نموذجان لدور الفرد في التاريخ: الدكتور قرنق.. و السلطان قابوس !! -2-
تحدثنا في الحلقة الأولي من هذا المقال عن الدور الإيجابي الحاسم الذي لعبه السلطان قابوس في تطوير جميع مناحي الحياة في سلطنة عمان، بل في تغيير مجري تاريخ الشعب العماني بأكمله، بما يؤكد دور الفرد في التاريخ، و يؤمن علي أهمية وجود قيادة فاعلة و مؤثرة و ذات رؤية واضحة و إرادة سياسية حرة في إحداث النهضة الشاملة للشعوب.
سوف نتبع الحديث عن دور السلطان قابوس بالتطرق لدور الدكتور جون قرنق في تحديد مسار تاريخ السودان الحديث أثناء حياته، و لكن بالأخص بعد مماته، حيث شكل رحيله المفاجئ، و بالتالي غيابه عن مسرح السياسة السودانية، نقطة تحول فاصلة في مستقبل البلاد بأكملها، و ليس جنوبها فقط،، كما يحلو لبعض ذوي الأجندة الخفية إيهامنا بصحة إفتراضهم !
لقد كان د. قرنق قائدا فذا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني. لعبت المكونات الأساسية لشخصيته دورا محوريا في تحديد رؤيته المستقبلية للسودان. فقد شارك في حركة التمرد الأولي، ثم إلتحق ضابطا بالقوات المسلحة السودانية، ثم تأهل أكاديميا بحصوله على درجة الدكتوراة في الإقتصاد الزراعي من جامعة أيوا الأمريكية، ثم قام بتدريس تلك المادة لطلاب قسم الإقتصاد الزراعي بجامعة الخرطوم، مما أتاح له فرصة الإختلاط و التفاعل عن قرب مع أفضل النخب الشمالية بالبلاد.
إرتكازا علي كل هذه المكونات بلور د. قرنق فلسفته السياسية التي إستمدها من واقع دراسته الأكاديمية لإقتصاد و مجتمع السودان، و إلمامه بأدق تفاصيله. بناءا علي ذلك فقد توصل قرنق الي حقيقة مفادها فشل الدولة السودانية، بتركيبتها الراهنة، في معالجة أمهات القضايا التي تواجه الشعب و الوطن معالجة سليمة، و إيجاد الحلول الجذرية لها. بل لعله قد توصل أيضا الي حقيقة أخري، لا تقل أهمية عن سابقتها، و هي أن الدولة السودانية الراهنة هي أحد الأسباب الرئيسية لمكونات الأزمة الشاملة التي يعيشها الوطن في مختلف المجالات الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية.
أوصلت هذه القناعات د. قرنق الي خلاصة إيجابية تعتبر ان الخروج من نفق الأزمات المتلاحقة التي أحاطت برقاب الوطن، منذ فجر الإستقلال و حتي وقتنا الراهن، يتمثل في خلق سودان جديد يتساوي فيه جميع السودانيين في الواجبات و الحقوق، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس أو الإنتماء الجهوي. بمعني آخر أن تكون المواطنة هي أساس كل الحقوق و الواجبات. لذلك فإن جهاز الدولة الموروث و الذي تسبب في توليد الأزمة الطاحنة، و الواقع الظالم و المظلم معا، الذي تعيشه البلاد، يستحيل عليه أن يكون جزءا من معادلة حلها. إذن فإن حل مشاكل الوطن المستعصية و خلق سودان جديد يتطلب أول ما يتطلب هدم جهاز الدولة القائم ، الذي إحتكرت قيادته النخبة الشمالية منذ فجر الإستقلال و حتي وقتنا الحاضر، و إحلال جهاز دولة جديد مكانه يضمن تساوي الفرص أمام جميع أبناء الوطن. كل يحتل الموقع المناسب له، وفقا لمؤهلاته العلمية و خبرته العملية، و ليس وفقا للوساطة و المحسوبية و صلات القربي و الولاء السياسي.
لقد تأكد للراحل قرنق إستحالة تحقيق رؤيته بالأساليب المدنية الديمقراطية نظرا لإختلال توازن القوي بين أهل المركز، الذين يسيطرون علي جهاز الدولة، و أهل الهامش و الأطراف الذين تم تغييبهم و تهميشهم بالقوة القسرية لذلك الجهاز، لمصلحة أهل المركز. لذلك قام الراحل بتأسيس الجيش الشعبي لتحرير السودان، و من ثم الحركة الشعبية لتحرير السودان كذراع سياسي لجيشه، بهدف إحداث تغيير نوعي في جهاز الدولة الموروث عن طريق الكفاح المسلح. لقد نجح الراحل قرنق في كسب التأييد لبرنامجه العسكري و السياسي علي نطاق شعبي واسع، و في جميع أنحاء السودان. ليس هذا فحسب، بل لقد تمكن من كسب تأييد العديد من القوي الفاعلة و المؤثرة علي المستويين الإقليمي و الدولي لحركته و برنامجه. وفي واقع الأمر فقد أصبحت حركة تحرير شعب السودان رقما يصعب تجاوزه علي مسرح السياسة السودانية لأكثر من ربع قرن من الزمان، و حتي وقتنا الراهن.
ظل الراحل قرنق طيلة حياته يدعو لخلق سودان جديد في إطار السودان الموحد. و لم يدعو إطلاقا الى إنفصال الجنوب عن الوطن الأم، بإعتبار ان هذا لن يحل مشاكل التهميش أو التخلف، لا في الشمال و لا في الجنوب نفسه، حتي و إن مكن ذلك الإنفصال الحركة الشعبية من حكم ذلك الجزء من الوطن بمفردها. لقد كان الراحل ذو بصيرة نافذة، و تأكد له أن الدعوة الى إنفصال الجنوب هي بمثابة إنتحار سياسي، لن يقدم عليها سوي مغامر لم تصقله تجارب السياسة الإيجابية. لذلك قاد الراحل قرنق حربا شعواء ضد كل من سولت له نفسه تسويق شعار الإنفصال داخل الحركة، و قدم آلاف الشهداء في سبيل دحر الأجنحة التي تنادي بالإنفصال داخل الحركة الشعبية.
كان القائد قرنق يعتبر الإنفصال بمثابة أسهل وسيلة للتخارج من الأزمة، و لكنه يستحيل أن يكون علاجا جذريا لها، و إن كان يمكن أن يكون مسكنا مؤقتا لها، حيث أن تلك الأزمة لن تلبس أن تنفجر من جديد، و بصورة أشد و أكثر تعقيدا، حال زوال آثار ذلك المهدئ المؤقت. و نسبة لرجاحة عقله، فقد رفض إحتمال إنفصال الجنوب كحل لمشكلة السودان جملة و تفصيلا، مؤكدا بذلك أن العقول الكبيرة لا ترضي بغير التحديات الكبيرة، و تسعي دوما لإيجاد الحلول الجذرية، و ليس أنصاف الحلول، للمشاكل المستعصية. ما أسهل خيار الإنفصال بالنسبة له، إن أراد ذلك، و سعي إليه. لكنه كان مدركا تماما لحجم المخاطر التي ستترتب عليه، و التي لن يراها إلا اصحاب الرؤي الناضجة، و النظرة الثاقبة، و ذوي البأس من القيادات السياسية المحنكة.
لقد تبدل الحال تماما بعد إستشهاد القائد قرنق. فقد إرتدت القيادة السياسية للحركة الشعبية على عقبيها عن كل الشعارات، و البرامج، و الرؤي التي كان يدعو لها د. قرنق ، و التي كانت تتظاهر بتأييدها المطلق لها أثناء حياته. و هنا بالتحديد يتضح لنا دور القائد الفرد في التاريخ. و كذلك دور القائد في تحديد مسار ذلك التاريخ. لقد أثبت مجري الأحداث في السودان، و منذ توقيع إتفاقية نيفاشا فى العام ، الدور الحاسم لشخصية القائد قرنق في توفير التأييد و الدعم لحركته السياسية، ليس فى أوساط الجنوبيين فقط، و إنما على نطاق السودان بأكمله، و كيف شكل غيابه فى العام 2005 نقطة تحول في تلك المسيرة، حيث تحولت الحركة الشعبية من حركة قومية تسعي الى تغيير السودان بأكمله نحو الأفضل، الي حركة إقليمية، قزمت سقف طموحها السياسي ليقتصر علي ولايات الجنوب الثلاث، بعد أن كان يشمل أرض المليون ميل مربع بأكملها.
يقف الواقع السياسي المزري الذي إختارته قيادات الحركة الشعبية لنفسها، و الرؤية المتخلفة التي تبنتها بعد رحيل د. قرنق، دليلا بينا على مدي الدور الذي يمكن أن يلعبه القائد الفرد في تحديد مسار تاريخ وطن بحجم السودان، و مصير شعب باكمله ، كالشعب السوداني. لقد اصيب السودان وشعبه في مقتل بإستشهاد القائد قرنق. و تحول الحلم الجميل بتكوين سودان جديد يكون فيه الدين لله و الوطن للجميع، و الذي كان يجسده و جود الراحل قرنق، الى كابوس مخيف يخيم علي مستقبل البلاد. إن إنفصال الجنوب القادم لا محالة هو أهون سيناريوهات هذا الكابوس، لكن أكثرها سوءا هو إحتمال إندلاع حرب أهلية داخل الإقليم الجنوبي نفسه، و كذلك إحتمال إندلاع حرب أخري بين الدولتين الناشئتين في جنوب و شمال البلاد. حرب سوف لن تبقي و لا تذر، و تقضي علي الأخضر و اليابس. عندها سوف يحصد الشريكان حصاد الهشيم. وسوف يتضح لهما من الواقع المعاش حينئذ مدي قصر النظر الذي حكم رؤاهما لمستقبل السودان. عندها فقط سيتذكر الشعب السوداني بأجمعه القائد الفذ الشهيد جون قرنق، و لسان حاله يقول كما قال الشاعر، "وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر"!!
هل كان الإستفتاء القادم سيتمحور حول إنفصال الجنوب، أم حول الوحدة الطوعية في إطار السودان الجديد الموحد، كما نصت علي ذلك رؤية القائد قرنق، لو قدر له أن يعيش حتي وقتنا الراهن ؟ هل كان لكائن من كان داخل الحركة الشعبية، بما في ذلك رئيسها الراهن سلفا كير، أن يتجرأ، و يعلن على الملأ أنه سيصوت في الإستفتاء القادم لصالح إنفصال الجنوب، و ليس الوحدة الطوعية في إطار السودان الجديد، لو كان القائد قرنق ممسكا بدفة القيادة للحركة الشعبية حتي الآن؟ هل كان سيتجرأ أيا من قيادات الحركة الشعبية، بما في ذلك السيد كير نفسه، علي توجيه الدعوة لمجلس الأمن الدولي لنشر قوات دولية بين شمال و جنوب البلاد في أي وقت من الأوقات، لو قدر لرؤية القائد قرنق أن تتجسد علي أرض الواقع كما أرادها؟ و هل.. و هل.. أسئلة لا حصر لها كانت ستسأل لو كان الشهيد قرنق حيا يرزق، حيث أن مجرد وجوده علي رأس الحركة الشعبية كان كافيا لمنع تدهور أداء الحركة السياسي الى هذا الدرك السحيق، و بالتالي كان سيشكل صمام الأمان لقيام سودان موحد، و لكن علي أسس جديدة، كان يتطلع لها معظم الشعب السوداني.
إذن لو كان الدكتور قرنق لا يزال علي قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان لتغير واقع الحياة في السودان بأكمله نحو الأفضل، وفق رؤيته المتقدمة لمستقبل الوطن، لكن غيابه التراجيدي المفاجئ قد غير أيضا من واقع الحياة في السودان بأكلمه، و لكنه نحو الأسوأ في هذه المرة، و بصورة لم تخطر علي بال أكثر الناس تشاؤما قبل إغتيال الراحل قرنق.
ألا يحق لنا أن نسأل الآن: من هو المسئول عن إغتيال القائد الوطني الفذ الدكتور جون قرنق ديمابيور؟ نصيحتي لكم أن تبحثوا في الإجابة عن هذا السؤال، وخاصة بعد تطور الأحداث الأخيرة في مسار تنفيذ إتفاقية نيفاشا، بتوجيه السؤال نفسه الي أهل الدار قبل دول الجوار و المجتمع الدولي؟؟!!
كما أرجو أن يكون قد إتضح لنا مدي الدور الهام و الحاسم الذي يمكن أن يشكله و جود القائد الفرد، الذي يمكتلك الرؤية الواضحة و الإرادة السياسية المستقلة التي لا تلين، في تحديد مسار تاريخ الشعوب. لقد شكل وجود السلطان قابوس علي رأس السلطة السياسية في البلاد ضمانة كافية لمسيرة النهضة المباركة بسلطنة عمان، و تقدمها من حسن الى أحسن، بقدر ما شكل إستشهاد القائد قرنق، و غيابه عن مسرح السياسة السودانية، كارثة قومية ألقت بظلالها علي السودان بأكمله، و لعبت دورا حاسما في تحديد مستقبله، الذي سيكون مظلما بكل تأكيد، بعد أن كان الشعب السوداني كله يمني نفسه بمستقبل مشرق للبلاد في ظل وجود قائد فذ كالدكتور جون قرنق.
21/10/2010
Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]