شُجيراتُ السَّلامِ النَّابتةُ على أرضٍ عَانَقَ ثَقافيُّها اجتماعيَّها -12-

 


 

 

(12)

د. حسن محمد دوكه

طوكيو - اليابان

dokahassan@yahoo.com

 

( إنَّها شُجيراتٌ محايدةُ الوريقاتِ " الطّرق " ، متجذِّرٌ فيها نبضُ البوحِ ،

أو خِنجرُ الأسفلتِ " عولميُّ المنبتِ " على صدرِ الرَّواكيبِ " الغلط " ! ).

 

" على بابك، نهارات الصبر واقفات ..

بداية الدنيا، هِن واقفات ..

وكم ولهان ، وكم صابر ...

قطع شامة هواك في القلب ،

 إلاَّ هواك ، نَبَت تاني ، على بابك ، َنَبت تاني ... "

 ( شعر: الكتيابي، غناء : مصطفى سيد أحمد )

قلت: دخلنا الرنك " البريق " ،أواسط سبعينات القرن المتنحي طالبين للعلم ، نبتغي نيل المعارف من مظانها المتمثلة في المدرسة الوسطى ( المتوسطة لاحقاً ) ، ثم الثانوية العليا. كانت وسيلة تحركنا إلى الرنك ودخولنا لُبَّها ( أوان الخريف ) هي البنطون  ( المعدية ) التي وافق مديروها ( مجلس بلدية الرنك ) على تسييرها يومين في الأسبوع ( الإثنين والخميس ) لتقطع المسافة النهرية مبحرةً جنوباً بين الرنك و وددكونه في ساعتين ونصف الساعة. قبطان المعدية هو العم خلف الله ، ومهندسها هو أحمد " بنطون " كما يحلو لروادها تسميته، وكلاهما ( أحمد وخلف الله ) من أبناء دنقلا ، حيث كان النقل النهري - آنذاك -  مسيَّراً كلِّياً بواسطة أهلنا الدناقلة. فقد كانت البواخر النيلية العاملة بين ميناء كوستي النهري ومينائي ملكال وجوبا وما بينهما من موانئ نهريةٍ نيلية ( من الشمال تجاه الجنوب : كوستي، الجبلين، القيقر، الرنك، وددكونه، جلهاك، كاكا التجارية، ملوط، كدوك، فملكال ) ، عاجةً بأهلنا الدناقلة، إبتداءً من إداراتها، مروراً بقباطينها، وعمالها الفنيين المهرة، والعاملين على شحن الأخشاب ذات الجذور الطلحية والسنطية المزودة للبواخر بالطاقة المحترقة، وانتهاءً بـــ " المرماطونات " معدي الوجبات المناسبة للإبحار نهرياً في مياه النيل الأبيض ( القراصة، ودمعة الدجاج، وشرموط الغزال، مع تحلية و " قرقشات " التمر البركاوي والقنديلة ... إلخ ) . وكنا نستمتع بسماع عبارةٍ صارت محببةً إلى أنفسنا وقريبةً منها ، ألا وهي صيحات بحَّارة البواخر والمعدية المضمَّخة بلكنةٍ نوبية المنشئ، دنقلاوية الأسلوب ، قُبيل بداية إبحار الباخرة ( هرَّب السقاله يا شيه ). والسقالة ، هي السُّلَّم الخشبي الذي يوضع على حافة رصيف الميناء وصندل الباخرة لتسهيل نزول المسافرين وصعودهم. أما كلمة " هَرِّب " فمعناها " اِسحب " ، وكلمة " يا شيه " فيها تحوير صوتي للخاء التي صارت هاءَ ( يا شيخ ) . وعليه تكون العبارة على النحو التالي ( اِسحب السُّلَمِ يا شيخ ) ، وشيخ هذه تطلق على كل رجل يراد مخاطبته للقيام بعمل معين، وربما دخلت علينا من بلاد الحجاز ، وأهلنا الدناقلة من أوائل مرتادي الآفاق العولمية إبحاراً، وطيراناً، وهجرةً في بلاد الله الواسعة.

كانت المعدية ( البنطون ) تأتي إلى أهل وددكونه، والمامور، والبشاره، بالبضائع والذرة . وتحمل إلى أهل الرنك نعاج ، وخراف، وثيران قبيلة السِّليم ، إضافةً إلى السمك المجفف ( الكجيك ) الذي كان يصنعه أهلنا الشلك ، مع بعض خيرات النيل السمكية من ( بلبوط، وخشم بنات، وخادم ميري ، وعجل النهر، وأحياناً جلود القرنتي التي تصنع منها أسواط العنج، وبعض من جلود النمور، ودهن النعام ) . 

ونواصل

 

آراء