عندما كان المارد في السهل …. بقلم: د. أحمد سبيل
27 June, 2010
الأربعاء, 16 يونيو 2010 08:36
3-1
الورقة الأولي
التاريخ القديم
عندما كان المارد في السهل
ahamed ali [ sabeel5588@yahoo.com هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته ]
أتيحت لي الفرصة لزيارة إثيوبيا أكثر من عشر مرات متجاوزاً في ذلك والعواصم والمدن الكبيرة إلي القرى والمجتمعات ، وكانت إقامتي تطول أحياناً لتتجاوز الشهرين و الثلاثة ، لقد ظللت أهتم بالحراك والسكاني والهجرات كناموس كوني يؤدي إلي التغيير ، ولعل الحراك السكاني من إقليم القرن الإفريقي إلي السودان في العقود الثلاثة الماضية نال الجزء الأكبر من الاهتمام ، وأكثرت من القراءة ذات الصلة بالاجتماع التاريخي في هذه المنطقة والذي بدوره قادني إلي التعرف علي حقيقة تواتر الأديان علي أثيوبيا والتأثيرات الدينية العميقة في مجتمعاتها .
من المحفزات التي جعلتني أكتب هذه الأوراق أيضاً ما ظل يتناوله الدكتور النور حمد عن الهضبة والسهل وأحاديث الدكتور جعفر ميرغني عن تاريخ السودان خاصة تاريخ النوبة ، ومقال في جريدة الأحداث عن العاصمة وتغيرها نحو الافرقانية وصيرورتها كمدينة كوزموبوليتان مستشهداً في ذلك بالبروفسر حسن مكي وتحليلاته للواقع السكاني في بعض أحياء العاصمة وكان ذلك في أحد أعداد الأسبوع الأخير من أبريل 2010م من تلك الجريدة .
لقد تبين لي أن هناك أغلاط كثيرة في تاريخ الاجتماع البشري في السودان ولا يستقيم الحال إلا بتشخيص صحيح وإعادة قراءة ذلك التاريخ وتفسير الظاهرة السودانية بصورة دقيقة فبقدر ما نجد أن تاريخ الاجتماع البشري مرتبط بأثيوبيا بصورة وثيقة في حقيقته ، بقدر ما نجد أن هذه الحقيقة غائبة أو مغيبة ، بل شكل تاريخ الاجتماع البشري السوداني البديل خاصة ذلك الذي إرتبط بالنوبة والنيل تضليلاًً ساهم في إرباك المهتمين والمختصين في تشخيص الحالة السودانية وأوجد فصاماً نكداً بين طموحاتنا وواقعنا ، وتولد إحباط عميق عند الذين أبصروا كيف تتحول طموحاتنا إلي أمنيات لا تحقق وهم يحاولون الإجابة علي السؤال : لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو مارد السهل ؟
ما نقرأه في التاريخ عن أماجد وأمجاد سودانية قديمة تبين لي أنها ليست كذلك وللابتعاد عن الجدل فقد فضلت أن أتحدث عن مرجع واحد بحيث يتسنى لكل مشكك أن يطلع عليه وأن إلا أضيع وقته بين مراجع كثيرة رجعت إليها .
الكتاب الذي أعنيه هو كتاب تاريخ السودان ومؤلفه نعوم شقير والطبعة المقصودة هي طبعة دار الجيل ببيروت عام 1981م ولقد قام بتحقيق وتقديم الكتاب الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم المحقق السوداني المعروف للجميع وقد حرصت علي الاستشهاد بأبو سليم عن الكاتب والكتاب لأن أبو سليم نفسه مرجع في اختصاصه وربما يكفيني مؤونة الدفاع عن صدقية الكاتب والكتاب .
قال أبو سليم في تقديمه " وقد تسني له – يقصد نعوم شقير – أيضاً أن يجمع الأخبار من الوافدين الي مصر من السودانيين والضباط والعساكر والموظفين والتجار والأعيان ممن إشتركوا في حوادث السودان أو كانوا علي علم بها . وكان من أبرز هؤلاء الزبير باشا رحمة ، وعبد القادر حلمي وإبراهيم باشا فوزي . وبعد سقوط أمدرمان قابل كثيراً من أمراء المهدية وأعيانها وجمع منهم بيانات مستفيضة " .
أما عن ممالك السودان السابقة للتركية فيقول أبو سليم " ثم أنه جمع بيانات كثيرة عن ممالك السودان من رواة الأخبار وحفظة التاريخ من أمثال الشيخ الطيب الذي كان مرجعه الأساسي فيما كتب عن سلطنة الفور " ويصل ذلك بقوله "وقد قرأ ما تيسر له من المؤلفات التي تناولت تاريخ السودان مثل تاريخ بدج وتاريخ ملوك سنار وكتب الرحالة مثل كايو ، وبعد فتح أمدرمان شارك نعوم شقير في جمع وثائق المهدية وأعد عنها تقريراً " .
ثم ينتقل أبو سليم من مصادر الكاتب الي الكاتب نفسه فيقول " أضف ا لي ذلك أنه شارك بنفسه في بعض الوقائع مثل حملة إنقاذ غردون والحملة علي طوكر ثم حملة الفتح . وقد نظر نعوم شقير بعين فاحصة وسمع بأذن واعية وأستوعب هذه المعلومات الواسعة ورتب كما يرتب العقل الآلي ، وكانت حصيلة ذلك كله هذا السفر الجليل في جغرافية السودان وتاريخه الذي ظل رغم توالي الزمان وتبدل الحال وتقدم الدراسات التاريخية مرجعاً لا يستغني عنه " .
ثم يصدر أبو سليم حكمه النهائي علي الكاتب بقوله " لقد جمع نعوم شقير معلوماته بأمانة وصدق ثم أعطاها في هذا الكتاب خزينة للحقائق التاريخية ومن الواضح أن نعوماً كان يتجه بعاطفته تجاه المخابرات التي عمل بها ، وقد ظهر أثر ذلك في تعليقات هامشية هنا وهناك وفي إطرائه لبعض رجال الحكومة وإتخاذه مواقعهم وإشاراته المعادية للمهدية ورجالها في مواضع كثيرة . غير أن ذلك لم يؤثر فيما يتقدم من معلومات أو تقنيين للحوادث . ولم يبخل نعوم في أن يعطي الخصم حقه وأن كان مقتضباً في ذلك " .
الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم قدم تقييما مكتملاً للكاتب والكتاب في كافة مراحل إعداد الكتاب أو ما يعرف الآن بإعداد البحث من مرحلة جمع البيانات إلي تبويبها وتحليلها وموثوقيتها وكما أسلفنا فهو إختصاصي في هذا المجال .
نعود إلي نعوم شقير وكتابة تاريخ السودان والذي يورد في فصوله الأولي ما يفيد بان الأماجد والأمجاد السودانية قبل ميلاد المسيح ليست سودانية بل هي أثيوبية فبعانخى اثيوبى وطهراقا أيضاً والملك كاتشا وأبنه سباقون وحفيده سبيخون وحتى الكنداكة كلهم اثيوبيون وليسوا ملوكاً للنوبة في شمال السودان وليست الممالك ممالك نوبية كما تم تلقنينا في فصول الدراسة .
يقول في (ص 14) عن المملكة الأثيوبية في نبتة " إلا انباهم مملكة منظمة وعليهم ملك منهم بل لم يتم الملك لآحمس أول ملوك الدولة الثامنة عشر المذكورة – في مصر – إلا بمعونة ملك أثيوبيا الذي زوجه إبنته وظافرة علي طرد الرعاة من مصر وإعادة الاستقلال إليها ويظهر أن هذا الملك الذي إنتظم للأثيوبيين كانت عاصمته منذ نشأته مدينة نبته عند جبل البرقل بقرب مروي المعروف في الهيروغليف بالجبل المقدس" .
أما في (ص19) فيكتب عن "الملك بعانخي : وكان علي الأثيوبيين في ذلك العهد ملك قادر يسمي بعانخي مقيم في نبته فجرد عليها جيشاً جراراً وقاتله في عدة وقائع حتى إنتصر عليه – يقصد مصر وفرعونها – ويشير في صفحات 26،25،24 الي الملك كاتشا وإبنه سباقون وفي ص (28) يقول عن حفيده الملك سبيخون وبعد قليل مات سباقون وترك حكم الأثيوبيين وصعيد مصر لإبنه سبيخون وبقي الوجه البحري تتنازعه فئتان من المصريين فاغتنم سبيخون فرصة الإنشقاق وحارب الوجه البحري وأسترجعه الي أثيوبيا " .
ثم أنظر ما يقول في طهراقا (ص 28) " الملك طهراق :- ولكن ما ثبتت قدمه حتى نقص عليه طهراق أحد أمراء الأثيوبيين فقتله وتولي مكانه – يقصد سبيخون – وكان اسطيفانيس لا يزال محاصراً في مدينة منف فزحف عليه ونزع المدينة منه وطهر مصر من العصاة ثم دعا أمه من أثيوبيا ولقبها بحاكمة الوجه البحري والقبلي وسيدة الأمم وكتب علي جدران هيكل جبل البرقل إسم مصر بين أسماء البلاد التي خضعت لصولته " .
ثم يتوالي ذكر الأمراء والملوك الأثيوبيين العظام والذين حكموا مصر من السودان مثل أوردا من ونوت ميامون وغيرهم .
ثم أنظر ما يقول في مملكة مروي في صفحة (33) :
" ما أنقضت الدولة المصرية الخامسة والعشرين حتى إنقضت معها مملكة نبته في أثيوبيا وقام في مكانها مملكة مروي فنالت في التاريخ شهرة لم تنلها نبته وإمتدت من الشلال الأول إلي أعالي النيل الأزرق وكانت عاصمتها مدينة مروي علي النيل الكبير في مكان يعرف الآن بالبجراوية علي 23 ميلاً شمالي شندي ".
ويستشهد نعوم شقير بدوره بهيرودوتس حيث يقول في (ص 33) " وأول من ذكر مروي في التاريخ هيرودوتس المؤرخ اليوناني الشهير الذي عاش في القرن الخامس للمسيح قال وفوق جزيرة الفنيين تبتدئ بلاد أثيوبيا فيتعذر السفر في المراكب مسيرة أربعين يوماً بسبب كثرة الصخور في طريق النيل وبعد ذلك تركب قارباً وتسافر مسيرة إثني عشر يوماً إلي مدينة كبيرة إسمها مروي قيل أنها عاصمة أثيوبيا " . ويضيف نعوم " ثم ذكرها كثيرون غيره من مؤرخي اليونان والرومان .
ثم يعرج علي مملكة سوبا في (ص 39) " مملكة أكسوم ومملكة سوبا :- ومن ممالك أثيوبيا التي إشتهرت في هذا العهد – يقصد عهد البطالسة في مصر – مملكة أكسوم في شمالي الحبشة علي بضعة أميال من عدوة ومملكة سوبا علي النيل الأزرق علي 15 ميلاً من الخرطوم " .
ويذكر الكنداكة أيضاً (ص 40/41) المملكة الكنداكة : وفي سنة 23 ق.م أخرج الإمبراطور اوغسطوس قيصر معظم عساكره من مصر لغزو بلاد العرب وكان علي مروي حينئذ ملكة تلقب بكنداكة تحب الحرب والفتوح فاغتنمت الفرصة وسارت بجيش مؤلف من 30 ألف مقاتل إلي مصر تريد إفتتاحها ففتحت حامية فيلي وحامية أصوان اللتين علي حدود مصر ودخلت مصر العليا وكان النائب الروماني إذ ذاك رجلاً شديد البأس يسمي بترونيوس فحمل علي كنداكة بجيش منظم مؤلف من عشرة آلاف راجل وثمانمائة فارس فلما سمعت كنداكة بإستعداده رجعت الي أثيوبيا السفلي " .
وقال نعوم شقير في (ص 47) نقلاً عن المقريزي " وقال بعض المؤرخين أن مروي كانت تجهز للحرب جيشاً مؤلفاً من 250 ألف مقاتل وكان فيها 400 ألف من أرباب الصنائع وأنه قد حكمها 45 ملكاً وملكة أكثرهم من الملكات وتري علي الآثار رسوم بعض هذه الملكات يقدمن القرابين للآلهة أو يمثلن أبطالاً منتصرين وقد لقب الملكات بكنداكة كما لقب ملوك مصر بالفراعنة والروم بالقياصرة ".
ويذكر نعوم شقير في (ص 49) :
" ومما هو جدير بالذكر أن إسم مروي غير معروف في الجزيرة الآن بل البلدة المعروفة بهذا الإسم واقعة قرب البرقل عند موقع مدينة نبتة وبين مروي هذه ومروي القديمة قرب شندي طريق في الصحراء تمر بآبار الجكدول طولها 180 ميلاً " .
وجلي أن المسافة الحقيقية ليست هي بين مروي الحالية ومروي القديمة ولكنها المسافة بين الحقيقة والوهم التاريخي خاصة عندما نعلم أن ملوك هذه الممالك وشعوبهم قد هجروا السودان النيلي إلي مناطق أخري تاركين ما وراءهم في ظلمة لا يعرفها التاريخ ولم يرجع الى تناولها الا بعد حوالي خمسمائة عام بدأت مع ميلاد المسيح عليه السلام حيث وردت آخر إشارة في التاريخ عن هذه الممالك في ذات المكان من استرابو المولود سنة 54 ق.م والمتوفي سنة 24 ميلادي والذي ذكر في إشارته بعض المكونات السكانية للمنطقة مثل البلامس والتروقلوديت والمقباري ... ولم يرجع التاريخ للحديث عنها إلا في سنة 545 ميلادية عند وصول النصرانية إليها من الاسكندرية .