الأفكار الميتة والأفكار المميتة: الشورى في الواقع الإسلامي … بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 

1-4

 

إن الذين يحملون وزر الاستبداد للحكومات وحدها لا شك مخطئون.. وهذا خطأ متولد من العجلة وقصر النظر، لأن الاستبداد ينتج من تخلف المجتمع ككل، ورسوبه عميقاً في قاع التاريخ، وفقدانه لإرادة ممارسة الشورى، ذلك كما استخف فرعون قومه فأطاعوه، فالوزر هنا هو وزر القوم قبل أن يكون وزر فرعون كما أشار القرآن:   فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين   (الزخرف:54).. وتحرر مجتمع ما من سـلطة الاستبداد، أو منح حاكم مستبد لشعبه حق الشورى، لا يعني نجاح ذلك الشعب في ممارسة الشورى إذا لم تكن فضيلة الشورى من طبع ذلك المجتمع ومزيته.

ولنشر روح الشورى في نسيج المجتمع العام لا يكفي إعداد دستور يتضمن المبادئ الأساسية الأولية التي تتبنى المفاهيم الشورية، ولا يكفي الاستشهاد لتلك المفاهيم بالنصوص القرآنية والسنية، وإنما يتعين لإنجاز تلك المهمة الصعبة تربية الشعب كله على تلك المعاني، وغرس توجيهات تلك النصوص الكريمة، وبعث روحها في ضمير الفرد المسلم، حتى يدرك قيمة الشورى، ويتصرف شورياً في مجالات سلوكه جميعاً، وبالتالي يتعزَّز وجود الثقافة السياسية الشورية في قاعدة المجتمع المسلم، وتصبح تلك الثقافة أساساً تقوم عليه أركان النظام السياسي الإسلامي الواقعي. فالبنية السياسية Political Structure تقوم على أساس من الثقافة السياسية Political Culture للمجتمع، ولا تنهض على محض الأماني والأوهام. والآن فماذا نقصد بالثقافة السياسية؟!

مكونات الثقافة السياسية:

 في سبيل تعريف مصطلح «الثقافة السياسية» لا بد أن نعرف مصطلح «الثقافة» أولاً. فالثقافة رمز لنسق من العقائد والمثل وأنماط السلوك، التي يتشرَّبها أفراد المجتمع ويَصدرون عنها بشكل عفوي في حياتهم العامة. وهي ليست من نوع المعارف والمعـلومات التي تكتسب في وقت وجيز، وإنما هي رصيد ضخم يتنامى ويتراكم على المدى الطويل، ويتناقله الناس من جيل إلى جيل عبر التربية والتنشئة الاجتماعية الدؤوبة القاصدة.

وبألفاظ أوضح، فالثقافة هي شبكة الصلات الاجتماعية التي يتحرك من خلالها الإنسان، ويتصرف بوحي من إشاراتها وتوجيهاتها. وبفقدان الإنسان لوسطه الثقافي الذي يعيش فيه ويتحرك بوحيه يغدو مرتبك الفكر، مفكك العُرى، مشلول الإرادة، ويبدو- كما يقول مالك بن نبي –شبيهاً بـ: ‏«‏الفرد الذي تبقى على الحياة بعد نوع بشري منقرض «أو كمثل» حيوان الماموث الأخير المتبقي من العصر الجليدي الأول تائهاً بين البراري المتجمدة وغير الرحيمة التي لا يعثر فيها على قوته" . وهكذا فإن الإنسان لا يستطيع أن يحيا حياة مستقرة على نسق مطرد، بدون أن يتبع ثقافة مجتمعه، ويصدر عنها.

هذا عن الثقافة العامة للمجتمع، أما ثقافة المجتمع السياسية فحسب التعريفات التي قدمها كبار علماء الاجتماع والعلوم السياسة (من أمثال تالكوت بارسونز، وإدوارد شيلز، وجبرائيل الموند، وبننغهام باول)، فإنها تتكون من ثلاثة جوانب مهمة هي:

أولاً: الجانب ‏«‏المعرفي‏»‏ الذي يشمل ما يعرفه الناس في عامتهم عن النظام السياسي السائد في بلادهم، وما يعرفونه عن أشخاص الحكام والمشاكل السياسية التي تواجه الأمة ككل.

وثانياً: الجانب «العاطفي»، وهو يشمل عواطف الناس تجاه النظام السياسي، إن كانت حياداً أو تأييدًا أو رفضاً أو معارضةً، وهذه العواطف في عمومها تُسهم في تحديد طريقة تعـامل كل شعب مع  مطالب نظامه السياسي، من حيث الاستجابة أو التجاهل أو التنفيذ أو الرفض أو التمرد.

وثالثاً: الجانب ‏«‏التقويمي‏»‏ حيث يُصدر الناس وصفاً عاماً على نظامهم السياسي، على أنه ديمقراطي أو استبدادي، أو أنه يخدم الصالح العام أم لا.

هذه الجوانب الثلاثة لابد أن تأتي متكاملة. فلكي يكون للشعب إحساس عام تجاه النظام، لا بد أن يكون مُلماً بمكوناته وبرامجه وتوجهاته، وأن يتعامل معه على نحو ما، وأن يتمكن من تقويمه في مجمله، من حيث سلبياته وإيجابياته.

ونغضُّ النظر عن بعض أوجه القصور في تعريف مصطلح الثقافة السياسية على هذا النحو، حيث إن جميع التعريفات التي قـدمت لهذا المصطلح تبدو قاصرة كذلك ولا مجال لمناقشتها ملياً هنا. وننتقل من ذلك لنفترض أن السلوك السياسي للأمة ‏«‏حكاماً ومحكومين‏»‏ ينبثق من التقاليد الثقافـية السياسـية الذاتية للأمـة. وفي ذلك ما يفسر لنا قضايا من مثل: لماذا اختار الشعب البريطـاني النظـام الديمقراطي البرلماني ذا الواجهة الملكية، ولماذا اختار الشعب الأمريكي النظام الديمقراطي الرئاسي ذا الفصل الحاد بين السلطات، ولماذا  اختار الشعب الفرنسي نظاماً وسطاً بين هذين النظامـين ؟ ولماذا نجحت هذه الأنظمة في تلك البيئات  الثقافية نجاحاً بيناً ؟! ولماذا تفشل دائماً عندما تُستورد  أو تُستزرع في بيئات ثقافية سياسية مخالفة؟!

و نجد في دلالة الأثر الشريف القـائل: ‏«‏كما تكونوا كذلك يؤمر عليكم‏» ما يبين أثر الثقافة السياسية على النظام السياسي الحاكم. فنظام الحكم هو صورة منتزعة من حياة الناس العامة. ومن قبل أن يتصدى علماء الاجتماع والسياسة المحدثون ممن أوردنا ذكرهم سالفاً لتفسير السلوك السياسي لبعض الشعوب بناء على نوعية خصائصها النفسية والثقافية، كان الفقيه السياسي الإسلامي أبو الحسن الماوردي يتحدث في هذا المعنى فيقول:« ‏ومما يجب أن يكون معلوماً أن زينة الملك بصلاح الرعية، والرعية كلما كانت أغنى وأسرى وأجلَّ حالاً في دين ودنيا؛ ومملكته كلها كانت أعمر وأوسع كان الملك أعظم سلطاناً وأجل شأناً، وكلما كانت أوضع حالاً وأخسَّ حالاً كان الملِك أخسّ مملكة وأنزر دخلاً وأقل فخراً» . وهذا هو عين السداد في النظر إلى المكوِّن الأهم في التركيبة السياسية، وهو مكوِّن الشعب وثقافته الذاتية. ولا يمكن لحاكم  أن يصلح أوضاع الرعية ما لم تسهم هي بدورها في ذلك من ناحية استعدادها لقبول الإصلاح على أقل تقدير، ثم مشاركتها في تنفيذ برامجه: «لأن الأمر بالشورى ينفذُ نفاذَه حين يوجد معه صاحب الحق الذي يطالب به من ينساه ويرد إليه من يحيد عنه» كما يقول العقاد. فالأمة - قبل حاكميها - هي التي تخُرج مبدأ الشورى من حيز المبدأ إلى حيز الممارسة.

وقد انتبه العلامة الإمام ابن خلدون إلى هـذا الجانب الثقافي في حياة المجتمع، وإن كان قد نعته باسم آخر فدعاه بوازع الدين في خُلق  الأمـة وأسلوب تعاملها مع حكامها، واستنبط ذلك من مثل المرويَّة التالية: «سـأل رجـل علياً، رضي الله عنه، ما بال المسلمـون اختلفـوا عـليك، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟! فقال: إن أبا بكر وعمر كانا واليين  على مثلي، وأنا اليوم والٍ على مثلك!!». وقد علل ابن خلدون التغير في نظم الحكم بالنقص في وازع الدين في الرعية، وهو تعليل صحيح، فالدين مكوِّن قوي في الثقافة السياسية للأمة المسلمة، بل هو أقوى مكوِّن فيها، ومتى ضعف أثره ضعفت الثقافة الذاتية للأمة قاطبة.

 

آراء