يبدو أن الراحل الشريف زين العابدين الهندي قد عاش حياتين، حياة صوفي معذب بما عشق ومن يعشق، وحياة سياسي متمرس على التعامل بشفافية تضفي عليه صفة المتمرد. ولا يغيب عن الذهن أن التأسيس لكتابة تناول مناقب وأراء وأفكار الشريف زين العابدين الهندي وخلاصة التأثير الذي خلفه في الحياة السياسية تتطلب الانتقال من حالة المـتأمل الحزين إلى خانة المتابع الدقيق لكل التفاصيل والأساطير والأحلام والأوهام التي تملأ الحياة السياسية لتيارات الحركة الاتحادية بكافة مسمياتها ومراحلها. ولعل المهم هنا الإقرار بأن الشريف زين العابدين الهندي في وسط كل البحار الاتحادية التي تئن فيها الرياح قد عرف كيف يصنع المركب والمجداف، وقطعا كان هو الملاح الذي قاد سفينته إلى بر جعلها الآن (رقما) في حياة أهل السودان. وهذا دون شك نجاح باهر بأي مقياس تنظر إليه، ويتعين علينا تجييره للحساب الشخصي للشريف زين العابدين الهندي، إذ لا يخلو الأمر من تعقيد فالحركة الاتحادية منذ نشأتها في أربعينيات القرن الماضي قد قادت بصورة مباشرة طلائع الوعي في البلاد، وعبرت في كثير من الأحيان عن بروز الطبقة الوسطى صمام الأمان في التجارب الديمقراطية التي عرفها العالم. وقياس النجاح هنا مرده صعوبة قيادة حركة بهذه المواصفات، ذلك أن عناصر التوحد والقوة هي نفسها عناصر التشتت والضعف، بغض النظر عن صدق أو سوء النوايا عند الجميع. وحسب شهادة الميلاد فقد ولد زين العابدين في بيت ديني كبير يحتل المرتبة الثالثة من حيث عدد المريدين في السودان. لكن والده الشريف يوسف الهندي يعد من أقرب أهل السودان صلة رحم بالرسول صلى الله وعليه وسلم. أما والدته التاية بت محمد خير الشايقية من مقاشي، فهي الأخرى لا تقل شأنا، بحسبان أن أهل مقاشي يضعون أنفسهم في قمة السلم الاجتماعي لتصنيفات الشايقية في شمال السودان. الشاهد من تفاصيل شهادة الميلاد أن الشريف زين العابدين الهندي ركل هذا الوضع الأسري المميز، ونشأ نشأة عادية أكسبته صفات التواضع والزهد والحياء الشديد والاحترام (المبالغ فيه) للأخرين بصرف عن معرفته السابقة الشخص أو الوقت الذي التقاه فيه أو سبب الزيارة. والشريف زين العابدين هو الزعيم السياسي الوحيد في السودان الذي يستقبله زواره مباشرة، فليس في مقر إقامته إينما كانت بواب يحجر الناس ولا سكرتير يلقاك في المقدمة ولا مكتب تنفيذي ينظم المواعيد ويضع الأجندة، فالدخول حسب أولوية الوصول. ولعل صفة المتصوف هي الطاغية هنا، لأن الشريف دائما ما يفلح في استقبال زواره ويدبيرهم أحسن التدبير. والجانب الآخر المرتبط بهذا التميز الاجتماعي، يتمثل في أن الشريف زين العابدين الهندي السياسي ليس من قبيلة القادة الاتحاديين الذين لمعوا بعد نهاية النظام المايوي في أبريل 1985، بل ينتمي لجيل العمالقة الذين قادوا معركة الاستقلال الذي أرادوه أبيضا مثل (صحن الصيني لا شق ولا طق). وفقد الشريف زين العابدين الهندي والده وقد تجاوز عمره العاشرة بقليل، وعاش في كنف أهل والدته. ودخل في مدرسة خاله أحمد خير الذهن المتوقد والبصيرة النافذة. وأحمد خير صاحب مدرسة ذات طابع فريد، فهو رجل مؤتمر الخريجين وريحانة ندوة مدني الأدبية وخصم الطائفية اللدود ومؤلف كتاب (كفاح جيل) الذي روى قصة كفاح الجيل الذي قاد السودان إلى الاستقلال. ومع ذلك فقد فجع الأستاذ أحمد خير الجميع، عندما أصبح رجل النظام العسكري الذي اغتال الديمقراطية بقياده الفريق إبراهيم عبود. لكن هذه الفجيعة قد تصبح غير مبررة عندما نطالع شهادة الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري الذي قال (أحمد خير رجل لا غبار عليه، وتعاونه مع العساكر سببه خلافه معنا، وليس ميله إليهم). ونسوق هذه الراوية لأن هناك من يعتقد أن الشريف زين العابدين سار على نهج خاله أحمد خير عندما قاد مبادرة الحوار الشعبي الشامل. ولهؤلاء نعيد وصف الشريف في الجمعية التأسيسة لتجربة الديمقراطية الثالثة، على الرغم من أنه كان الرجل الثاني في الحكومة آنذاك قال (إن الديمقراطية صارت جيفة لو شالها كلب لما وجد من يقول له جر). وفي حساب الجمع والطرح تصبح المبادرة التي طرحها وقادها الشريف زين العابدين، عمل وطني غير مسبوق أتاح الحريات وقبول الآخر، وكانت نتيجته دستور 1998م والمشاركة الوطنية المسؤولة وفقا لبرنامج العمل الوطني. على أن أهم ما يجعل هذه المبادرة متفردة، أنها لم تعرض وحدة السودان لأي امتحان. وفي شأن المبادرة لطائف وأسرار لم تعلن بعد، بعض منها يكشفه الشريف صديق إبراهيم الهندي بتأكيد أن (المبادرة استغرقت أربعة أشهر منذ طرحها وحتي إقرارها وأجيزت خلال هذه الفترة من نحو 40 لجنة حزبية في بادرة مسبوقة على مستوى العمل الحزبي أو السياسي). ويقود الحديث عن المبادرة إلى التعرض إلى صلة الشريف زين العابدين بكل من ثورة الإنقاذ والتجمع الوطني، إذ يبرر الشريف رفضه القاطع لصيغة التجمع الوطني، بأن (التكوين الأساسى للتجمع تكوين فوقي لا يحقق التمثيل الحقيقي لأرادة الأمة السودانية بأحزابها المختلفة وهيئاتها واتحاداتها العمالية). وفيما يتعلق بثورة الإنقاذ، اختار الشريف موقف الرفض للنظام والمؤمن بالديمقراطية الحقيقية ذات المنافسات الشعبية الحرة والخاضع لإرادة الأغلبية فيها. ورغم هذا الموقف الواضح ضد ثورة الإنقاذ، لم يتردد الشريف في الوقوف مع الوطن رافضا لكل المواجهات العسكرية ضده، ورفض قرار مجلس الأمن الدولي الداعي لفرض عقوبات اقتصادية على حكومة السودان، لأنها ستزيد من معاناة الشعب السوداني. وكان الشريف زين العابدين في هذا الرفض مطئمنا إلى أنه اتخذ القرار الوطني السليم بالدعوة إلى وحدة القوى المدافعة عن الثقافة العربية والإسلامية في وجه هجمة كانت تتخذ معاداة التطرف الأصولي ستارا. أما الذين أعتقدوا أن مبادرة الشريف زين العابدين مجرد محاولة للمشاركة في السلطة، فدون اعتقاد هؤلاء ابتعاد الشريف عن تبوأ أي منصب، تاركا الخيار لرفاق دربه لإكمال الشراكة. وهكذا جاءت المبادرة نداءا لكل القوى السياسية بلا عزل أو اقصاء ودعوة لكل أشكال المجتمع المدني بلا استثناء محورها تغليب لغة الحوار وقبول الرأي الآخر قبل الحديث عن اقتسام السلطة والثروة، ليبقى السودان موحدا أرضا وشعبا وليحكمه بعد ذلك من يحكمه. حصاد القول هنا إن مبادرة الشريف يستحسن النظر إليها من جهة أنها علامة فارقة في تطور الحركة السياسية في البلاد في نهايات القرن الماضي. حيث استشعر صاحبها الخطر الداهم الذي يحيط بالبلاد وسعى لجمع الشمل، ولم تكن تهويمات شاعر أو ارهاصات خيال فلسفي، والدليل باين في الطقس السياسي الذي يظلل حياتنا الآن. من الجوانب المهمة في حياة الشريف زين العابدين أنه قارئ نهم، وكاتب سلس العبارة، يحرص على تجويد اللغة، وشاعر مجيد يتعب كثيرا في صياغة (حروف ما سمعوا بيها الناس). لكن هذه الجوانب المضيئة غالبا ما تذهب ضحية لتواضع صاحبها وزهده الشديد في الأضواء. ويعود تفرد الشريف زين العابدين هذا إلى نشأته وسط ينابيع فائضة بالثقافة والفكر والمعاني من كتب ومخطوطات ووثائق وآثار مطبوعة خلفها والده الشريف يوسف الهندي ومحفوطة في خزانة الأشراف ضمن تراث البيت الكبير. وللشريف الوالد من النفائس والذخائر (مولد الأنوار)، وله من فنون المديح (كنوز الأنوار ومنابع الأسرار). وللشريف يوسف الهندي الأب مصنفات في تاريخ الغناء وأخرى حول المديح النبوي أمل أن تهتم وزارة الثقافة الاتحادية بهذه الآثار، لكي تجد طريقها للنشر. وفي هذه الأجواء المشبعة بأنفاس الصوفية والوطنية تشكلت شخصية الشريف زين العابدين. وبعد أن بلغ سن الدراسة الأولية انتقل مع جده لأمه ود خير إلى سنجة، حيث تفتحت مواهبه فى اللغة والأدب والموسيقى، ثم إنتقل إلى مدرسة بحرى الأميرية، فمدرسة الأقباط الثانوية، ثم كلية دار العلوم في جامعة القاهرة. وبعد أن نال شهادة دار العلوم وأصبح (درعميا) التحق بمعهد زراعي في أمبابة، ليقنن عشقه للنبات والخضرة بدراسة منهجية. ربما يسود تفكير فحواه أن رؤى الشريف زين العابدين بدأت بالثورة الأنسيابية، وانتهت بمبادرة الحوار الوطني الشعبي الشامل. لكن الشريف صديق إبراهيم الهندي يبدد مثل هذا التفكير، بتأكيد أن (رؤى الشريف زين العابدين انداحت منذ الستينيات عندما تقدمت الحركات الإصلاحية للحزب بمذكرة النواب الشهيرة التي كان الشريف زين العابدين أحد الذين صاغوها). ويضيف الشريف صديق (منذ تلك الفترة أتسم فكر الشريف زين العابدين بسمة التجديد والإصلاح ولم يكن له فكر تقليدي ويتخذ قراره بتأن وتؤدة وصبر شديد وقدرة فائقة على المحاورة لنفسه ولمن حوله). ويستطرد (اتسم الشريف زين العابدين بالتواضع ونكران الذات، كتب كتابا كاملا عن الحركة الوطنية والفكرية والتاريخية للبلاد والحزب وكتب عن جميع قادة الحزب ولم يتكلم بسطر واحد عن نفسه). ولا يسع المجال هنا لاستعراض مؤلفات الشريف زين العابدين السياسي صاحب الرؤية المستقلة، لكن المطالعة العابرة لمخطوطة كتابه (يسألونك عن الوحدة)، تبدو لك شخصية الشريف زين العابدين مثل سياسي تاه بين رحى ثورة مايو وشقيقتها انتفاضة أبريل. فمايو عند الشريف (نقطة تحول أساسية في تاريخ بلادنا لا زالت تعاني من آثاره حتى هذه اللحظة). ورغم أن الشريف زين العابدين ساق شواهد عديدة لتعضيد موقفه ضد انقلاب مايو، إلا أن واقع الحال يقيد أن مايو ازدهرت بفضل أعداد كبيرة من الكوادر الاتحادية ذات الوزن والتأثير الكبيرين في حياتنا السياسية، والأسماء كثيرة وللتذكير فقط: الرشيد الطاهر بكر، عز الدين السيد، الدكتور محي الدين صابر، وموسى المبارك. والسؤال هنا هل طرحت ثورة مايو البرنامج الوطني الذي جذب كل هؤلاء إليها أم ماذا حدث لكي يصبحوا من سدنتها؟. لسنا بصدد الإجابة، لكن وصفهم بالانتهازية والجري وراء المناصب إجابة لا تطابق الواقع وفيها ظلم شديد لهؤلاء الرجال وللتجربة نفسها. أما انتفاضة أبريل عند الشريف زين العابدين (فقد جاءت والحزب الاتحادي الديمقراطي في أقصى حالات ضعفه التنطيمي، وسيطر على قيادته تجار السوق والمريدين والموظفين المدجنين الذين اشتركوا في مايو). وعندما تناول فترة الديمقراطية الثالثة، قدم إحصائيات لانتخابات 1986، للتدليل عن ما سماه (التآمر على إسقاط المرشحين الاتحاديين). وانتهى إلى وصف تلك الفترة بـ (ديمقراطية العدم الثالثة). وهكذا ريط الشريف زين العابدين انقلاب مايو بكتف انتفاضة أبريل، مع أن الثانية قامت بالقضاء على الأولى. وحتى لا تبدو المسألة مختلة إن اقتصرت على وصف الشريف زين العابدين بالتائه بين ثورة مايو وخالعتها انتفاضة أبريل، نرجح أن المسألة برمتها تمثل ماسأة قوى الوسط في الحياة السودانية بأجيالها المختلفة منذ ارهاصات مؤتمر الخريجين وحتى الآن، فهذه الأجيال أدرك بعضها الإنهاك، وبعضها حد تراكم الرواسب في الدواخل من استجابته لواقع المتغيرات. ومازالت أسئلة البدايات الأولى تطرح نفسها بشدة، حيث أننا بعد نيل الاستقلال، لم نجد تفسيرا لجمود الختمية في تعاملهم مع الحزب الوطني الاتحادي. ولا نجد تيريرا لعناد الحزب الوطني الاتحادي في تعامله مع الختمية أو ضيقه في الانفتاح على الشيوعيين أو مكابرة الشيوعيين في التحالف مع الحزب الوطني الاتحادي. جميعها أسئلة تبحث عن إجابات خصوصا أن هذه القوى مجتمعة تعبر بمفاهيم تلك الأيام عن شخصية القوي الوطنبة الديمقراطية في مجتمع غير ديمقراطي متخلف متعدد السحنات والهويات. رحم الله الشريف زين العابدين الهندي، رحمة واسعة وغفر له ذنبه وأدخله فسيح جناته مع الصديقين والشهداء الأبرار الأخيار. وحسن أولئك رفيقا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).
تعليق الصورة:
الشريف زين الهندي يرضع ماعزا داخل مسكنه في منطقة الألف مسكن في القاهرة. والصورة من أرشيف أسرة الشريف الراحل.