ملامح الفكر السياسي للشيخ محمد الغزالي 6-8
1 February, 2010
نظرات في فكر الرواد
محمد وقيع الله
( 6 من 8)
(إهداء إلى فضيلة أستاذنا البروفسور عمر أحمد العوض .. مع الإعزاز)
خضع مصطلح (القومية) لتحليل وتقويم رصينين من الشيخ الغزالي. والقومية – كما يقول هانز كوهين- حالة عقلية تجعل ولاء صاحبها متصلاً بالدرجة الأولى بالشعب والأرض وبالتقاليد المحلية والسلطة الزمنية التي تحمي كل ذلك. وبهذا الاعتبار فالمبدأ القومي مبدأ دنيوي لا يتعدى الارتباط بالأرض، وهو بالتالي – كما يقول زبيغنيو بريزنسكي- " لا يتسع لتوجيه الفرد نحو اللانهاية، ولكن [ يستخدم ] لتنشيط الجماهير عموماً في سبيل أهداف قريبة مباشرة ".
فهل يمكن تكييف هذا المبدأ المحدود الأثر وفقاً للتعاليم الدينية التي تربط ما بين السعي الدنيوي والأخروي معاً، بل تجعل من السعي الدنيوي سبيلاً على السعي الأخروي؟!
تسرُّب الفكر القومي إلى العالم الإسلامي:
ظل هذا السؤال مطروحاً لعقود متطاولة في الفكر العربي والإسلامي الحديث؛ وعلى الرغم من أن الفكرة القومية بمعناها المتقدم فكرة أوربية في الصميم، إلا أنها استطاعت مع غيرها من الأفكار الغربية أن تتسرب وتتمكن في الواقع الفكري في العالم العربي، حتى أصبحت بمنزلة الندّ والمنافس للرابطة الإسلامية، التي جمعت العرب بعضهم مع بعض، ومع مجاميع الشعوب الإسلامية خارج الرقعة العربية.
بدأت هذه الفكرة تتسرب إلى الضمير العربي غداة الحرب العالمية الأولى، التي أتت على الخلافة العثمانية التي مثلت آخر رابطة فكرية وسياسية (واهية) تجمع بين المسلمين. وكان معظمُ نَقلةِ الفكر القومي (الرواد) من أبناء الأقليات النصرانية، وظلت جهودهم نخبوية الطابع، حتى جاءت اتفاقية سايكس- بيكو لتجذّر واقع التجزئة القومية في العالم العربي، ولتعمق الشعور القومي المحلي لأبناء كل إقليم في الدولة القومية الحديثة التي نشأت فيه.
وفي هذه الغضون كانت أصوات المصلحين والمفكرين الإسلاميين تحاول أن تعالج ذلك الخَلَل الجَلَل الذي حلّ بالجسم الإسلامي، وهكذا تصاعد صوت الأفغاني لتأسيس الجامعتين الإسلامية والعربية معاً.
وكان دعم الإمام محمد عبده الواضح للاتجاه العروبي الذي يمكن أن يعمل في إطار إسلامي أشمل، ولا يتناقض معه، وهو الاتجاه الذي برز فيما بعد في صيغة الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم مصطفى كامل، ثم جاء الإمام محمد رشيد رضا والإمام محبُّ الدين الخطيب – وكلاهما من ذوي السابقة في النضال القومي- ليساويا بين النضال من أجل الأمجاد العربية والإسلامية معاً، وليعتمدا المنظور الإسلامي في رؤيتهما السياسية بشكل عام.
أسلمة الإطار القومي:
ولكن المناخ الفكري كان في صالح التغريبيين الذين تولوا أزمَّة السلطة، أو استنصروا بها عقب استقلال كثير من أقطار كثير من أقطار العالم العربي. هذا وربما تأكد الانحراف الفكري في وقت سابق مستنداً إلى ثقل شخصية عبد الرحمن الكواكبي، الذي دعا إلى إقامة دولة عربية خالصة، فمهَّد الطريق بذلك لكوكبة التغريبيين الخلَّص الذين استبعدوا أي جامع بين القومية والدين من أمثال نجيب العازوري، وساطع الحصري، وميشيل عفلق، وقسطنطين زريق، وشبلي العيسمي، وجوج حبش، وغيرهم من منظري القومية الذين تألقوا في عصر الشيخ الغزالي.
وهكذا فقد كان من قدر الغزالي أن يواجه ذلك التيار المستفحل، الذي استذرى – في مصر وما جاورها - بالمظلة الناصرية التي انتحلت في الستينيات فكرة القومية العربية، وتقمَّصتها بشكل حاد، وكادت تجعل منها عقيدة الدولة الرسمية.
وجاء عديد من شيوخ الأزهر ومن قادة الفكر الماركسي، على بُعْدِ ما بين منطلقيْ الفريقين، لتقديم حيثيات القبول والدعم لما سمي بالموقف القومي والالتزام القومي، وغير ذلك من مطالب السلطة الناصرية في ذلك الحين.
محاولات بعض الأزهريين والماركسيين:
وكانت معظم كتابات الأزهريين التي حاولت التوفيق بين القومية والإسلامية قد حاولت تطويع الإسلام وتتبيعه للفكر القومي، حتى أن إحدى افتتاحيات مجلة الأزهر – وقد كان كتبها الأستاذ الأديب أحمد حسن الزيات - جعلت من جمال عبد الناصر بطلاً أعظم من النبي r، وأما الماركسيون فقد حاولوا أن يسيروا في ركاب التيار، وكان معذرتهم إلى أنفسهم أن الارتباط القومي يمكن، في بعض الحالات، ألا يتناقض مع التركيب الطبقي ولا يخل به، ذلك التركيب الذي يمثل وحدة التحليل المعتمدة في الفكر الماركسي الكلاسيكي.
أما الشيخ الغزالي فقد أنشأ فصولاً عديدة أوضح فيها رأيه مفصلاً عبر مناقشته لتلك الأطروحات، كما أفرد كتاباً كاملاً للموضوع بعنوان (حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي)، كان في الأصل محاضرات ألقاها على طلاب كلية الشريعة بجامعة الأزهر، إبان الحقبة الناصرية، حيث كُلّف بتدريس موضوع القومية العربية.
وقد كان الشيخ محمد المدني، عميد الكلية حينذاك، من الحصافة بمكان، إذ لم يشأ أن يجادل في تسمية المقرر، طالما ائتمن على تدريسه الشيخ الغزالي الذي كان مرجواً عنده أن يعطي للمقرر المحتوى الإسلامي. وقد تمكن الغزالي فعلاً من أن يمرِّر أفكاره الإسلامية النقدية في موضوع القومية، وأن يعطي تصوره الخاص للموضوع.
وفي هذا المنحى فقد ابتدر الغزالي مناقشته بتحليل أشد التصورات القومية تطرفاً واستبعاداً للإسلام، وهي التصورات العرقية واللغوية لساطع الحصري الذي استجلب نظرية القومية الألمانية القائمة على أساس العنصر واللسان، وميشيل عفلق الذي استبدل برسالة الإسلام، رسالةَ العرب الخالدة التي سئل عنها، فقال إنها: " تقوم على فهمهم الصحيح لأنفسهم وإدراكهم الجريء لقضاياهم وتحررهم بقواهم الخاصة من الاحتلال الأجنبي"؛ وعبد الرحمن البزاز الذي تصدى لخطر مزج القومية بالدين، والماركسي لطفي الخولي الذي كان عنده ما يضيفه إلى موضوع القومية وعلاقتها بالدين قائلاً: " هناك اتجاه خاطئ وشائع، للأسف، يسجن الثقافة العربية، إلا أنه ليس إلا عنصراً واحداً وسمة مميزة ونقطة رئيسية من نقط انطلاق الثقافة العربية إلى الأعماق العربية من ناحية، وإلى الآفاق الإنسانية من ناحية أخرى"؛ هذا هو أقصى ما سمح به لطفي الخولي للإسلام لأن يتحرك ويؤدي رسالته، التي ذكر الله تعالى أنها للعالمين كافة من الإنس والجن!!
الأساس اللغوي والثقافي للعروبة:
وفي مواجهة هذا الفهم الذي يحجِّم الإسلام ويضعه مجردَ عنصر من عناصر العروبة، جاء الشيخ الغزالي ليقول بالعكس، ولينقض الأساس العرقي والعنصري للعروبة، معتمداً أساسها اللغوي والثقافي، بل وليؤكد أن العروبة تظل قومية مفتوحة لأن " الاستعراب ركن أصيل في دعم كيانها وإمدادها بأسباب البقاء والنماء، ونحن نعلم أن صاحب الرسالة العظمى r من العرب المستعربة، وليس من العرب العارية، من أجل ذلك لا يمكن جعل العروبة قومية خاصة؛ إن الإسلام جعل منها دائرة عالمية فسيحة الأرجاء، وسعت شتى الدماء والألوان، وانضوى تحت لوائها سيل موَّار من الممنين الذين تركوا بني جلدتهم، وآثروا هذه الجنسية الجديدة، وأسدوا إليها من الخدمات العلمية والأدبية والسياسية والعسكرية، ما يعجز عنه قوم ترجع أرومتهم إلى عاد وثمود، أو عدنان وقحطان ".
وبهذا المفهوم فإن العروبة تظل رديف الإسلام، تنهض بنهضته وتذوي بذبول حضارته. وقد كانت الأندلس عربية لأنها كانت مسلمة، فلما طرد الإسلام منها لحقته العروبة!
وإذا كان الشيخ الغزالي يمتدح العرب وصفاتهم، ويقدر عالياً ويثمِّن تاريخهم في حمل الإسلام ونصر رسالته، إلا أنه لا يفوته أن يقرر بحسم قاطع : "أن في العالم الآن عشرات القوميات، وهذه القوميات لا تعدو أن تكون أغصاناً في شجرة الإنسانية الباسقة، يغذوها جذر واحد، وتنتشر فيها حياة مشتركة، وما يمتاز غصن على آخر إلا بما يحمله من ورق وثمر، أو ما يقدمه من ظل وجنىً... والعرب إذا نسبوا إلى قوميتهم لا يزيدون ولا ينقصون عن سواهم من الأمم، ولكن الميزة التي ترفع قدرهم هي ما انفردوا بتقديمه للحياة والأحياء من الإسلام وخيراته... هذه الرسالة التي حملها العرب أفاءت عليهم من الأمجاد ما لا يحصيه عدد".
العروبة ليست دينا:
فالعروبة في ذاتها ليست ديناً، ولا رسالةَ لها سوى رسالة الإسلام. وفي دحض دعاوي البزاز وعفلق وقبيلهما من القائلين بأن للعروبة حضارتها الخاصة، وأن الإسلام ما كان سوى طور من أطوار الحضارة العربية الراقية أصلاً قبل ظهور الإسلام، يتساءل الغزالي ساخراً: " كيف تكون الجزيرة العربية الأم صِفراً من الحضارات القديمة ويكون النازحون عنها في العصور الخالية ابتغاء الرزق رسل حضارة؟ ".
إن هؤلاء ما خرجوا إلا ابتغاء الرزق فقط، ولم يتركوا أثراً حضارياً قط، وما كان لفاقد الشيء أن يعطيه، وإنما أعطى الأثر الحضاري الحق أولئك الذين خرجوا من جزيرة العرب يبتغون ما عند الله، وينشرون نور الإسلام ودعوته التي أرست مبادئ المساواة، وأهدرت فوارق الجنس، وميزت بين الخلق بمدى قربهم أو بعدهم عن الله تعالى.
إن تصور الشيخ الغزالي للعروبة قد أعطاها مقومين اثنين لا غير، هما: وحدة العقيدة، ثم وحدة اللغة؛ ولا ضير بعد ذلك أن تتعدد الأعراق، أو تتباين الأقاليم. فالعروبة بهذا الاعتبار مفهوم ثقافي مرتبط من حيث الأصل بالإسلام، ومتوافق معه، ولا جناح على المسلم أن يكون قومياً بهذا المفهوم.
موازنة بتصورات قطب وكشك للقومية:
هذا التصور المعتدل الذي قدمه الشيخ الغزالي للقومية، قد تعذر توفيقه مع الرياح الهندية التي حملت فكر المودودي إلى سيد قطب الذي أخذ يؤصل، في المرحلة نفسها تقريباً، للقطيعة التامة بين الفكر القومي والفكر الإسلامي.
وانظر إليه وهو في سجنه العتيد يسطر في الظلال عباراته القوية القائلة: " لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق، العربي، والفارسي، والشامي، والمصري، والمغربي، والتركي، والصيني، والهندي، والروماني، والإغريقي، والأندونيسي، والإفريقي... إلى آخر الأقوام والأجناس. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية... ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما (عربية)، وإنما كانت دائماً (إسلامية)، ولم تكن يوماً ما (قومية) وإنما كانت دائماً عقيدية".
وهكذا فقد استحال في ظل هذا الفكر المُفاصِل أن يتم التوفيق بأي شكل من الأشكال ما بين الإسلام والفكر القومي.
وإذا شئنا أن نعقد الموازنة من طرف آخر بين آراء الشيخ الغزالي وآراء منظر آخر في الموضوع نفسه، فإن آراء الأستاذ محمد جلال كشك تصلح للموازنة بالتأكيد.
لقد كان جلال كشك في الفترة ذاتها [عام1964م على التحديد] قد بدأ كتاباته الإسلامية بعد أن انخلع عن الفكر الماركسي. ولم تكن رؤيته الإسلامية قد صَفت بعدُ، إذ كانت لا تزال مختلطة بكثير من الغبش الفكري من سابق تجربته، وفي خلال انتقالاته الفكرية الحادة فإنه يسجل لنا هذين الموقفين المتباينين من مفهوم القومية.
الموقف الأول يمكن وصفه بالاعتدال التام، بل ربما أمكن وصفه بأنه كان أكثر اعتدالاً ودقة وعمقاً من موقف الشيخ الغزالي من القومية، وهو الموقف الذي رفض به محمد جلال كشك كل الاتجاهات التي رمت إلى استبعاد الدين الإسلامي جوهراً للفكرة القومية العربية، داعياً إلى القول بأن الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية يشكلان من الناحية الواقعية الثقافة التي عاش ويعيش عليها غير المسلمين من العرب [أنا نصراني ديناً مسلم وطناً، بتعبير مكرم عبيد]. وهذا الموقف هو الذي يستجلي أدوار التاريخ، ليؤكد أن الوحدة العربية لم تتحقق إلا في إطار الحضارة الإسلامية: " فلم يحدث أن اتَّحدت مصر والعراق والجزائر إلا في ظل الخلافة الإسلامية: أموية كانت أو عباسية أو عثمانية... ولكنها لم تتحد قط في ظل دولة عربية، ولا يبدو حالياً بصيص من أمل في قيام دولة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج".
هذا الموقف القومي المعتدل، سرعان ما تخلّى عنه صاحبه، وتجاوزه إلى مفهوم الأخوة الإسلامية الجامعة التي تعلو على المفاهيم القومية المحدودة، التي هي اضطرار يؤدي إلى تقسيم الناس بسبب العنصر واللون، وذلك: " يعني عزل قطاع من الإنسانية خلف سور ليس من صنع الإنسان، ولا يملك الإنسان أن يهدمه أو يقيمه بإرادته الحرة إذ لا سبيل إلى تغيير لون الجلد، وتقسيم الناس بحواجز القوميات يعني فرض قدرية عليهم لا يمكن تخطيها بسبب من حادثة مولدهم عند خط الطول أو العرض المعين أو بسبب لغة أمهاتهم".
هذا الموقف الأخير الذي تخلى عن مفهوم القومية لصالح الإسلام – كما تصور صاحبه- لم يكن موقفاً موفَّقاً بالتأكيد، ولكن ربما كان الدافع إليه هو تزايد إحساس صاحبه، في أواخر سنوات حياته، رضي الله عنه، بخطورة قضايا مفهوم (الإسلام الحضاري)، وضرورة حماية المقومات الثقافية والمادية على امتداد الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي، وهو الإحساس الذي دفع بجلال كشك إلى ابتدار التنظير لقضايا المواجهة الإسلامية النصرانية التي سبق بها مقالة صمويل هننتجتون في صراع الحضارات بأكثر من عقد من الزمان.
لم يكن موقف محمد جلال كشك الرافض للقومية موقفاً موفّقاً، لأن التوفيق بين المبدأين الإسلامي والقومي ظل دائماً في حيز الإمكان، ومن العجب فإنه كان أحد الموقِّفين الموفَّقين بين المبدأين الإسلامي والقومي فيما مضى.
أما موقف الشيخ الغزالي فيبقى هو الموقف الأمثل، لأنه هو الذي أوفى العروبة حقها، ثم استوعبها في إطار الدين. وكما لاحظ البروفسور ليونارد بايندر بعد أن أجرى في كتابه
(The Ideological Revolution in the Middle East)
موازنة بين تصور كل من الغزالي وعفلق للقومية، فإن اتجاه الغزالي (لأسلمة) القومية كان ذا أثر بعيد في الفكر السياسي العربي اللاحق، إذ إنه أدى إلى جرِّ سدنة العلمانية إلى محيط الإسلام، وليس العكس.
وبعبارة بايندر: " فإن عملية أسلمة القومية قد أخذت تمضي قدماً، ومن الممكن أن ننظر يوماً فنجد أن الدولة القومية قد توافقت تماماً مع مبادئ الإسلام "، وقد كان ذلك أخشى ما يخشاه بايندر من عواقب مسعى أمثال الشيخ الغزالي في تشذيب المبادئ القومية وتهذيبها لتتوافق مع الإسلام.