اختفاء الطبقة الوسطى فى ظروف غامضة … بقلم: سيف الدين عبد العزيز ابراهيم

 


 

 

سيف الدين عبد العزيز ابراهيم – محلل اقتصادى بالولايات المتحدة

Aburob04@gmail.com

تتميز اقتصاديات الدول المتقدمة والدول التى وصلت مرحلة الايفاء بالضروريات لمواطنيها والآن فى طريقها للنمو والتطور بعوامل و صفات مشتركة تتمثل فى اقتصاد حر ومؤسسات مالية توفر القروض للشركات الكبرى والمستثمر الصغير على حد سواء وتبسيط اجراءات تسجيل الشركات والحرية فى الاستيراد والتصدير وغياب الظل الادارى الثقيل والشفافية فى النظام المالى عموما وان كانت تلك الشفافية تتخللها تجاوزات ولكن وجود الأنظمة القضائية المستقلة التى تحمى الحقوق عموما يحول دون التدهور والتجاوزات المزمنة. معظم تلك العوامل تتواجد فى معظم هذه الاقتصاديات العالمية  وان كانت تلك العوامل تعرف باسماء اخرى وتختلف قليلا بين دولة وأخرى ولكنها كلها تنصب فى خدمة القطاع التجارى والذى بدوره يدعم بقية الآليات خلال تلك المنظومة الاقتصادية. ولكن هناك ميزة واحدة لايمكن لاى اقتصاد أو دولة تسعى للنموء المتوازن لاقتصادها بالتخلى عنها أو النجاح بدونها وهى وجود طبقة وسطى فعالة وخلاقة قادرة على دفع عجلة الاقتصاد.

أهمية الطبقة الوسطى تنبعث من احتوائها على شريحة كبيرة من سكان معظم تلك الدول وهى بمثابة الحلقة الرابطة بين الطبقة العمالية و الفقراء والطبقة الغنية ولديها القوى الشرائية التى تمكن عجلة الاقتصاد من الدوران والنموء. هذه الطبقة عريضة المحتوى حيث يضم الجزء الأعلى بداخلها الطبيب والمحامى والمهندس والاقتصادى والاستاذ الجامعى ورجل الأعمال صاحب الشركة الصغيرة وأسفلها يحوى موظف الدولة الصغير والفنى والمعلم والشرطى كمثال.  بغض النظر عن مرتبة الفرد ضمن الطبقة الوسطى الا أن دورهم فى العملية الاقتصادية له نفس الأهمية لأن مايميزهم هو الاستقرار النسبى من الناحية المالية (وان كانت الهزة الاقتصادية الأخيرة التى اجتاحت العالم قد أخلت بذلك التوازن) لأن أفراد الطبقة الوسطى يدرون مستوى دخولهم ومواعيد حصولهم على مرتباتهم مما يسهل من التنبأ بالسلوك الاستهلاكى لهذه الطبقة وهذه ميزة تساعد على الوصول الى درجة عالية من الدقة فى مجال التنبأ الاقتصادى. هذه الطبقة أيضا تضم الغالبية العظمى من مستنيرين ومتعلمين تلك الدول مما يعنى أنهم دائمى الطموح ومجددين لمقدراتهم وتعليمهم والآليات التى يستخدمونها ويسعون لتجريب وشراء كل ماهو جديد وماهو مخترع وذلك بدواعى الاستمتاع بذلك الجديد لتحسين حياتهم او التعلم منه لتطوير الامكانيات والارتقاء بالذات. هذه الامثلة البسيطة والمختزلة للنشاط الاستهلاكى الهائل لهذه الطبقة هو التبصير بأهميتها فى دفع الحركة التجارية خلال ذلك الاقتصاد المعين وبنفس القدر تقلص هذه الطبقة من حيث العدد أو القوى الاقتصادية سيكون له تأثير سالب على اى اقتصاد مهما كانت قوته لأن تلك القوى الاقتصادية مستمدة من القوى الشرائية و الاستهلاكية لتلك الطبقة. ولدواعى تبسيط المعانى لأهمية هذه الطبقة أعنى بالشرائية عملية الشراء لضروريات الحياة وبعض اغراض الرفاهية كما يحدث فى أوروبا اما الاستهلاكية أعنى بها حركة الشراء الضرورية وغير الضرورية (يعنى الشراء الذى لايخلو من شناة الطبع) كما يحدث فى أمريكا واليابان على سبيل المثال.

 لست أهدف هنا الى دراسة سلوك المستهلك فى دول العالم المختلفة ولكن ما أنا بصدده هنا هو توضيح الأهمية القصوى لتلك الطبقة وضرورة النظر اليها بأعتبارها فى غاية الأهمية لاى اقتصاد وبدونه لايستقيم التوازن التنموى لاى دولة وخصوصا فى دولة تعانى من الكثير من العثرات كبلدنا السودان وهى فى أمس الحوجة لطبقة وسطى فاعلة وحية ولها القدرة على الأبداع  والمساحة التى تسمح لها بذلك. ما لايختلف عليه اثنان هو حقيقة اختفاء الطبقة الوسطى من السودان وذلك الاختفاء بلاشك فاقم من التعثر الاقتصادى من الناحية الشرائية والاستهلاكية وايضا عمق من فقدان العقول التى كانت تمثل العمود الفقرى لتلك الطبقة والتى هاجرت لاسباب عديدة ولكنها كلها تنصب فى فقدان المقومات الجاذبة لنجاح ونمو تلك الطبقة.

اذا نظرنا الى الاقتصاد السودانى نظرة تحليلية اى بمعنى الغوص فى مكوناته والتمعن فى آلياته منفصله عن بعضها قبل دمجها بغرض الفهم السليم لمواطن الداء  نلاحظ العلاقة المباشرة بين تقلص عدد الاعضاء المنضويين تحت لواء تلك المجموعة (الطبقة الوسطى) وتراجع وتدنى الاقتصاد. بالطبع هناك عوامل كثيرة وعديدة يمكن نسبتها الى ذلك التدهور وارجاع المسببات لها ولكن لغرض هذا المقال وهو التركيز على غياب الطبقة الوسطى فى السودان نجد ان انحسار الطبقة الوسطى لعب دورا كبيرا فى ذلك التراجع. دعنا نتحدث عن مثال آخر لتقريب الصورة وايضاحها لنستقرأ أهمية تنمية هذه الطبقة. كما نعلم أن قطاع صناعة السيارات الأمريكية يعانى من ركود حاد فى ظل الأزمة المالية الحاليه لتراجع القوى الشرائية للطبقة الوسطى الأمريكية والتى ظلت تعانى من التقلص بسبب فقدان عدد كبير من أفرادها لوظائفهم بدواعى خسائر الشركات مؤخرا ولكن مبيعات السيارات الأمريكية تشهد ازدهار حقيقى فى دولة الصين والسبب فى ذلك يعود الى النمو المتزايد للطبقة الوسطى الصينية والتى هى بمثابة الدينمو المحرك لاقتصاد دولة عملاقة وهو لازال فى مرحلة النمو. عندما اتجهت الصين الى تحرير الاقتصاد وكسر الحواجز الادارية البيروقراطية والتى كانت تقف كالعتروس أمام المستثمر والصانع الخلاق وفتحت الباب على مصراعية لكل قادر على العطاء وكما نعلم أن عدد سكان الصين يفوق البليون وبعملية حسابية بسيطة يمكننا استخلاص الحقيقة وهى اذا انضمت 20% من السكان الى الطبقة الوسطى فان ذلك الرقم يفوق عدد افراد الطبقة الوسطى الامريكية وهذا النمو يمكن أن يستمر الى فترة أطول اذا واصل الاقتصاد الصينى تصاعده. صحيح أن هناك أخطاء صاحبت ذلك النمو المضطرد منها غياب الرقابة على الجودة وعدم الالتفات الى صحة البيئة وغيرها ولكن الصين اضطرت الى الالتفات الى هذه المعضلات لأن اقبال المشترى غلى المنتجات الصينية تراجع فى نهاية التسعينات لضعف الجودة ولكنه عاد واحتل مكانه الطليعى بعد اجراء الاصلاحات التى أصرت عليها تلك الطبقة وذلك الاصرار لم يتم بالتظاهرات فى الشوارع وانما تم بالعزوف عن شراء كل ماهو دون مستوى الجودة المطلوبة. ماأردته بذلك المثال هو ربط صحة وعافية الاقتصاد والسوق الحى للمعروض بالقوى الشرائية للطبقة الوسطى. ماسقته بشأن نموء الطبقة الوسطى فى الصين ينطبق على نموء تلك الطبقة فى الهند أيضا وان كان ذلك بدرجة أقل من حيث سرعة النموء حيث نجحت الهند فى استيعاب الاستثمارات التى توفر مثل تلك الوظائف التى تصنع أفراد الطبقة الوسطى وان كان اقتصاد الهند أقل تنوعا وقوة عن الصين ولكن وجه الشبه هو تنمية تلك الشريحة الهامة.

نفس ذلك المعيار الذى أستخدمته  لتوضيح فوائد وجود تلك الطبقة يمكن أن يستخدم لقياس الأثر السلبى لغياب أو ضمور تلك الطبقة وفى السودان تتعدد الأمثلة للتراجع ولكن اذا أردنا  التحذير من الخطر فلننظر الى اقتصاد زيمبابوى (دون الغوص فى أسباب ومسببات تدهوره المتعددة) ولكن بمجرد أن وجدت تلك الطبقة الوسطى انها المستهدفة وأن مقومات بقائها واستمراريتها قد انتفت فما كان منها الى وان عجلت بالرحيل أو الاندثار لأفرادها الذين فقدوا عوامل نجاحهم التى أتاحت لهم فرصة الدخول لتلك الطبقة من البداية وبسقوط تلك الطبقة فقد اقتصاد زيمبابوى المقدرة على الحراك وتراجعت كل أطرافه حتى وصل مرحلو الانهيار الحالي الذى نشهده لدولة كان لها من المقومات مايدعو للتفائل بمستقبل زاهر لها.

 هذا المثال يوضح جليا الجانب الأخطر والذى لاتحمد عقباه مالم نلتفت الى بناء تلك الطبقة والتى لاتبنى بالقرارات أو تكديس كل المشاريع الحيوية والصناعات التى تخلق هذه الطبقة فى منطقة جغرافية واحدة وهى الخرطوم وما حولها حيث أن تركيز الاستثمار فى الخرطوم اعتصر الاقاليم وقلص تلك الطبقة الى درجة الزوال.  اعادة النظر فى التخطيط الاقتصادى ليست من ناحية جدواه فحسب ولكن من حيث الموقع المناسب للمشروع أو الاستثمار المناسب. والمراقب العادى يمكن ان يتوصل الى أن الأسباب والمقومات التى أتت بمشاريع عدة الى منطقة لخرطوم وماحولها متوفرة أساسا فى كثير من مدن السودان والتى كان يمكن أن يكون مردودها أعلى وأقيم من الناحية الاستراتيجية والتنموية وعدلة التوزيع التنموى تدعو الى ذلك. فلننظر الى عدم التوازن بمزيد من الموضوعية بعيدا عن العواطف والدوافع السياسية لأن المستفيد فى النهاية هو المواطن البسيط وبالتالى التطوير والنجاح للوطن وهو المبتغى. 

 

آراء