أحزاب الإجماع الوطني: لا تكونوا دون التوقع مرة أخرى!!! … بقلم: صديق عبد الهادي
Siddiq01@Sudaneseeconomist.com
حينما نهضت الاحزاب الوطنية السودانية قبيل الانتخابات العامة، وبما فيها الحركة الشعبية، ومن ثم تعاضد شملها في مؤتمر جوبا، إستبشر اهل السودان خيراً بان ما زال هناك امل، ووميض تحت اطلال حياتنا السياسية التي انهالت عليها معاول الهدم الأعمى لعقدين من الزمان وأكثر.
لم ينظر الناس إلى تجمع الاحزاب في مدينة جوبا في شهر اكتوبر 2009م على انه نهوضٌ منبت، وإنما تطلعوا إليه بحسب انه خطوة تصحيحية جريئة في طريق العودة إلى الشعب، بالرغم من حقيقة انها خطوة لم يكن هناك ما يمنع من إطلالتها المبكرة، أى كان من الممكن أن يكون إنعقاد ذلك التجمع قبل وقتٍ طويل سيما وان إتفاقية السلام التي نصت على إجراء تلك الإنتخابات العامة كان أن تمَّ توقيعها في يناير 2005م، أي قبل ما يقارب خمس سنوات. ولكن العزاء، على اية حال، يكمن في القول المأثور "أن تأتي متأخراً خيرٌ مما لا تأتي ابداً"!!!.
كانت الاحزاب في ذلك المؤتمر مدفوعة بحس صادق، ومسكونة بطموح مشروع في ان تضع نصب اعينها القضايا المهمة والملحة التي تهم شعب السودان، وقد كان ان حدث. وتمَّ الوصول إلى صياغة توصيات اشارت بشكل مباشر الى مكامن الوجع ومظاهر الظلم. ومن ضمن تلك التوصيات كانت توصيات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية. ولكن هذا المقال سيكون معنياً بثلاث توصيات محددة من توصيات تلك اللجنة، نستدعيها، وعن قصد، لانها التوصيات الاقوى على إجبار "أحزاب قوى الاجماع الوطني" على ان تتحسس خطاها، وأن تعيد تأكيد موقفها!!!. وهي التوصيات رقم (8)، (10) و(11)، ونصها لغةً هو/
"(8) وقف التصرف في المشاريع والأراضي الزراعية الحكومية نهائيا وإلغاء قانون مشروع الجزيرة لسنة 2005 والعمل بقانون 1984م.
(10) إلغاء فوائد ديون المزارعين وتجميد أصل الدين لفترة 3 سنوات قادمة وحل اتحاد المزارعين الحالي وإنتخاب اتحاد جديد إنتخاباً حراً وتعيين لجنة مقتدرة لإدارة العمل ويمثل فيها المزارعون مع إعادة النظر في أمر المفصولين من عمال المشروع.
(11) إشراف وزارة المالية من خلال البنك المركزي على مشروع الجزيرة بإعتباره مشروعاً قومياً."
هذه التوصيات لا تزال سارية وتنبض بالحياة، وواجبٌ التمسك بها، بل وليس هناك من سببٍ واحدٍ للتخلي عنها. فهي أشبه في منحاها، لو تأملناها، بكل التوصيات التي قيلت طيلة تاريخنا السياسي، ومنذ الاستقلال، حول الغبن والظلم الاجتماعي الذي نحاول ان نستغيث ببعضنا الآن لاجل تلافي نتائجه، تلك التي تتدلى كالسيوف الحداد من سقف السماء لتحز عنق الوطن!!!.
ولكن، لندلف إلى جوهر الامر ونقولها مباشرة في وجه أحزاب مؤتمر جوبا، ودون إستثناء قط، " لقد كنتم أقل من توقعات اهلنا في منطقة الجزيرة، وخاصة إبان فترة الانتخابات العامة في ابريل المنصرم"!!!. "فلقد كان التوقع، وهو توقعٌ مشروع، ان تنقلوا مراكز حملاتكم الانتخابية المركزية إلى منطقة الجزيرة، وتديروا المعركة ضد المؤتمر الوطني من هناك"!!!، " ولكنكم لم تفعلوا!!!."، بل وعزّتْ عليكم تلبية الدعوات المتكررة التي تقدم اليكم بها تحالف المزارعين والشيخ عبد الله "أزرق طيبة" لاجل الاجتماع للنظر ، مجرد النظر، في سؤال العمل الانتخابي. لم تحركوا ساكناً سوى انكم كنتم تلوحون، ومن على بُعدٍ، برايات الاعتذار الباهتة. ولتفصيل ذلك مقامٌ آخر سيأتي مستقبلاً.
يكاد ان يكون ما أن إنعقد سمنار او مؤتمر او حتى اي إجتماع، سياسياً كان، إقتصادياً او ثقافياً منذ ان إستقل السودان وإلى يومنا هذا، إلا وكانت من ارأس قراراته ضرورة الانتباه للتنمية المتوازنة بين اقاليم السودان، ضرورة الإعتراف بالتباين العرقي والثقافي والعمل على رعايته وتعزيزديمقراطية تلاقحه دون قسر، وكذلك ضرورة تامين مبدأ ان يدير اهل الاقاليم المختلفة شئون مناطقهم أنفسهم بانفسهم ودون حجبهم ذلك الحق الاصيل بالاستناد على تلك الفرية او بالاتكال على ذلك الادعاء الاجوف بان هناك اقاليم حباها الله بتفريخ القادة، وبسط لها بالمدد في إنتاج اساطين الحل والعقد!!!. فالتوصيات الثلاث الواردة من مؤتمر جوبا تجري نفس ذلك المجرى التاريخي بالنسبة لمنطقة الجزيرة. فإن كان التجاهل المتعمد لكل ما كان ان تمَّ التنبيه له او التوصية به قد اوصل السودان الى ما هو عليه الآن، فإن الاصرار على عدم إعتبار تلك التوصيات المتعلقة بمشروع الجزيرة سيقود إلى ما هو اسوأ!!!.
فيا "قوى الاجماع الوطني" هذه توصياتكم التي لخصتم بها محنة اهل الجزيرة. إن المؤتمر الوطني ليس على استعداد حتى لمجرد النظر فيها لانها تستهدف مصالح طبقته وتقوض احلام مؤسساته الرأسمالية الطفيلية في الإرتقاء الى مصاف دوائر الراسمال العالمي. فإن ما هو مرجوٌ منكم ان يكون مشروع الجزيرة في قلب اجندتكم على اي طاولة تجلسون اليها بشأن وحدة هذا البلد، لانكم إن لم تفعلوا ذلك اليوم فليس هناك من ضمانٍ ألا تضطروا إلى العودة إليها وفي ظرفٍ اكثر دقة من الذي نحن فيه الآن. فمنْ كان يتوقع، يا ترى، ان تكون الإستجارة بالحق الديمقراطي المتمثل في تقرير المصير هي السبيل الوحيد لإتقاء الظلم المتصاعد في بلدٍ إمتد فيه التعايش السلمى لزمنٍ طويل قد يصل للآلافٍ من السنين؟!.
ختام/
ذكر المستر "آرثر جيتسكل" البريطاني، وهو اول مدير لمشروع الجزيرة، في كتابه المرجع المعروف بـ "الجزيرة...قصة تنمية في السودان"، والصادر في عام 1959م، ذكر قائلاً حول موضوع الأراضي:
"والحماية، في نظر الحكومة، هي ذات إعتبار مهم. إن الوضع السائد قد هيأ فرصاً ذهبية للناس الذين يمتلكون اموالاً ويتمتعون ببعد النظر في ان يضاربوا بشراء اراضي المواطنين وإعادة بيعها باسعار مجزية. هذا الامر أثار المخاوف بان الناس الوحيدين الذين يمكنهم ان يشتروا الاراضي مؤخراً من اؤلئك المضاربين سيكونون هم الاغنياء من ملاك الاراضي والشركات مما سينتج عنه تحول الزراع المستقلين إلى عمال زراعيين ومستأجرين. إن الخطوة الضرورية الاولى هي وقف شراء الاراضي من اؤلئك المواطنين الذين لا يعرفون قيمة الارض وهم يقيسونها بالنقود. إن الإعلان الحكومي الرسمي في سنة 1900م كان أن جعل تحقيق ذلك ممكناً". ( الكتاب ـ ص 43).
هل من الممكن ان يتصور المرء ان هذا الفهم حول الاراضي، وخاصةً في منطقة الجزيرة، صادر من سلطات استعمارية؟ وعلى نهايات القرن التاسع عشر؟!. إن الامر الحكومي الاصل المتعلق بملكية الاراضي والذي انبنى عليه الاعلان الذي اشار اليه مستر جيتسكل كان ان صدر في العام 1899م !!!.
ولكن ما هو مدهش بحق ان يأتي، وبعد مائة وخمس سنوات، المشرعون الوطنيون "السودانيون" في 2005م ليجيزوا اكثر القوانين ظلماً وجوراً في حق مزارعي مشروع الجزيرة، وفي حق ملاك الاراضي فيه. فإذا كانت السلطات الاستعمارية نفسها وصلت للنتيجة المرعبة المترتبة على بيع المواطنين لاراضيهم تحت وطأة الاغراء المالي بواسطة المضاربين، وتلك النتيجة هي ان يتحول المواطنون من ملاك إلى أجراء، فلماذا لم تجد تلك المخاوف، التي اقلقت حتى السلطات الاستعمارية، طريقها إلى قلوب قادة المؤتمر الوطني الذين يستميتون الآن في الدفاع عن قانون 2005م الذي اباح المضاربة في أراضي المشروع؟!!!.
ليس لنا ان نندهش، فهناك حقيقة واحدة ناصعة إذا ما تأملنا فيما حولنا، وهي إن الذي كان يمثل "تخوفاً" للسلطات الاستعمارية سابقاً، يمثل اليوم "حُلماً" عزيزاً للرأسمالية الاسلامية الطفيلية. بالقطع، نحتاج للعودة لاجل التفصيل في ذلك مستقبلاً. وسنكون على وعدنا، إن شاء الله.
(*) جريدة الأيام 15 اغسطس 2010م.