لماذا لا تنصف الإنقاذ كردفان ودار فور؟! … بقلم: د. محمد وقيع الله
زرنا حاضرة كردفان الشهيرة بابنوسة مرتين، المرة الأولى: وهي الأروع والأخلد في الذاكرة، من خلال دروس الجغرافيا في السنة الثالثة بالمرحلة الأولية، حيث تولى أستاذنا العبقري الماهر فضيلة الأستاذ محمد أحمد خلف الله الكاليابي شرح خطوات الترحال إلى تلك المدينة الفاضلة والتجوال في داخلها للتعرف على ظروفها وطقوسها.
وكم كان كتاب الجغرافيا المعد لتلك الفترة مشوقا وممتعا إذ أنه أعد في شكل حركي تمثيلي ولم تأت صياغته تجريدية جافة مكتظة بالمعلومات الميتة المضجرة التي كرَّهت دروس الجغرافيا للطلاب.
فعيب المناهج والمقررات في كتب الجغرافيا في المراحل اللاحقة، وهذا عيب يرجى أن ينظر فيه ويلاحق ويصحح، هو أنها تخاطب العقل دون الوجدان، وتتطلب من الطلاب الحفظ الدقيق لدقائق وتفصيلات (معلوماتية) تافهة لا يتجاوبون معها.
وأعتقد أن أفضل بديل لهذه الكتب الجغرافية المملة هو أن يعتمد تدريس هذه المادة في مدارسنا، إلى حد ما، على عروض الصور المتحركة، مثل تلك الأفلام الرائعة التي تنتجها قناتا (ديسكفري) و(ناشونال جيوغرافيك) وغيرهما من قنوات العروض الثقافية الأخاذة.
وأما المرة الثانية التي زرنا فيها حاضرة بابنوسة فقد كانت في المرحلة الجامعية، حيث طفنا بديار الأهل بكردفان لمدة شهر كامل، في رحلة دعوية كان يقودنا فيها سماحة شيخنا وإمامنا وسيدنا الدكتور يوسف حامد العالم أمطر الله تعالى على جدثه شآبيب الرضوان.
ويومها لم نر الصورة الواقعية لمدينة بابنوسة أوضح ولا أجلى مما عرضه علينا أستاذنا خلف الله إذ كنا أيفاعا في مدرسة كلي الأولية قبل ذلك الوقت بنحو عقد من السنين.
وربما كان ذلك بسبب من امتزاج تصوراتنا الجغرافية الأولى بالذاكرة وسيطرتها على أذهاننا حتى بتنا نرى المدينة من خلال دراستنا لها بأكثر مما نراها بالعيان.
وهنالك انقلب تماما - في أخلادنا - معنى القول المأثور الشائع: ليس الخبر كالعيان.
فصار حديث الخبر أوضح وأجلى عندنا من رأي العيان!
وأذكر أن هذا المعنى راودني أيضا وأنا أطوف نواحي مدينة (نيو يورك) الباهرة، فقد بقيت أحبذ رؤيتها من خلال دراستي لها في جغرافيا السنة الرابعة الأولية على رؤيتها رأي العين.
وفي حالة بابنوسة فربما كنا نراها بصورتها التي تلقيناها من جغرافيا المدرسة الأولية لسبب آخر، وهو أنها لم تتطور كثيرا، ولم تتبدل ملامحها، ولا اختلفت (سبل كسب العيش) فيها، من أواسط ستينيات إلى أواسط سبعينيات القرن الذي انقضى.
وربما حتى الآن!
وآية ذلك أنه بعد أن انصرمت ستة وثلاثون عاما من وقت زيارتي الواقعية لبابنوسة، هالني نبأ عجيب، قرأته في صحف اليوم، وهو الخبر القائل إن سكان المدينة احتجوا على أولي الأمر منهم، لأنهم أغلوا عليهم أسعار المياه حتى صار ملء البرميل الواحد منها بخمسة جنيهات.
وعند بلوغ السعر إلى هذا الحد الخرافي ما كان من مواطني المدينة الأباة إلا أن أجمعوا أمرهم وأعلنوا إضرابا عاما عن المياه.
أي أنهم أعلنوا إضرابا عن شراء المياه.
فما أحد بقادر على أن يضرب عن شرب المياه وإن أضرب عن الطعام.
وقد هالني النبأ لأني كنت أتصور أن حال بابنوسة قد حال عن هذا الحال، وكنت أتصور أن أنابيب المياه قد اخترقت كل زنقة من زنقاتها وكل دار من دورها، وأن مواطنينا الكرام بتلك الناحية من نواحي الوطن العزيز، قد غادروا منذ زمان مديد عهود الاستقاء المباشر من (الدوانكي) المرفقة بالآبار المركزية والارتوازية.
وفي الحق فإن كلمة (هالني) ليست هي التعبير الدقيق عن الشعور، فقد أحسست بعار لمَمٍ جلل كياني كله، وأوقفني عن مواصلة أعمالي حتى الملحَّ منها، ودفع بي لأسطر للتعبير عن حالي إزاء حال المدينة هذا المقال.
وهو مقال قاصر في نقد وشجب فقه الأولويات المقلوب في تصورات بعض صناع القرار ورعاة التنمية في البلاد.
فبعض هؤلاء الذين اندفعوا بقدرة قادر ليكونوا من أهل الحل والعقد ما زالوا يعتقدون أن شرب الماء امتياز طارئ للمواطنين وليس حقا طبيعيا بدهيا من حقوق الإنسان!
وهكذا فإذا احتاجت السلطات المحلية التي يديرها بعض هؤلاء المتزعمين الجدد (على وزن المحافظين الجدد!) إلى حزمة أموال تنفقها على نفسها في شكل امتيازات وصرف بذخي (دستوري!) لم تجد إلا أن تفرض إتاوات جديدة، أو ربما تفضلت فاكتفت برفع سقف الإتاوات القديمة، التي فرضتها سلفا على شرب مواطنيها البسطاء للماء القَراح.
فتوفير المياه ليس واجبا أوليا مفروضٌ أمر تنفيذه على القادة والكبراء، وليس حقا مشروعا للشعب في فكر هؤلاء المتزعمين المريبين.
ذلك مع أن الماء الذي خلق الله منه البشر ينبغي أن يَضحَى توفيره على رأس قائمة الأولويات في كل فقه شرعي أو وضعي.
ولكن من يقنع هؤلاء المتزعمين بفقه للواقع أو للشرع؟!
فإنهم في سَدرتهم عمهوا واستغشوا ثيابهم وأصروا حتى أضرب أهل بابنوسة الأشاوس عن شراء الماء وهددوا بالتظاهر ضد النظام.
وعند ذلك فقط انتبه الحكام وحذِروا من بعد ما عمُوا وأصمُّوا واستكبروا استكبارا.
ويا أهل بابنوسة الأفاضل، يا أهل تلك المدينة الفاضلة، التي طفناها في عهد الصبا وعهد الشباب، فإذا كان الماء قد غدا بحاضرتكم غاليا أو معدوما، فلا حاجة لكم أن تتحدثوا أو تخبروا عن أنكم أصبحتم تعيشون أوضاعا إقتصادية متردية، كما جاء في ذيل الإخبار عنكم هذا الصباح.
ولا حاجة لكم أن تتحدثوا أو تخبروا أحدا أنه ما عاد لكم قِبل بتحمل المزيد من ارتفاع الأسعار والخِدمات.
فقد (فهمتكم .. فهمتكم)..
وذلك لأن الماء هو أصل الحياة وآلة آلات العمران، وبها يضرب للأبجديات الضروريات مع الهواء المثل فيقال: كالماء والهواء.
فكيف أتصور أو يتصور أحد بعد هذا أنكم سعداء؟!
وكيف أتخيل أو يتخيل أحد أنكم تطورتم وأنتم ما زلتم تشكون شح الماء؟!
وهذا وإني لست سوى امرئ فقير (مُهمَّش) لا أحمل إلا قلمي وليس لي مما يُناجز به سلطان أو سنان.
لكن لو كان الأمر بيدي لجعلت، من توفير المياه لمدينتكم ولغرب السودان قاطبة أول بند من بنود ميزانية السودان.
وبعد ذلك فلتتسع الميزانية لما تتسع له ولتضق عما تضيق عنه.
هذا ولا زلت احتفظ مع شنآني القديم لرئيسنا الأسبق جعفر نميري بتقدير خاص له منذ أعلن في عام 1970م أن مشاريع مكافحة العطش بغرب السودان ستظل على رأس مشاريع حكومته ولو استنفدت جميع أرصدة البلاد.
وقد فعل شيئا مذكورا بمجرد تنبيهه إلى ظاهرة العطش ومأساته وشروعه في مكافحتها وإن ألهته عنها ظروف الزمان.
وفي الختام فإني أردد أن في طيات قولي هذا نصح ممحض ودعاء ملح مخلَص إلى أولياء أمورنا من أهل الإنقاذ الكرام، الذين يسيرون على نهج الإسلام، الذي هو نهج عدل ومساواة، لكي يسارعوا ويبادروا إلى تصحيح المسار، ويتوجهوا إلى إمضاء خطط نماء اقتصادي متوازن (أي عادل) يعم جميع أقاليم البلاد.
ولكن يبدأ بتوفير المياه لمدن وقرى وفرقان وبوادي ونجود كردفان ودار فور.
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]