هل ثمة انقلاب جذري في توجهات الناخبين؟ … بقلم: د. محمد وقيع الله
30 March, 2010
دهشت كثيرا وسعدت كثيرا باستطلاع برنامج (عدد خاص) من تلفزيون السودان لآراء عدد كبير من المواطنين حول المبدأ الذي سيمنحون على أساسه أصواتهم للمرشحين السياسيين في الانتخابات الحالية: هل هو الولاء الجاهز، أم البرنامج الانتخابي، أم أي محفز آخر؟
وقد أجابت الأغلبية الساحقة من المستطلعين بأنهم سيمنحون أصواتهم على أساس البرنامج الانتخابي، لا الولاء القبلي والإثني، أو أي ولاء تقليدي آخر.
وشدد أكثر هؤلاء على أن الوعد الانتخابي الذي يطرحه المرشح سيكون أهم ما ينظرون إليه ويدرسونه ويصوتون على أساسه.
البروفسور الماركسي يستفتي قلبه:
وعندما سألت المذيعة الذكية صاحبة البرنامج ضيفيها وهما البروفسور عبد الله علي إبراهيم، والثاني وهو فيما أظن البروفسور عبد اللطيف البوني (معذرة لأني لم أشاهد التلفزيون السوداني منذ أكثر من عشرين عاما) عن رأيهما في إجابات الجمهور وطلبت منهما تقديم تفسيرات لاتجاه تلك العينة من المستطلعين للتصويت على أساس البرنامج، قدم البروفسور إبراهيم رأيين متناقضين، أو قل إنه قدم رأيا ثم أسرع وتنازل عنه، أو ربما قام فقط بتعديله وتقديم رؤية جديدة له بدافع من الأمانة وتحري الدقة العلمية.
وقد أورد البروفسور إبراهيم في قوله بادي الرأي إنه يفسر حديث الناخبين عن التزامهم بالبرنامج بما يعني التزامهم بالأحزاب السياسية التي ينتمون إليها، وبالتالي فإن هؤلاء الناخبين سيصتوتون لأحزابهم وعلى أساس من ولاءاتهم القديمة.
ثم عاد البروفسور إبراهم وتخلى عن رؤيته الأكاديمية الاستنتاجية ليستفتي قلبه عملا بالحديث النبوي الشريف :" استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتَوك". رواه أحمد والدارمي بسند حسن.
فقال إن قلبه يحدثه بأن الذين أجابوا عن السؤال مستخدمين كلمة البرنامج لا يعنون مفهوم الولاء الحزبي، وإنما يعنون حرفيا ما ذكروه من أمر البرامج السياسية، وإنهم يعنون البرامج الحرة التي تعكس شخصيات المرشحين، وتحدد وعودهم الانتخابية، التي ينبغي يعاملوا على أساسها، وأن تكون العامل الأساسي في نيل هؤلاء المرشحين لأصوات الناخبين أو خسرانهم لها.
وتدخل البروفسور البوني فعزز هذا الرأي قائلا إن المجيبين عن الاستطلاع ربما عنوا الفروق بين أنماط الوعود والأولويات التي تحتويها البرامج الانتخابية كأن يعد أحدهم ناخبيه بأن يوفر لهم هذا المطلب أو ذاك (تعليم أو ماء) ومن هنا يكون التمايز بين البرامج الانتخابية.
التحول التقدمي الحقيقي في السودان:
وهكذا رجح البروفسور البوني الرأي الثاني للبروفسور إبراهيم، وهو ما نرجو أن يكون صحيحا، لأنه إن صح فإنه يعني حدوث تحول تقدمي ثوري في توجهات الناخبين السودانيين، وربما في الثقافة السياسية السودانية برمتها.
وعندما استثمرت المذيعة ومضة ذكاء وقاد في غضون المجادلة فوجهت سؤالا مهما عن سبب هذا حدوث التحول الجذري في توجهات الناخبين السودانيين إلى ضيفيها الموقرين لم يكن رد الضيفين الكريمين موفقا في اعتقادي.
ذلك أنه على افتراض أن عينة الاستطلاع الذي أجراه البرنامج عينة عشوائية (بما يعني أنها عينة بحثية علمية صحيحة قد يصلح التعميم على أساس نتائجها) فإنه يمكن
يمكن أخذ استنتاج أولي كبير منها.
وأستنتج وبالله التوفيق هذا الاستنتاج المختلف عن جوابي العالمين الأنثروبولوجي إبراهيم والسياسي البوني، وأقول إن متغير (الثقافة السياسية) ربما كان هو المسؤول الأول عن هذا التحول العظيم في توجهات الناخبين السوانيين ونقلها من حيز الإطار التقليدي المتزمت إلى فضاء الاختيار الحر العقلاني الطليق.
تحولات الثقافة السياسية السودانية:
وأعني بمتغير (الثقافة السياسية) ما يعرفة علماء السياسة المقارنة بأنه:" مجموعة الخصائص الاجتماعية لأمة ما، مثل التقاليد السياسية، ونوعية الأبطال السياسيين الذين خلدوا في ضمير الأمة، والروح التي تسود مؤسسات الأمة السياسية، ونوعية الآمال والأهداف السياسية التي تراود مجموع أفراد الأمة، وما يجمع بين أفراد الأمة من الإيدولوجيات والقوانين الرسمية وغير الرسمية التي تحكم الشؤون العامة، وطريقة الأداء السياسي لقادة تلك الأمة، والمعايير التي يستخدمها الناس في تمييز ما هو سياسي مما هو غير سياسي من الشؤون العامة ". وهذا هو تعريف لوسيان باي في كتابه الرائد
Political Culture and Political Development, Princeton, Princeton University Press, 1965, p. 7.
وهذا المفهوم هو ما يعني في تعريفي الخاص: " مجموعة عادات الشعب وتقاليده وفنونه وقوانينه وأديانه واعتقاداته العامة التي تصبح بمثابة آليات (خفية) تسيطر بشكل أو بآخر، وبأقدار متفاوتة، على اتجاهات السلوك السياسي للشعب، وتقدم المعيار الذي يستخدمه الشعب لاختيار قادته السياسيين، وتقويم الأداء العام للمؤسسات السياسية القومية ".
ما الذي أتاح حرية الاختيار (الحقيقية) لأول مرة؟
ولا شك أن الثقافة السياسية لشعب ما هي مجرد اشتقاق جزئي من ثقافته العامة، التي هي مجموعة الاعتقادات والقيم والقواعد التي يعتنقها ويقبلها ويمتثل لها أفراده طوعا أو كرها.
وهي بهذا تعد قوة وسلطة موجهة لسلوك المجتمع تحدد لأفراده تصوراتهم للحقيقة، (ما هو حقيقي مما هو زائف)، وتوجه أفضلياتهم وأهواءهم في نوع الطعام الذي يأكلون، والملابس التي يرتدون، والألعاب الرياضية التي يهوون، والموسيقى التي يعشقون وغير ذلك من الأفضليات والأهواء.
وكلما كانت الثقافة اتباعية كلما ضعف نموها واستمرت كما هي بلا تعديل كبير. أما إذا انتاب الثقافة العامة لشعب ما متغير كبير فإنها تنحو نحو اللتبدل والتحول عن النمط التقليدي القديم.
وبالنظر إلى الثقافة السياسية السودانية فقد غلب عليها الطابع النمطي التقليدي الاتباعي الطائفي لعهود متطاولة، وكانت هي الموجه الأساسي للسلوك الانتخابي للمواطنين السودانيين، بحيث لم يكن ثمة شيئ يسمى بالتصويت للبرنامج، ولا التصويت لشخص المرشح، وإنما لمن هم وراءه من سدنة الطائفية التقليدية التي كانت تحكم الأحزاب السياسية وتوجه قادتها وكوادرها وجماهيرها بالإشارة.
ولم تكن القوى القبلية مع ما لها من نفوذ كبير على توجهات السودانيين السياسية وغير السياسية، إلا محكومة بقيد القوى الطائفية وقلما تنجو من أسره.
ثورة التعليم:
والذي حدث في غضون العشرين عاما الماضية هو اتساع خدمات التعليم في البلاد، وما نشأ عنها من جيل كبير العدد.
ولا نستطيع اصطناع لغة الأرقام في هذا المقال لأنها ليست متاحة لنا اللحظة، ولكن لتقريب المعنى يمكن أن نشير إلى عدد الطلاب الذين يؤدون امتحانات الشهادة الثانوية هذا الأسبوع، وهو ما يقارب نصف المليون طالب، وهذا الرقم الكبير يمثل دفعة واحدة فقط، ومنه يمكن تكوين فكرة تقريبية عن عدد الذين يتلقون العلم في دولة الإنقاذ، وعدد من تخرجوا من المدارس والجامعات في أكثر أعوام العقدين الماضيين.
نقول هذا ولا نقصد التحيز لدولة الإنقاذ، ولا نروم الإشادة بها في هذا المقام، وإن كانت تستحق أكثر من مجرد الإشادة، ولكنا نقول إن هذا العامل ربما كان هو العامل المسؤول عن توجه الناخبين في انتخابات هذا العام توجها عقلانيا، نحو فحص البرامج السياسية للمرشحين، والتنائي عن الالتزام بالتوجيه الإشاري للسادة الطائفيين.
ولا شك أن عاملا سلبيا آخر كان له دوره بجانب هذا العامل الإيجابي، وتمثل هذا العامل السلبي في فناء عدد كبير من المواطنين الأميين ومن لم يتمتعوا بقدر كاف من التعليم النطامي خلال العقدين الماضيين، وهؤلاء مواطنون كرام من كبار السن، لكن كانت تسيطر على أكثرهم، وتوجه سلوكهم السياسي والانتخابي العوامل التقليدية الإشارية التي أسلفنا إليها قبل قليل.
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]