القصة التالية كتبتها عقب زلزال كشمير، وهي مقتبسة من خبر تناقلته وكالات الأنباء آنذاك:
اسمي نياز محمد ، عمري سبعون عاماً ، أعيش طيلة 42 سنة في الجزء الباكستاني من كشمير.
قبل تقسيم الأرض إلى ما سميت باكستان والهند ؛ كانت السهول ممتدة بلا نهاية ، لم يكن يفصل بين القرى والوديان في وطننا شيء غير مجاري الأنهار وشواهق الجبال. وكان بإمكاننا دائماً أن نطوّع تلك العوائق بما آتانا الله من الصبر وحسن التدبير. صحيح أننا كنا نمشي على أقدامنا خمس ساعات بحثاً عن طبيب ، لكننا كنا أحراراً لا يوقفنا من يعترض طريقنا ليسأل عن هوياتنا...
عندما وقعت تلك الحرب المشؤومة ، كنت موجوداً بالمصادفة في الضفة الأخرى من النهر مع ابنتي ذات الأعوام الأربعة ، لا أذكر لماذا جئنا إلى هنا فقد كنا نذهب ونروح دون أن يكون لذلك سبب واضح.
زوجتي بقيت مع ولدين وبنت في قريتنا التي لا يفصلها عنا شيء غير هذا المجرى المائي الصغير. كنا نعتبر المكان واحدا ، إذ لا يزيد الوقت لعبور المجرى على عشر دقائق...
قالوا لنا بعد الحرب إن النهر هو الخط الفاصل بين باكستان والهند . ما شأن الهند وباكستان بما كان مرعى ماشيتنا وامتداد بساتيننا؟ قالوا لنا منذ اليوم أنت وابنتك من رعايا دولة باكستان ، أما أولادك الآخرون وزوجك فهم من الجنسية الهندية.
أمضيت اثنين وأربعين سنة، وأنا أرقب بيتي ومزرعتي من وراء النهر ، ولا أستطيع أن أصل إلى أهلي وأولادي.
حاولت زوجي عبور النهر مرات عديدة ، وفي كل مرة كان الجنود يعيدونها إلى القرية. كانت تنجح أحياناً من تجنب الوقوع في أيدي الجنـود ، لكنها تعتقل من قبل الجنود الباكستانيين الذين يعيدونها إلى الأرض (الهندية).
من ناحيتي ، تزوجت بعد سنوات قليلة من هذا النزاع الحدودي الأحمق ، ولكن آمالي ظلت معلقة إلى اليوم الذي ينهار فيه هذا الخط الفاصل فنعود كما كنا أرضاً ممتدة وأفقاً ممتدا دونما فواصل إلا من شواهق الجبال أو مجاري الأنهار.
كنت أقضي الساعات الطوال عند النهر ، أرنو ببصري إلى الضفة الأخرى ، أرى بيتي والقرية والناس. أحسد الطيور أرقبها تبسط أجنحتها في الفضاء حاملة للوطن الغالي أشواقي الكثيرة.
الطير في الهواء أمكنه أن يعبر هذا النهر العتيد دون أن يسأله الجنود عن جواز سفر وأوراق هوية! أما أنا فلن أذهب إلى هناك إلا بمعجزة.
بعد سنوات طويلة من الحرب سمعنا أنهم وقّعوا اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين البلدين، ومع ذلك لم يتحرك شيء. كان يلزمنا لاجتياز الحدود حدث كبير لا ندري ما هو.
أخيراً جاء ذلك الحدث المرتقب ... زلزال كشمير! وكأن الإنسان لكي يلتقي زوجه وأولاده يحتاج إلى زلزال!
يوم الزلزال كان يوماً شديداً ، مات فيه خلق كثير ، ولم أعرف إن كان زوجي وأولادي من الأحياء أم من الأموات.
أثار فضولنا وصول مروحيات ، ودخلت مولدات الكهرباء إلى بعض مناطقنا لأول مرة!
رب ضارة نافعة كما يقولون. الجراح ومآسي الناس أكبر من التفكير بمنع امرأة عجوز من عبور خط الحدود لتلتحق بزوجها بعد اثنتين وأربعين عاما! مع أنهم لا يتزحزحون من مبدأ الفصل بين الناس وإقامة الحدود والحواجز.
أخيراً سمحوا بعبور حافلة بين راوالكوتي في باكستان وبونتش في الهند. قدمت طلبًا للسماح لي بالعبور ، ثم بعد انتظار ثمانية أشهر ، أذنوا لي، وأعطوني تصريحاً بالإقامة في بيتي مدة ثمانية وعشرين يومًا فقط.
ها أنذا الآن بين زوجي و... أطفالي ، أقول من كانوا أطفالي ، كبروا وقد صاروا الآن رجالاً ونساء، لم أعرف أحدا منهم.
غالب أقربائي وفيهم والداي وأخوتي توفوا جميعا ، ومن بقي منهم لم أتمكن من معرفته.
زوجي الوفية (بركات باي) صبرت طويلا كل هذه السنوات، بقيت تنتظرني إلى يوم نصبح فيه على حدث كبير يجمع روحينا وقلبينا من جديد.
التقينا أخيراً ، ولكن مع موعد آخر بالفراق ، أنا باكستاني وهي هندية . القانون لا يسمح لي بالبقاء أكثر من المدة المقررة ، ولا أستطيع أن أرافقها معي إلى الضفة الأخرى من النهر.
هي هندية وأنا باكستاني! فكيف نلتقي مرة أخرى إلا أن يأذن الله تعالى بـ ... (زلزال) آخر!
انتهت القصة، وأعقّب عليها بما كان من أخبار الهند مما لها علاقة بذلك الانفصال وثماره المرّة. فمنذ أيام جلست بين يدي حلاق هندي، ظل يتوقف بين فينة وأخرى يحدّق أمامه في التلفزيون. لم أفهم شيئاً مما كان يردده المذيع باللغة المليبارية ، ولكن منظر التجمعات والجنود المدججين بالسلاح كان يوحي بأن حدثاً كبيراً يوشك أن يقع.
قلت للرجل: ماذا هنالك؟
ردّ وهو يستنكر جهلي: ألا تعرف؟ قاضي محكمة المسجد البابري ينطق بعد قليل بالقرار المنتظر. لا بد من كارثة في كلا الحالين، سواءً أكان الحكم لصالح الهنادك أم كان لصالح المسلمين ، الله يستر ...
إذن هو ذاك النزاع القديم في مدينة (أيوديا) على قطعة الأرض التي كان يقوم عليها مسجد بناه (بابر) أحد ملوك المغول قبل أربعة قرون. دبّ الخلاف بين المسلمين والهنادك منذ الاستعمار الذي عمل بقاعدة "فرّق تسد". في عام 1948 تسلّل الهنادك لينصبوا أصناماً في باحة المسجد، ولما احتج المسلمون، صادرت الشرطة المسجد. وفي العام 1992 اقتحم المسجد آلاف الهنادك ليدمروه تدميراً ويقتلوا ألفين من المسلمين في اضطرابات طائفية.
هذه قصة أعرفها جيداً ، ومنذ أشهر قابلت رئيس هيئة الدفاع عن المسلمين في القضية ، وسألته: ألا تأخذ هذه القضية أبعاداً أكبر من حجمها ، أليس في وسع طرف أن يتنازل لينزع فتيل الفتنة الطائفية التي تحصد الأرواح ما بين وقت وآخر ... يا أخي أرض الله واسعة. قال المحامي: هذا منطق نسمعه حتى داخل الهند من بعض المسلمين ، ولكن الأمر أكبر مما تتصوّر. في الحقيقة ، المسجد ليس سوى رمز لصراع طويل ، وأي تنازل يدفع إلى المزيد.
لو لم يتم تسييس هذا الصراع، لأمكن اتخاذ الموضع معلماً سياحياً والتعويض بموقع آخر، أو يخصص المكان لمؤسسة تعليمية لفائدة الجميع.
قطع تفكيري وقوف الحلاق مشرعاً المقص في وجهي. كان التلفزيون يتلو قرار المحكمة. جعلت انظر في وجه صاحبي الهندي حتى أفهم ما يجري. لماذا توقعت أن يجيء الحكم لصالح المسلمين فقد سمعت من المحامي أن الهنادك فشلوا تماماً أن يثبتوا للمحكمة أحقيتهم التاريخية بالأرض في حين أن المسلمين لديهم صكوك أو شهادات بحث كما نسميها في السودان. يعتقد الهنادك أن إلههم مولود في هذا المكان ، ولكنهم فشلوا في تعيين ذلك الإله المزعوم ، فطوائف الهنادك تعتقد بآلهة كثيرة.
بدا على الهندي في لحظة النطق بالحكم شيء من الارتياح مع كثير من التوتر ، فسألته ماذا جرى؟ قال بلهجته الغريبة: "هذا مسجد بابري ، تلاتة نفر قسّم، واحد مسلم ، وواحد هندوس ، وواحد كمان قسّم .. هذا مو مظبوط ، لازم تاني روح محكمة".
أدركت أن أكثر الدعاوى القضائية إثارة للانقسام في تاريخ الهند قد انتهت إلى تقسيم موقع المسجد ثلاثة أقسام؛ ثلث للمسلمين وثلثان يقسم على طائفتين من الهنادك. وأن الحكم يمكن أن يستأنف للمحكمة العليا لمرحلة أخرى جديدة من النزاع القانوني الذي سوف يستمر سنوات أخرى طويلة.
osman abuzaid [osman.abuzaid@gmail.com]