العودة الى الوطن: ومن منا لايريدها اليوم قبل الغد … بقلم: طلحة جبريل
talha@talhamusa.com
تلقيت رسالة من أحد الأصدقاء، يطرح فيها مسألة ربما تبدو للوهلة الاولى بانها ذات طابع شخصي، لكنها قطعاً ليست كذلك. أنا على يقين أنها تؤرق عدد ليس هيناً من السودانيين في الشتات، أي اولئك الذين نصطلح عليهم " المغتربون" والداعي لكم بالخير احدهم. ولأنني لم استأذن صاحب الرسالة في نشرها، فإنني سأكتفي بتلخيص أهم الافكار التي وردت فيها، وتعقيبي عليها. لكن قبل ان أتطرق الى محتوى الرسالة، لابد من الإشارة الى انه يمكن تقسيم سودانيي الشتات الى خمس فئات:
الفئة الأكبر والتي راحت تتقلص في السنوات الأخيرة، هم السودانيون الذين يعيشون في دول الخليج، وفي بعض الدول العربية مثل مصر وليبيا.
الفئة الثانية السودانيون الذين يعيشون في اوربا، وهي هجرة كانت سهلة في الستينات والسبعينات وحتى منتصف الثمانينات، لكنها لم تعد متاحة الآن إلا لمن يطلبون "اللجوء السياسي" اولئك الذين عن حق أو إدعاء، يبرهنون على أنهم تعرضوا للتعسف والمضايقة في الوطن.
الفئة الثالثة السودانيون الذين اختاروا الهجرة الى امريكا وكندا وفئة محدودة منهم الى بعض دول امريكا اللاتينية.
والفئة الرابعة، السودانيون الذين اختاروا استراليا وبعض الدول الآسيوية.
اما الفئة الخامسة، فاولئك الذين اتجهوا جنوباً نحو بعض الدول الافريقية، مثل الذين اختاروا جنوب افريقيا مثلاً.
المؤكد أن ظروف كل فئة من هذه الفئات لا تتشابه، بل احياناً تختلف جذرياً، على سبيل المثال السودانيون الذين اختاروا امريكا أو اوربا واستراليا، وجدوا انفسهم أمام خيار واضح وهو الاندماج في هذه المجمتعات، وهي مجتمعات بحكم قوانينها العصرية المتطورة تتيح لهم الاندماج لهم ولأبنائهم بيسر.
في حين على الجانب الآخر يوجد سودانيو الخليج الذين أفنوا زهرة شبابهم في تطوير وبناء تلك المجتمععات الناهضة، لكنهم يواجهون وضعاً تمييزياً صعباً، الى درجة أن ليس لهم الحق في تعليم ابنائهم في هذه الدول إلا بصعوبة شديدة.
السوداني له تركيبة عاطفية، بسبب طبقات وترسبات من تاريخ طويل في علاقة الإنسان بالأرض وظروف التنشئة في بيئة تعتمد على العائلات الممتدة. لذلك دائماً يشعر السوداني في دواخله أنه خلية من خلايا مجتمع منصهر في تكوينات صغيرة لاتنشط أو تنتعش إلا داخل مجتمعه الأصلي. وهو جزء من هذا المجتمع المتساكن والمندمج والمترابط، لا يحس بالسعادة بمعناها العميق إلا إذا كان وسط " الأهل والعشيرة".
من هنا يجب أن نفهم لماذا يهاجر السوداني وهو يفكر في العودة. هذه العودة في لاوعيه يعتقد أنها لابد أن تحدث ذات يوم الى الوطن إذا أنصلح حاله، يظل يحلم بذلك سواء تحقق الحلم أو لم يتحقق. إذ ان فكرة " العودة" مركزية في تفكيره ووجدانه، وفي اللاشعور. لذلك كثيراً ما يشغل بال السودانيين تشيد" بيت" في الوطن، علماً بانه وبحسابات مادية ليست عملية منطقية لأن الفترة التي يمضيها كل مغترب في هذا " البيت" هي فقط جزء يسير من خريف العمر.
لست حالة استثنائية، مع اختلاف في الظروف، أزيد من ثلاثة عقود خارج الوطن، ونحن في انتظار "فجر الديمقراطية" الذي لم ينبلج.
فكرت كثيراً في البحث عن" منفذ" للعودة، خاصة بعد أن بدا لي أن العمل في الصحافة داخل الوطن، وهي مهنتي التي لا أعرف سواها، مسألة تكتنفها صعوبات وتعقيدات. وبعد اتصالات ولقاءات، وجدت مشروعاً جذاباً، يتوافق تماماً مع رؤيتي للامور. ألخص لكم الأمر كالتالي:
صديقة اوربية،تعرفنا على بعضنا بعضاً منذ سنوات عندما كانت تعمل في مجال الصحافة حيث التقينا عدة مرات ونحن نغطي أحداثاً ساخنة في القارة الافريقية، انتقلت منذ سنوات الى مقر الاتحاد الاوربي في بروكسيل مستشارة لها رأي نافذ في مجال تقديم المساعدات للدول الافريقية خاصة تلك التي عانت أو تعاني نزاعات وحروب أهلية. طرحت عليها الفكرة وانا بعد في امريكا، حيث التقينا في مؤتمر بحث طرق تقديم برامج تعليمية وتوعية للاجئين الافارقة عن طريق إنشاء إذاعات تتحدث بلغة هؤلاء اللاجئين. كانت الفكرة أن الاذاعة هي أفضل وسيلة للتواصل مع الأميين، وهو حال معظم اللاجئين الافارقة، لان اللاجئين لا يقرأون وبالتالي الكتاب والصحيفة مستبعد، ولأن تزويدهم بأجهزة تلفزيون غير متاح نظراً لارتفاع كلفتها، ولايمكن بالطبع الحديث عن الحواسيب والانترنيت.
في ذلك اللقاء طرحت على الصديقة الأوربية فكرة مؤداها، أن السودان الشمالي بعد استفتاء الانفصال في يناير المقبل، ربما يحتاج الى الكثير من الجهد لتطوير مرافقه، وسيكون أمراً مقدراً إذا ساعد الاتحاد الاوربي في تنفيذ برامج دعم لتحديث مرافق الخدمات، في مجالات الصحة والتعليم والسكن وتوفير المياه العذبة واستصلاح الاراضي الزراعية، وإنشاء تعاونيات إنتاجية خاصة للمرأة الريفية، وأن يمول الاتحاد الاوربي برنامج استقطاب خبرات سودانية توجد في الخارج من اجل الانخراط في هذا المشروع الطموح. وأن يتولى البرنامج المقترح تسديد الرواتب نفسها التي تتقاضاها هذه الكفاءات في الخارج، ويطلب منهم البقاء في السودان لمدة سنة مثلا أو سنتين بعقد عمل واضح ومقنن. وقدمت لها مثالاً على ذلك، إمكانية دعوة أطباء أكفاء أو اساتذة جامعات مرموقين أو مهندسي معلوميات لهم خبرات، من اوربا وامريكا واستراليا ودول الخليج على سبيل المثال لا الحصر، للإقامة في السودان لمدة سنة أو سنتين بنفس الراتب والامتيازات، ويتم توزيعهم على المرافق الخدماتية التي تتلائم ومؤهلاتهم العلمية، خاصة في الأقاليم والأرياف، مع تمويل شراء جميع المعدات التي يحتاجونها.
طلبت الصديقة ورقة مكتوبة، وفعلاً كتبت لها الورقة. وذات يوم وقبل بضعة اسبايع من مغادرتي واشنطن، فوجئت بها ترسل لي رسالة تقول فيها إن المشروع تم قبوله، وأن علي الاستعداد للعمل فيها في وظيفة متقدمة. لكنها أشارت الى أن المشروع يصطدم بعقبة كأداء، وهي أن السلطات السودانية لا تسمح بارسال اية مساعدات من هذا النوع إلا عبر القنوات الحكومية، وهي تخشى من أن دخول البرنامج في المتاهات البروقراطية ربما سيؤي الى إجهاضه، خاصة ان دول الاتحاد الاوربي وبسبب العقوبات ضد بلادنا قد تعترض على مرور المساعدات المالية عبر القنوات الحكومية، وطلبت مساعدتها في الأمر.
كان رأيي أن هذه المساعدة لا يمكن إلا أن تكون سياسية، لأن القرار المطلوب سيكون قراراً سياسياً، ومواقفي السياسية لا تتيح البتة تقديم مساعدة في هذا الجانب، لكن رجوتها أن تواصل مساعيها فربما نجد منفذا لتطبيق البرنامج. وهي تواصل الآن المساعي، وانا متعلق ببعض الأمل.
أعود الآن الى رسالة الصديق، والتي جاءت في معرض تعقيبه على رغبتي التي ابلغت بها جولي صالح في العودة الى السودان في مقالي السابق. تشجع رسالة الصديق على سرعة العودة، ويقول في الرسالة" افهم صعوبة اتخاذ قرار كهذا، أفهم انك لا تملك بيتاً في السودان ،أفهم تخوفك من وضع الابناء والتفكير في ايجاد مدارس وجامعات مناسبة لهم، افهم حساسيتك من أوضاع السودان وضيق هامش الحريات ... وحبك للعمل في أجواء ديمقراطية، لكن دعني احرضك مرة اخري وادعوك للمخاطرة والمجازفة في اتخاذ قرار العودة الي الوطن، لعل السؤال المحوري لقرار كهذا متي وكيف ولماذا".ويعتقد الصديق ان فرص العمل متاحة سواء في الصحافة أو الجامعات اوالتفرغ للتأليف والنشر أو العمل في وظيفة اعلامية في واحدة من المؤسسات المالية والاقتصادية في البلاد. اقول للصديق العزيز، أن كل الأشياء التي ذكرها لا تشغل بالي، لا السكن او العمل أو دراسة الابناء.
موضوع السكن لا يشغلني، إذ لا أحتاج إلا الى "عنقريب" تحت سماء اي حوش في وطننا. وهذا أمر متاح. العمل لا يهمني لأن من السهل أن أسد الرمق بأقل دخل، والأبناء كانوا من المحظوظين لأن أهلهم المغاربة منحوهم الجنسية، وهم درسوا على حسابهم، ومن لا يزال في طور الدراسة يدرس على نفقة دافع الضرائب المغربي.
المشكلة هي ان تكون هذه العودة فيها فائدة للناس الطيبين الذين حملنا همهم ثلاثة عقود في غربة اضطرراية. هذه هي القضية.
ولا أزيد.
عن " الأحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1