الأفكار الميتة والأفكار المميتة: الشورى في الواقع الإسلامي
28 February, 2010
( 3 من 4)
محمد وقيع الله
إن أصغر وحدات الأمة تكويناً وتأثيراً في ثقافتها السياسية هي بلا شك خلية الأسرة، التي يتلقى فيها الإنسان التوجيهات الأولى لالتزام المثل العليا في الطاعة، والانضباط، والتضحية، وأداء الواجبات، والتسامح، والتعاون، والتشاور. ويُتوقع من الأسرة الراشدة أن تمكِّن طفلها من إبداء آرائه، وتشجعه على ذلك، وتقابل آراءه الحسنة بالقبول والاستحسان، وتتيح له فرص ممارسة الشورى باكراً منذ سنواته الأولى، وتزيد له في هذه الفرص كلما تقدم في السن، ثم تضاعفها بقدر ملحوظ خلال سنوات المراهقة، حيث يتنامى ميله للاستقلال الشخصي، و تعوِّده مع ذلك على تحمل نتائج قراراته الخاصة، وتساعده على تصحيح أخطائه برفق، مع إعطائه الحق في الاحتجاج المهذب على ما يراه خطأ في قرارات الأسرة.
دور الأسرة في إرساء خُلق الشورى:
وهكذا تتمكن الأسرة من تدريب أعضائها منذ الصغر، وتقودهم على نهج الاستقلال والنضج الشخصي والاجتماعي والسياسي. وبهذا تؤدي الأسرة خدمة كبيرة لأبنائها، وللمجتمع، و لثقافة الأمة السياسية ككل. ولا غرو فالأسرة في الرؤية الإسلامية هي: «نموذج مصغر للأمة والدولة، تقابلُ القوامةُ فيها الإمامةَ أو الخلافةَ على مستوى الدولة. وتحكمها الشريعةُ، وتدار بالشورى، ويشبه عقدُ الزواج فيها عقدَ البيعة، ويتم اللجوء عند النـزاع إلى الآليات نفسها التي يلجأ إليها في حل النـزاع على مستوى الأمة، أي الصلح والتشاور والتحكيم..».كما تقول بحق الدكتورة هبة رؤوف عزت. وكلما نظر الناس إلى الأسرة هذا النظر، وحكَّموا فيها تلك الآليات الصالحة في الحل والعقد، كلما أبرموا أمر رشد للأمة ككل.
وعلى هذا الصعيد فقد أثبتت أكثر الدراسات السياسية الاجتماعية المسحية أن الحياة الأسرية التي يسودها التسامح والتشاور هي الحياة المشدودة برباط التراحم والود والاستقرار. ومن هذه الدراسات على سبيل المثال الاستطلاع العلمي الموسع الذي أجراه على نطاق مواطني خمس دول، عالما السياسة المقارنة الكبيران جبرائيل آلموند، وسيدني فيربا، وكانت من ضمن نتائجه الكبرى أن الأغلبية الساحقة من الذين ذكروا أنهم كانوا يُسهمون في صنع قرارات الأسرة ويؤثرون فيها وهم أطفال، يعتقدون اليوم أنهم يسهمون كثيراً في التأثير على قرارات الحكومات التي ينتمون إليها، وعكس هذا صحيح حيث أن من لم يُمكنوا من الإسهام في صنع قرارات الأسر التي نشأوا فيها، شبُّوا على ضعف الشخصية، وهُزال الرأي، والتردد في المشاركة في الشؤون العامة، واليأس من التأثير على قرارات الحكومات. وهكذا فإذا أردنا مجتمعاً شورياً حقيقياً فلابد أن نهتم بأساليب التربية الأسرية ونقومها حتى تسهم في توجيه النشء إلى السلوك الشوري السوي.
دور المدرسة في إرساء خُلق الشورى:
وتشارك المدرسة في دور الأسرة هذا وتستكمله، حيث تستقبل الطفل في عمر غضٍّ، وتؤثر فيه لفترات طويلة، بعضها يأتي متوافقاً مع بعض المراحل المتقدمة من دور الأسرة.
ويتوقع من المدرسة – في نمط التعليم الراشد – أن تحترم عقلية الطفل ونفسيته، فلا تكتفي بتلقينه المعارف الرسمية بصورة قسرية إجبارية، بدون أن تمكنه من إبداء وجهة نظره في ما يتلقى ، وطرح أسئلته بتهذيب وتواضع حول محتويات المـادة الدراسـية المقدمـة، بل ينبغي أن يتسم أسلوب التعليم بروح الحرية والشـورى، فيرحب الأستاذ بالمناقشات المثمرة المثارة من قبل طـلابه، فإن ذلك يضيف نواحيَ تربوية مهمة إلى الناحية التعليمية المحضة، حيث يتعلم الطالب أصول الشجاعة الأدبية، وأساسيات الأسلوب الصحيح الصالح للتخاطب مع الآخرين.
وينبغي أن تزداد قسمة الحرية المتاحة للطالب كلما تقدم في السن، وذلك حتى يستقلَّ بشخصيته الاجتماعية العلمية، ويتدرب على التفكير العقلاني الحر القائم على الرؤية النقدية الفاحصة لكل ما يَعرِضُ له من الأمور، مع إبداء التساؤلات المشروعة، ووضع الفرضيات الأولية للتحليل، وتقدير الاحتمالات المختلفة للنتائج، وبحثها، والاستخلاص منها، وتقويم البدائل المتاحة لاتخاذ القرارات السديدة، وبذلك يتعلم الطالب كيف يتصرف في الحياة، سواء على المحيط الشخـصي أو العام. ومثل هذا التدريب الذي يتلقاه الطالب لا تقل فائدته عن فائدة كمِّ المعارف النظرية التي يُلقَّنها في المدرسة.
وفي المجتمعات الديمقراطية تحرص المدارس على تعليم الطفل وتعويده كيف يفكر ديمقراطيا،ً وكيف يتصرف ديمقراطياً، وذلك حتى يكتسب تلك المهارة منذ الصغر عن طريق سليم راشد، فذلك آمن له من أن يتلقاها فيما بعد في أطر قد تكتنفها الإثارة الرخيصة، أو التحريض السمج، أو الدعاية الأيديولوجية الغثة. وهكذا يأخذ تلك العدة التربوية الطيبة منذ الصغر، وينشأ على القيام بواجبات المواطن الصالح، ومن بينها واجب العمل التطوعي، والإسهام في مشروعات الخير العام، مهما كانت صغيرة أو ضئيلة القيمة من حيث العائد المادي، لأن المقصود منها بالنسبة للطفل هو الجانب المعنوي والتربوي أولاً.
وباشتراك الطفل في إنجاز أي مشروع تطوعي تتوفر له فرصة للخلاص من دائرة النفس إلى الدائرة الاجتماعية الأوسع، كما يكفل له فرصة مناسبة لممارسة حقه في إبداء الرأي حول تفاصيل المشروع وأهدافه وطريقة تنفيذه، وتقديم العمل باسمه بعد الفراغ من تحقيقه، وإذا تم ذلك كله في جو سلمي ملؤه التعاون والأداء المتساند كان ذلك أفضل تدريب له على العمل بروح الديمقراطي في مُقبل أيامه.
وهكذا، فمع أن الأمم الغربية قطعت حتى الآن أشواطاً متطاولة في الممارسة الديمقراطية فهي لا تزال تعلِّم ناشئتها كيف يتصرفون ديمقراطياً، ولها أن تتوقع بعد ذلك أن يشبوا على ذلك، طالما أن ثقافة المجتمع ديمقراطية الأصل والطابع. وفي أكثر الأقطار الديمقراطية تُعدُّ مادة التربية الوطنية Civics مادة إلزامية على كل الطلاب، يتعلمون منها حقوق وواجبات المواطن الصالح. وثمة أفكار وتعليمات وتوجيهات من هذا النوع تتخلل المقررات الدراسية الأخرى.
وما أحرى مناهج التربية في بلاد المسلمين أن تمضي على نمط كذلك، و تتسع لكل ذلك، لا على سبيل التقليد، وإنما على سبيل الأصالة الراسخة في التراث، وهدي السلف الصالح.