أيها النهر العظيم كن رؤوفاً باهلنا وقراهم … بقلم: طلحة جبريل
Talha@talhamusa.com
اتلقى استفساراً من كثيرين. لماذا لا تقول شيئاً عن هذا الذي يشغل السودان وأهله، اي استفتاء يناير. الاستفتاء الذي سيقرر فيه الجنوبيون مصيرهم. جوابي لا يتغير، قلت ذلك عام 1982، في كلام موثق ومكتوب. كررته كثيراً. مثل النجار الذي عليه ان يضرب رأس المسمار ضربات متكررة حتى ينغرز. لذلك اقول لجميع الذين يعتقدون أن رأياً في هذا المنعطف الحاسم، قد ينفع ويفيد، ويظنون أن اجتهاداً في هذا الظرف، ربما يوضح ويشرح، ما اعتقده قلته منذ سنوات . صحيح بدأت حياتي نجاراً يعرف أن ضرب رأس المسمار يجعله ينغرز، لكن النجارة شيء والسياسة شيء آخر. أنتقل الى بعض الخواطر حول أمور وجدت بينها رابط. قد لا يبدو في السطور ، لكنه بين وفواصلها ونقاطها.
***
اعلنت نقابات العاملين في هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) موعدا لاضراب شامل، احتجاجا على تغييرات مقترحة في نظام معاشات التقاعد في المؤسسة. وتحدد مواعد الاضراب في الخامس من اكتوبر لتتزامن مع المؤتمر السنوي لحزب المحافظين ، وجاءت هذه التطورات بعد مباحثات بين النقابات وبي بي سي بشان خطط خفض العجز في صندوق معاشات العاملين بالمؤسسة. و سيكون على موظفي بي بي سي طبقاً لقرارات ادارة المؤسسة، العمل حتى سن 65 عاما وليس 60 عاما كما هو الان. كما سيتعين على الموظف ان يدفع قسطاً اكبر من راتبه في صندوق التقاعد. لا أود الخوض في تفاصيل الخلاف بين مؤسسة بي بي سي والعاملين بها، لست طرفاً ولستم معنيين. لكن ما لفت انتباهي أن الجانبين يتحاوران علناً، تبث الاذاعات والقنوات التلفزيونية التي تتبع المؤسسة ، كل الأمور في منتهى الوضوح الشفافية. اين نحن من هذا الاسلوب في الخلاف؟ ونحن، نعم نحن. هل نستطيع التفكير، مجرد التفكير، في " حق الاضراب". بلد ليس فيه أضراب لايمكن الحديث فيه عن حرية رأي أو تعبير ، بالاحري عن ديمقراطية.
***
لغط كثيف اثير ومايزال حول علاقات السودان بمصر، ومصر بالسودان، ودون دخول في تفاصيل التعقيدات الحالية، لابد من الاقرار بان الوضع الراهن هو نتيجة تراكمات وحساسيات لا مفر من الاقرار بها، لانه في حالة مصر والسودان تتحالف الجغرافيا والتاريخ، وعوض أن يتيح ذلك حالة مثالية، نلاحظ وبوضوح توعك هذه العلاقة. كان الشعار الذي رفعته الحركة الوطنية السودانية، ابان فورانها واندفاعها النضالي من اجل استقلال السودان، هو "وحدة شعبي وادي النيل ضد المستعمر" ولعلها - اي الحركة الوطنية السودانية - كانت صادقة ومخلصة لشعارها، ولكن بالمقابل كان قادة الاحزاب المصرية آنذاك يطرحون المسألة وفق تصور مختلف. كان السودان بالنسبة لهم هو جزء من مصر يمكن ادخاله كفقرة للمساومة مع بريطانيا اذا اقتضى الحال. واستمر الوضع هكذا، عقوداً، وحتى بعد استقلال السودان، بحث السودانيون كثيرا عن تعامل مختلف، لكن ظلت الاشياء مبهمة تلفها أزمة الثقة بين الحين والآخر. كان السودانيون وما يزالون يضجون بالشكوى، من ان الاشقاء في مصر لا يعرفون الكثير عن السودان، عكس ما هو عليه الوضع بالنسبة للسودانيين حتى قيل مرة، ان المتعلم السوداني يذهب بحب استطلاعه لما يجري في مصر الى حد معرفة اسم محافظ الدقهلية، في حين ان الاشقاء هناك يخلطون أحيانا بين اسم وزير الخارجية في عهد عبود، وبين وزير الخارجية الحالي. وكثيرا ما امتعض السودانيون، من تلك الصورة الراسخة في ذهن رجل الشارع المصري، والتي لا ترى في السوداني، سوى "عم عثمان" ذلك الرجل الطيب الذي يعمل بواباً لا يعرف من دنياه شيئا، يظل جالسا على كرسيه الخشبي منذ طلوع الشمس حتى غروبها أمام مدخل العمارة.
***
لندن، مدينة في الذاكرة منذ سنوات بعيدة. كنا خلال الدراسة في المرحلة الوسطى في مدينتنا الصغيرة في شمال السودان نقبل على حصص اللغة الإنجليزية بشغف عارم، كان مدرسة اللغة الإنجليزية يقول لنا:"لندن مدينة كبيرة والخرطوم مدينة صغيرة،" كيف ذلك؟ لم نكن نعرف. جاء الجواب بعد سنوات طويلة.. ذات صباح وجدت نفسي في مطار هيثرو هانذا في العاصمة التي طالت جيوشها واساطيلها كل الدنيا. هؤلاء، هم الانجليز اذن، أناس عاديون مثل كل البشر، تميزهم بسحنتهم الأوربية وانضباطهم وحرصهم على عملهم، وتأدبهم في معاملة الآخرين ولكن، عدا ذلك أناس كسائر البشر، لذا لم أفهم لماذا كانوا قساة مع الشعوب التي استعمروها.
نزلت لندن يومها ، وكان ذلك قبل عقود، وفي جيبي ستة جنيهات استرلينية.. فقط لا غير. ولأنني لم أكن أعرف كيفية استعمال قطار الانفاق (الاندر غراوند) إمعاء لندن المتحركة، فضلت سيارة الاجرة. نصحني بعض الاصدقاء بالسكن في قلب لندن، في شارع إكسفورد استريت، وحبذت الفكرة لأنني كنت اتطلع للتجول في جامعة اكسفورد التي سمعت عنها، كثيرا، ظنا مني ان الجامعة توجد في ذلك الشارع. قلت لسائق الاجرة، اكسفورد استريت، وحمدت الله فيما بعد انني لم اقل كمبردج استريت. تطوع السائق وحمل الحقيبة بهمة واضحة، ووضعها في السيارة، ، ولعله توسم خيرا في الملامح العربية وهو قطعا لايعرف قصة الجنيهات الستة. حين انطلقت السيارة، تأملت وجه الرجل في المرأة الامامية.وتذكرت حكاية الوزير السوداني الذي جاء مع فجر الاستقلال الى لندن، وحين أراد أحد الحمالين في مطار هيثرو حمل حقائبه، رفض الوزير باصرار وقال للحمال"كيف يجوز هذا بالامس كنتم تحكمون بلادنا واليوم تحملون حقائبنا..هذا لايصح ليس من اخلاقنا اهانة الناس". وحتى يموت صديقي مصطفى البطل بغيظه، كان ذلك الوزير من عائلة " ابوسن".في الطريق الى "اكسفورد استريت" رحت نتأمل المدينة الكبيرة وكان حالنا كحال السيدة هاريس في كتاب بول كليغو "ازهار للسيدة هاريس" ، إذ كانت خادمة انجليزية متواضعة الحال، ابتسم لها اليانصيب،،فقررت أن تشتري فستانا فاخرا من أرقى محلات الازياء الباريسية، فنزلت باريس والدهشة تكاد تقتلها من جمال المدينة. أما أنا فقد تجمعت كل دهشة العالم بغتة فوق رأسي، والبصر يكاد يزيغ من فرط سرعة التحول ذات اليمين وذات اليسار. حين اقتربت سيارة الاجرة من "اكسفورد استريت" الذي يعج بكل شيء وناسه تهرول صعودا وهبوطا في سباق مع الزمن، رانت مني التفاتة الى عداد السيارة فوجدته قد تجاوز رقم 13.. تجمدت مرتين، مرة بسبب الرقم، وأخرى بسبب ضباب لندن وبردها. طلبت من السائق البحث عن فندق متواضع، وكانت كلمة "متواضع" كافية ليفهم مع أي نوع من الناس رماه حظه. وصلت الفندق، وبعد استكمال الاجراءات طلبت من الاستقبالات تزويدي باجرة السائق إلى أن يتم تسوية الحساب في وقت لاحق. وكان القوم كرماء أو هكذا اعتقدت.
***
كأن السودان لا تنقصه إلا هذه الكارثة الطبيعية، اي كارثة الفيضانات. مرة اخر نسمع بالامطار التي تهطل وتهطل، و"النيل الذي يرتفع منسوبه"، وهي العبارة المخففةالتي تعني الفيضانات. منذ سنوات والمآسي تترى تباعا على وطنا. المحن تصقل الشعوب، لكن محن السودان كانت اكثر مما يجب بيد اننا امام ارادة الله ومشيئته لانملك دفعا .
عام 1946 كان وما يزال من الاعوام التي يؤرخ بها السودانيون للاحداث يقال "قبل عام الفيضانات"، أو" بعد عام الفيضانات". يحكي لنا اهلنا الذين عايشوا ذلك الفيضان انهم ذات مساء وبعد ان هبط الليل على قريتنا افاقوا على امواج النيل وهي تكتسح الحقول وتصل الى البيوت الطينية الواطئة التي بدأت تنهار تباعا، فقد الناس امتعتهم ومدخراتهم على قلتها. وخيم حزن ثقيل على القرى التي تقع على ضفاف النيل.
أيها النهر العظيم، كن رحيماً بأهلنا وقرانا على ضفافك. لا انت ستتركهم للعراء، ولا هم سينزحون بعيداً عن ضفتيك.
ايها النهر العظيم أنت حياتنا، حيث اعتاد اهلنا منك كل الخير. هم اختاروا أن يبقوا الى جوارك ، وانت اخترت أن تحمل اليهم كل الخير والكثير من النماء. عندما يضيق صدرك، كن رؤوفاً بهم. هذا ما نطلبه منك.