غرابة الأطوار بين القذافي وأبي نواس … بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 


1-2

كنت أعدُّ (في عام 1981م) بحثا جانبيا من متطلبات إحدى مواد العلاقات الدولية التي كنت أحضر دروسها في إحدى الجامعات الغربية.
 ولما كنت مفوضا لاختيار الموضوع الذي يناسب اهتماماتي فقد اخترت أن أكتب ورقتي عن النمط الغريب للسياسات الخارجية للعقيد الليبي القذافي.
ووافق الأستاذ الكوري الذي كان يتولى تدريسنا تلك المادة على الفور.
فالأساتذة الأذكياء من ذوي الأفق الواسع في الغرب يحبون أن يتعلموا من تلاميذهم أشياء جديدة ولا يتأففون من التقاطها منهم مهما كانت يسيرة زهيدة.
وقد تلبث أستاذي راجيا أن أنجز له بحثا جافا في شكل (دراسة حالة) أطبق عليها بشكل آلي بعض نظريات العلاقات الدولية التي قام بإعلامنا بها.
ولكني تجاهلت النظريات السياسية التي علمنا إياها الأستاذ واتجهت ببحثي وجهة مخالفة استخدمت فيها بعض نظريات علم النفس الحديث.
وعندما اطلع الأستاذ على بحثي اغتبط به وعده طرفة من طرف العلم وأثابني عليه بالدرجة القصوى.
تشابه البواعث والملامح
وفي الحقيقة فإني لم أكن مبتكرا لا في مجال الفكرة ولا التطبيق ولكني ترسمت هنالك خطى إمام الفكر الأكبر الأستاذ عباس محمود العقاد.
إذ خطر لي أن أستعير منهجيته التحليلية التي اعتمدها في كتابه الرائع الذي حرر به بحثه المتفرد في تحليل شخصية الشاعر العربي الماجن أبي نواس.
وقد كانت الملامح النفسية الغريبة لشخصية أبي نواس تطفر إلى ذهني كلما تأملت عجائب السياسات الخارجية من اجتراح القذافي.
وكنت أرى تشابها شديدا في النزعات الوخيمة والاندفاعات غير المحسوبة عند هذين
 الشخصين (المبدولين) غريبي الأطوار.
وكلما دققت في فحص سياسات القذافي الخارجية صعب علي أن أجد لها تعليلا عقلانيا يفسرها
ويبررها.
فقد عُلِّمنا في مقاعد الدرس ألا نتحدث في تفسير العلاقات الدولية إلا من باب الحساب العقلاني الصارم الذي يتلخص في حسابات المغارم والمغانم أي حسابات الربح والخسارة.
ونُبِّئنا أن القائد السياسي هو بالضرورة شخص عقلاني، وأنه لا يتخذ قراره، في مجال العلاقات الدولية المعقدة بطبعها، إلا بعد دراسة مستفيضة للبدائل، ثم يؤول إلى اختيار أفضل بديل بين يديه.
أي البديل الذي يحقق لوطنه أقصى قدر من الغُنم والربح بأقل قدر من الغُرم والخسارة.
علم النفس المرضي
ولما رأيت أن هذا النمط التحليلي لا يوافق حالة القذافي بالذات فقد لجأت إلى استشارة نظريات علم النفس المرضي أو ما يسمى بعلم نفس الشواذ.
ولا يعني لجوئي إلى علم النفس أن لي فيه باع أو ذراع حيث لا أرى هنالك إلا متطفلا على مستوى الهواة العاديين.
وأذكر أني اتصلت حينها بفضيلة الأخ الكريم والصديق المحترم جدا (البروفسور) عبد الهادي محمد عمر تميم الذي كان يتلقى دراساته لنيل شهادة العالمية بجامعة انديانا راجيا أن يستعير لي من مكتبة جامعته كتاب العقاد عن أبي نواس حتى يتسنى لي أن أعيد التدقيق في الجانب النظري المنهجي فيه.
وعندما انتهى إلى الكتاب عن طريق البريد أنكرته فقد كان بعنوان (ابليس) وليس (أبو نواس: الحسن بن هاني).
وعندئذ خاطبت الأخ عبد الهادي لأصحح الخطأ ظانا أنه قد التبس عليه وتوهم أني طلبت إليه أن يستعير لأجلي هذا الكتاب غير المطلوب.
ولكنه أصر وأكد بأسلوب قاطع أني لم أطلب منه سوى كتاب يدعى (ابليس) من تأليف العقاد وهو ما قام بطلبه من الجامعة وبعثه إلي بالبريد.
فأخذتني المفاجأة بوقعها واستسلمت لقوله وقلت أخاطب نفسي صدق عبد الهادي وتوهمت أنا.
حيث تبين لي أني كثيرا ما كنت أحدث نفسي بحديث النفس قائلا إن القذافي يتصرف بوحي إبليسي.
وإنه ربما بدا في خاطري في بعض الأحايين أقرب إلى إبليس منه إلى أبي نواس.
ولا غرو فقد كان يفاخر كثيرا بأن إبليس يحبه حبا جما ويؤثره على جميع البرايا.
وزعم أن إبليس قال ذات مرة: عصيت ربي في سجدة فأهلكني، ولو أمرني أن أسجد لهذا الفتى (أي لأبي نواس) ألف سجدة لسجدت!
ولكن لم يغرني التشابك العارض بين شخصيتي القذافي وإبليس بالرضا بكتاب (إبليس) والاكتفاء بحذو النهج التحليلي الذي اتخذه صاحبه لسبر أغوار الشخصة الإبليسية وتطبيقه على شخص القذافي.
لأن اعتقادي ظل على حاله القديم، وهو أن التشابه بين شخصي إبليس والقذافي إنما تشابه طارئ، وأما التشابه بين شخصه وشخص أبي نواس فهو تشابه عميق أصيل.
وهكذا عدت أدراجي لأطلب مجددا من الصديق الفاضل عبد الهادي أن يستعير كتاب أبي نواس ليعيرني إياه.


mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]

 

آراء