حزبا الامة والاتحادي الديمقراطي وكلام واشنطن … بقلم: طلحة جبريل

 


 

طلحة جبريل
5 October, 2010

 


Talha@talhamusa.com

ثمة ضجة حالياً بشأن تصريحات أدلى بها مسؤول حكومي حول حزبي الامة والاتحادي الديمقراطي. أميل الى تصديق ما نسب الى المسؤول الحكومي لسببين، الاول منطقي جداً ، وهو ان نفياً لم يصدر حول ما قيل، وكان هناك من سمع، ثم كان هناك من كتب، وموقع الرجل كان يحتم النفي إذا لم يكن ما نسب اليه صحيحاً أو على الأقل توضيح ما قيل، إذا افترضنا ان من سمع لم يستوعب ما قيل، أو أن من كتب لم يكن دقيقاً.
السبب الثاني له علاقة بظروف المكان وطبيعة اللقاءات التي تتم وما يقال فيه. حضرت أكثر من لقاء مع مسؤولين في النظام، زاروا واشنطن وتحدثوا من "دار السفير" ولاحظت وقتها ان " كلام واشنطن" عادة ما يكون مختلفاً حول ما يقال في الخرطوم ، ربما لان المستمعين، من شريحة مختلفة، لذلك يكون الخطاب مختلفاً. كنت دائماً من أكثر المتحمسين، عندما كنت في العاصمة الامريكية، للاستماع للجميع وحضور لقاءات الجميع والتحاور مع الجميع، وذلك من وجهة نظري افضل كثيراً من اسلوب " الكرسي الفارغ".و مجتمع السودانيين في واشنطن، يعرفون وجهة نظري هذه، وانا أقدر لهم أنها كانت تجد منهم تفهماً، ولو ان قلة قليلة لم تكن ترى ذلك. لذلك ارجح أن الكلام قيل، وكان هناك من استمع، وبالتالي لابد ان يكون هناك من هو على استعداد ليكتب، وقد فعل.
كان يلح دائماً على خاطري الكتابة عن حزبي الامة والاتحادي الديمقراطي، والدور الذي لعبه هذان الحزبان في حياتنا السياسية، وفي تاريخ هذا السودان. بل كنت في بعض الاحيان اقول لنفسي وهناك جدوى من القول، لماذا كتبت عن الاسلاميين والشيوعيين والقوميين والجمهوريين والحركة الشعبية، ولم اكتب عن هذين الحزبين، ودورهما ليس هيناً في السياسة السودانية. على الأقل محاولة القيام بقراءة في التاريخ ، خاصة أن رأيي بالنسبة للتاريخ كان وما يزال ، هو ان قضيتنا معه، اي التاريخ،  ليس تمجيده او تسفيهه، بل فهمه. وأن نعود إلى التاريخ لكي نعرف عنه وليس لكي نتمسك به.
الكتابة عن الحزبين لها أكثر من مبرر ، وساضع جانباً دورهما وتاريخهما، وتاثيرهما وكل ذلك، لكن الكتابة بالنسبة لي على الاقل لها مبررات شخصية.
لا ظن أنني ساضيف معلومة جديدة، إذا قلت ان أسرتي بالمعنى المتداول لمفهوم الاسر في المجتمع السوداني، أي الاسرة الممتدة، أغلبها من " الاتحاديين" ، ولأن الحزب "الوطني الاتحادي" ما قبل استقلال السودان، عرف الكثير من الانقسامات والاندماجات، أجد أن لفظة " اتحاديين" هي الأكثر دقة.
من جهة أخرى ، وهذه هي المفارقة، لم اتعرف على قادة هذا الحزب عن قرب، سوى لقاءات عابرة في هذه العاصمة او تلك، لكن أكثر الذين التقيتهم وتحاورت معهم وربطتني معم صلة متينة كانوا من قادة حزب الامة.
واستأذن الدكتورة مريم الصادق المهدي، في أن أنقل خلاصة حوار دار بيننا في " نادي الصحافة الوطني" في واشنطن في يوليو 2007، وأشهد الله انه كان حواراً ممتعاً ومفيداً ومتشعباً، عندما سألتني في ختام ذلك الحوار وبكل جدية " لماذا لا تنضم الى حزب الامة"، كان ردي مقتضباً " أفضل أن ابقى مستقلاً". ولم اسالها مطلقاً، لماذا طرحت ذلك السؤال المدهش.
لكن علي القول بوضوح ، إن هذه الاستقلالية، هي التي تجعلني أقول متوخياً الموضوعية، إن الحزبين لعباً دوراً ليس هيناً في تاريخ وطننا، وارتكبا أخطاء لا يمكن أن يرتكبها حتى الهواة في مجال العمل السياسي.
سأكتفي بمسالتين فقط.
لماذا تنازل الصادق المهدي عن صفة "الرئيس الشرعي" للبلاد، وهو رئيس الحكومة المنتخب قولاً فعلاً في آخر انتخابات تعددية حقيقية جرت في وطننا. بالطبع لا نريد منه ان يكون " سلفادرو اللندي" ، لكن على الأقل " علي بوتو".
ثم لماذا نسى محمد عثمان الميرغني شعار " كنس النظام" وعاد الى البلاد من بوابة العزاء ، ولم يتحدث حتى الآن عن كيف انتقلت الامور من النقيض الى النقيض.
اكتفي بذلك ولا أزيد.
إذا عدنا الى التاريخ من أجل " الفهم" وليس " التمجيد" أو "التسفيه" ، سنلاحظ ان " الجماهير المسيسة" تحلقت ومنذ الاربعينات ملتفة حول الحزبين، وكانت هذه الجماهير ومنذ لحظة الاستقلال الأولى ضمن صفوف "الاتحاديين"  أو "الامة" ، لكن يجب الاقرار ان الشرائح المتعلمة والواعية من هذه الجماهير  هاجرت من الحزبين  موجة تلو موجة إزاء ما اعتبرته "ديكتاتورية" قيادة ، عملت على تلقين الجماهير الولاء المطلق لهذه القيادة،  باعتبار أن "وطنية القادة" تحتم ذلك. لكن يجب القول ايضاً إن مشكلة هؤلاء الخارجين من الحزبين كان سندهم في الشارع إزاء شعبية الحزبين ضئيلاً ، لذلك كان اعتمادهم على الأنظمة الشمولية كبيراً، وهو ما وضعهم في حالة ضعف واضح تجاه الجماهير.
الإشكال الحقيقي في السياسة السودانية ، أن شريحة المثقفين السودانيينن وهم عموماً أصحاب نفس قصير مع العمل الجماهيري، بدلاً من تطوير البنيات التنظيمية في الحزبين، في ما يعرف بالتغيير من الداخل، اتجهوا الى التنظميات الايديلوجية، وليتهم بقوا هناك يؤمنون بالتعددية ودولة المؤسسات، لكن كان هدفهم سواء اتجهوا يميناً أو يساراً، في " حل جذري" يكمن في تحطيم دولة المؤسسات الناشئة، ووجدوا ان هناك إداة جاهزة لتنفيذ المطلوب لأسباب متباينة لكنها تصب في النهاية في الهدف نفسه. وكانت الشعارات براقة والمصطلحات جذابة، والقول له رنين، ومؤداه أن " ثورة" قد اندلعت لاصلاح حال البلاد والعباد.
وأظن ان سبب ذلك هو أن المثقف السوداني، استوعب  عقل المدرسة الانجليزية  التجريبية التي تربي في كنفها، لكنه لم يستوعب روحها، وأعجب في الخمسينات وحتى الثمانينات "بحرية الانجليز واقتصادهم" لكنه لم يدرك ان كل ذلك كان نتيجة لمخاض طويل، وهؤلاء المثقفون ربما لم يدركوا انه توجد في اوربا ايضاً مدرستان تختلفان كلياً عن المدرسة الانجليزية التجريبة، وهي المدرسة الالمانية التي تعتمد على "الفلسلفة" والمدرسة الفرنسية التي اعتبرت ان " الثقافة والفن" هو الذي يحرك ويوجه المجتمع.
ثم حدث لنا في السودان أمر ليس ايجابياً على الاطلاق ، تضرر منه الحزبان الكبيران ضرراً بليغاً ، وهو هيمنة الماضي على الحاضر، مما جعل "السابقون والقياديون والأبطال" خارج أي نقد. والاشكال أن " الاديولوجيين" جهة اليمين أو اليسار بدلاً من ممارسة النقد، راحوا يكيلون التجريح. كل هذا أدى الى أن "تجديد النخب" داخل الحزبين بقى له معنى واحد: من لا يعجبه الوضع القائم أرض الله واسعة.
لكن، ولكن هنا من الأهمية بمكان، اي الاستدراك حتى يبقى التحليل منطقياً، عانى الحزبان من مشكلتين،الأولى ان سنوات الحكم القصيرة خلال ثلاث تجارب ديمقراطية، لم تترك لهما، فرصة بناء دولة مؤسسات حقيقية، الى الحد أن دخول الوزارة اصبح هو المقياس لمدى " كفاءة أو شعبية" هذا أو ذاك. ولعلهما لم يدركا أن الأوطان لا يبنيها رجل واحد ولا حفنة رجال، بل تبنيها البرامج والرؤى، ثم الواقعية في تنفيذ هذه البرامج والرؤى. لذلك وطوال فترات التعددية السياسية، لم تشهد بلادنا سوى القليل جداً من التحسن الاجتماعي أو نشر الديمقراطية. والأمر الثاني ان الانقسامات داخل احزابنا اقعدتها وأقعدت معها الديمقراطية. ثم جاء الحاضر بكل تراكماته وظروفه. فماذا حدث؟
راهن الحزبان رهاناً غير مفهوم، وغير منطقي، وغير سياسي، على " الحركة الشعبية" ، حيث اعتقدا ان دور " الحركة الشعبية" بل وقدراتها، يمكن أن تؤدي الى "فركشة النظام" واسقاط مرشحه، ثم بعد ذلك يدخل مرشحيهما الى حلبة السباق، وفي ظنهما أن احدهما سيفوز. كان ذلك تبسيطاً للامور بلامنطق، وتبديداً للوقت بلا معنى، وتشتيتاً للجهد بلا طائل.
بعد ذلك ماذا حدث؟
انسحبت " الحركة الشعبية" من السباق الرئاسي، ولم تترك للحزبين من خيار سوى الانسحاب، وليتهما لم يفعلا.
وماذا كان التبرير؟
قيل يومئذ إن الانسحاب كان لمنع إضفاء"غطاء شرعي على الانتخابات الرئاسية". وفي هذه الحالة هناك افتراضان، أما ان الحزبين لم يكن يدركا " حدود وقواعد اللعبة"  او انهما كان يدركان ذلك وقاما بمحاولة لاصلاح الاعوجاج، كما قيل. وفي الحالتين لن تكون الخلاصة في صالحهما لسوء الحظ.
الآن ما هذا الذي يحدث؟
كلام جارح منسوب الى مسؤول حكومي. ورد فعل متوقع من قيادة الحزبين. سأقول جملة واحدة حول " ما قيل في واشنطن" . هل يعقل أن يقول مسؤول حكومي بانه كان يدفع في الليل ويفاجأ بما يقال في النهار. لماذا تدفع اصلاً في الليل؟
طالما انك قبلت على نفسك ان تدفع ليلاً ، توقع إذن ان تسمع ما لا يرضيك نهاراً؟
في هذه الحالة نصبح كلنا مثل القمر، له جانب مظلم.
أختم لأقول، ليس من مصلحة بلادنا ونحن على أبوب منعطف حاسم في يناير المقبل، الاساءة لحزبين شكلا جزء لا يستهان به من تراثنا السياسي.
هذا سلوك تنعدم فيه المروءة.
الماضي يحاسب لكنه قطعاً لايعاقب.
 عن "الاحداث"

***

آخر مقال لماذا ؟ أضاءة
رجح لي أن  أتوقف عن الكتابة، وبالتالي الابتعاد عن ما يجري لنا وما يجري حولنا في السودان. توقف وجدت أنه يعرض نفسه ثم يطرح نفسه ثم يفرض نفسه. في بعض الأحيان يكون الصمت ابلغ من الكلام. لقد اخترت الصمت.


 

 

آراء