جئتكم من ممبلو! … بقلم: د. عثمان أبوزيد
د. عثمان أبوزيد
21 July, 2010
21 July, 2010
مولانا سومي زيدان عضو المحكمة الدستورية قابلته في الحج ، وسمعت منه كلمات بعربي جوبا يحفظها عن ظهر قلب منذ أن كان قاضياً شرعياً في جوبا قبل سنوات عديدة ، الكلمات ألقاها رجل جاءهم من ناحية (ممبلو) ، وقف في مسجد جوبا وقال : "أنا بِجا من ممبولو ، بكلم إسلام بتاعتا أكوان بتاع أنا بتاع إسلام. زِكان ربنا قوُّم دُل بتاع أنا يقول إتّ كلم إسلام بتاع إتّ؟ إت كلم إسلام بتاع ماما بتاع إت؟ إت كلم إسلام أكو بتاع إت؟ كلم إسلام بابا بتاع إت؟ أنا بقول جنو؟ جان كدا أنا بجا أكوان بتاع أنا في جوبا".
ومعناه بالعربي الفصيح : جئتكم من ممبلو لأخاطبكم إخواني في الإسلام وأبلغكم لو أن الله تعالى بعثني بعد الموت وسألني : هل بلغت الإسلام إلى أمك؟ هل بلغته إلى أبيك وأخيك؟ ماذا أقول؟ من أجل ذلك جئت إليكم في جوبا يا إخوتي في الإسلام.
هذا في الحقيقة مثال التجربة التاريخية لعامة المؤمنين وغالب الناس الذين يدينون بدين الإسلام في إفريقيا. يشخّص الدين عند هؤلاء معنى النجاة والخلاص قبل أي شيء آخر ، إنه مصدر العزاء وينبوع الرحمة إزاء قسوة الحياة والأحياء. تكمن غاية الدين عند هؤلاء الذين ينطلقون من فطرتهم ، في إصلاح أخلاق الفرد والمجتمع.
ومثل هذا التوجه لا يمكن أن يثير مشكلة في وجه النماء والوحدة ، بل يصبح الدين عندئذ عنصراً للتقدم الاجتماعي والخير العام والعيش المشترك مع المنتسبين لغير دين الإسلام.
نرى صوراً للتسامح الديني في مجتمع الجنوب ، بحيث أن الأسرة الواحدة تضم المسيحي والمسلم والأرواحي دون أن يثير ذلك مشكلة في العلاقة بين الجميع.
لم تكن الحرب الأهلية التي دارت في أرضنا حرباً بين مسلمين وغير مسلمين كما يحاول أن يصورها الإعلام الدولي ، بل إنها كانت حرباً سياسية بين قوى محلية ظلت مندرجة في صراع أكبر إقليمي ودولي. وللأسف صار الدين الذي أنزله الله للفصل بين المتنازعين والتراحم بينهم ، صار عاملاً لتأجيج الصراع إلى أقصى الحدود.
يسألنا الناس في هذه الأيام عن مصير الإسلام والمسلمين في الجنوب إذا حدث الانفصال لا قدّر الله؟ وما قد يصيب المسلمين من خير أو شر هو من تلقاء أنفسهم ، وربما أن الناس يشفقون من حالة الانقسام الذي يتردى إليها المسلمون في المجتمع الواحد بحسب أحزابهم السياسية وقبائلهم ومصالحهم الذاتية.
إن الوضع الديني بطبيعة الحال يتأثر بالظروف التي تحيق بالمجتمع وبجملة الشروط البيئية الخاصة بالمتدينين. ولا بد أن نقول إن المسلمين في الجنوب يعيشون انقساماً وتشرذماً. وينبغي ألا يتنصلوا من مسؤوليتهم ، فإن أمراض الانقسام وادعاءات كل جهة بأنها تحتكر المشروعية ، تشكل أرضية للضعف وقلة الحيلة ، الأمر الذي يعني أن العلاج يبدأ من جانبنا وأن الحلول تأتي من داخلنا.
استمعت إلى الدكتور عبد الرحمن السميط ذات مرة وهو صاحب خبرة كبيرة بإفريقيا ، قال إن النجاح كان حليف المسلمين في الدول التي توجد فيها منظمة إسلامية واحدة أو منظمات تجمع بينها خطة واحدة للوصول إلى هدف واحد. وضرب المثل بجمهورية مالاوي حيث إن الجهد والمال البسيطين اللذين أنفقا في مالاوي أثمر الكثير خلال عشرين عاماً فقط ، فارتفعت نسبة المسلمين من 17 في المئة إلى أكثر من 45 في المئة ، وانتخب لأول مرّة في تاريخ مالاوي رئيس جمهورية مسلم وتخرج العشرات من أبناء المسلمين أطباء ومهندسين ومحاسبين وأساتذة جامعيين ، في حين لم يكن هناك خريج واحد من الجامعة حتى عام 1984م. (ورقة مقدمة إلى مؤتمر الأمة الإسلامية والعولمة ، 2002م).
هذا مثال بسيط والأمثلة كثيرة ، وقد رأينا في إفريقيا أن الدين لا يمثل هوية بالمعنى الأيديولوجي أو السياسي ، بل ربما أنه ظل حداً رادعاً بين الهويات المتقاتلة.
رأينا بعض المسيحيين في غرب إفريقيا يرسمون المسيح أسود اللون ، ولكن عندما استحرّ القتل على الهوية في رواندا ، لم يجدوا غير المساجد تحميهم من المصير المحتوم.
يقول صالح هابيمانا مفتي رواندا: الكل تلطخت أيديهم بالدماء إلا المسلمين الروانديين الذين لم يقفوا على الحياد كما يتصور البعض - رغم انتمائهم للقبيلتين المتقاتلتين- بل كانوا الأكثر فاعلية وإيجابية وعقلانية في التعامل مع المجازر ، فقد رفضوا مبدئياً المشاركة في القتال المجنون، ثم فتحوا بيوتهم لإيواء الفارين من القتل، وأطعموهم وأخفوهم عن عيون الجزارين الذين كانوا يعتبرون الذبح مهمة مقدسة.
ومن ثم قام المسلمون الروانديون بفتح مساجدهم للاجئين إليها، وعملوا على حمايتهم بكل الطرق، وبذلوا دماءهم على أبواب المساجد كي لا تسيل نقطة دم واحدة لأي شخص طلب الأمن والأمان إلى جنب الله وفي بيته.
وتوقفت المجزرة، ووصم القتلة بالعار، ولم يكلل المسلمون الأطهار بأكاليل الغار والفخار فحسب، بل كان موقفهم الراقي أفضل دعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة الكل نقص والمسلمون زادوا. دخل الروانديون في دين الله أفواجاً اعتنقوا الإسلام كي يطهروا أنفسهم من الدماء التي لطخت أيديهم، وارتفعت نسبة المسلمين في رواندا من 5 في المئة إلى 10 في المئة حسب تقديرات إسلامية، وإلى 14 في المئة حسب تقديرات وتقارير غربية ترصد ظاهرة سرعة انتشار الإسلام في رواندا بقلق واندهاش وتستدعي الكنيسة الكاثوليكية التي تبحث وتحاول الآن بكل الطرق كيفية مواجهة زيادة أعداد المسلمين خصماً من أتباعها.
ولم يكن ما فعله المسلمون الروانديون في مجزرة 1994 موقفاً طارئاً، بل اتخذوا نفس الموقف في المجزرة التي وقعت بين الهوتو والتوتسي عام 1959، حيث احتمى التوتسي الذين كانوا يتعرضون للقتل والإبادة بديار ومساجد المسلمين ، أما الذين تمكنوا من الهرب إلى الدول المجاورة فقد فروا في سيارات المسلمين الذين كانوا يمتهنون قيادة السيارات ويمتلكونها. (مقابلة صحفية ، جريدة الوطن الكويتية ، أبريل 2010م).
نهيب بالجماعات الدينية مسيحية وإسلامية في الجنوب أن يكون موقفها إيجابياً تجاه القضايا المصيرية؛ الوحدة الوطنية والسلام والتنمية ، فهذه القضايا ليست شأناً خاصاً لدين من الأديان أو جماعة دون سائر الجماعات ، وإنما هي شأن عام يتأثر بها الجميع بأحزابهم وهيئاتهم الدينية وفعالياتهم.
ومن أجل ذلك لا نتصوّر هيئة دينية مسيحية أو إسلامية تدعو إلى التفرقة والانقسام والعنف ، إنها بذلك تشذّ عن إرثها الديني وتتناقض مع تراثها الإنساني القائم على الوحدة والسلام.
Osman.abuzaid@gmail.com