتدادا لتلك اللحظات المترعة بالاشراق القومى في السودان الحديث ( ايام حصار وسقوط الخرطوم 1885م - هبة اللواء الابيض 1924م - نشأة مؤتمر الخرجين 1938م - الوعى الوطني ونشأة الاحزاب السودانية 1946- الاستقلال 1956م )هو ايضا النبع المسموم الذى تشرب بة جسد التنين.
اذا كان لابد لهذه الاساطير المنمقة التى نكسو بها كعبة ما مضى من تاريخنا ان تؤؤل لمتحف تاريخ الخيال عند السودانيين وان ننظر بعقل شجاع الى عقد الستين فى ابعادة الوهمية والحقيقية فلابد من تخطى عملى لتلك النخبة وعقلها واساطيرها
للاخ الكاتب والشاعر محمد محمد خير ودى وتقديرى.
عبد السلام نورالدين
A.E.N.D.Hamad@leeds.ac.uk
قسم دراسات الشرق الاوسط
جامعة ليدس
المملكة المتحدة