“عبقريات” الإنقاذ: كتائب البلطجية؟! … بقلم: إبراهيم الكرسني
إبتكر نظام الإنقاذ، و منذ مجيئه للحكم عبر إنقلابه المشؤوم، العديد من الأنظمة و الممارسات غير المألوفة، و التى لم يسمع بها من قبل، فى جميع المجالات، السياسية، و الإقتصادية، و الإجتماعية، و القانونية، و الأمنية...الخ. كان الهدف من وراء كل ذلك أمران لا ثالث لهما: الإستمرار فى الحكم، وبأي ثمن و مهما كانت التكلفة من جهة، و نهب ثروات و مقدرات الشعب السوداني لمصلحة القلة المنتمية للنظام، و الموالين له، من جهة أخرى. و من أجل بلوغ هذا الهدف فقد إبتكرت الإنقاذ نظام الثنائيات فى كل شئ، و فى جميع المجالات تقريبا. فتجد منذ بداية حكم الإنقاذ، و على سبيل المثال لا الحصر، مجلس الثورة فى العلن، وهو المناط به إدارة شئون البلاد السيادية، و فى المقابل تجد هناك مجلس آخر فى الخفاء يضم مجموعة مختارة من قيادات الإخوان، هو الحاكم الفعلي للبلاد. كما تجد مجلس للوزراء فى العلن، و فى المقابل له تجد مجلسا آخر مواز له فى الخفاء، هو من يقوم بتصريف شؤون الحكم. وتجد نظام السجون المعروف للكافة فى العلن، كما تجد السجون السرية المقابلة له، و التى وصفها شعبنا ببيوت الأشباح. وهكذا دواليك. وقد أسمينا هذه الثنائيات ب"عبقريات" الإنقاذ، و التى سنتناول آثارها التى دمرت مجتمع و إقتصاد البلاد، بل و جميع مناحي الحياة فى السودان بصورة لم يسبق لها مثيل، بالتحليل فى سلسلة مقالات نبتدرها بأحدث تلك الإبتكارات، وهو تكوين مليشيات مسلحة لقمع الشعب و حماية النظام أسميتها "كتائب البلطجية".
لقد أحاط نظام الإنقاذ نفسه، فى بداية عهده ولا يزال، بسياج أمني لم يعرفه تاريخ السودان المعاصر. وقد شن النظام من خلال هذا السياج حملة شعواء على جميع الفئات و القطاعات المعارضة له. حملة لم ينجوا منها حتى القصر من الأطفال. إن الحملة الأمنية التى شنها هذا النظام فى بداية عهده قد كانت بمثابة إعلان حرب على الشعب السودانى. و قد راح ضحية تلك الحملة عشرات الآلاف من خيرة بنات و أبناء السودان، الكثيرين منهم كان فى عمر الزهور. ويمكن للمرء أن يزعم بأنه لم يوجد بيت فى السودان إلا و قد وصله أذى الإنقاذ، سواء كان ذلك فى صورته الغليظة، المتمثلة فى الموت الزؤام، أو فى أخف صورها المتمثلة فى الإعتقال التحفظى لفترات طويلة من الزمن دون أي مسوغ قانوني.
إن الهجمة الأمنية الشرسة التى شنها نظام الإنقاذ تطلبت تأسيس العديد من آليات و أدوات القمع المناط بها إذلال و إهانة الشعب السوداني بصورة عامة، و إرهاب و تخويف قيادات المعارضة، و النشطاء السياسيين بصورة خاصة. لذك قام النظام بتكوين أجهزة كثيرة و متعددة لتمارس عملها فى جميع الميادين، و على مختلف المستويات، كأمن الدولة، و أمن الثورة، و أمن المجتمع...الخ وذلك لضمان إستقرار نظام حكمهم، و مراقبة كل حركات و سكنات المعارضين له، عن طريق قرون الإستشعار التى زرعوها من خلال تجنيدهم للعملاء فى جميع الأمكنة، بما فى ذلك داخل البيوت، وفى أوساط الأسر الآمنة، وفقا لسياسة ماكرة وغير أخلاقية.
تمثلت سياسة إستدراج و تجنيد الشباب للعمل فى أجهزتهم القمعية، فى تضييق فرص العمل أمام المتعلم منهم و الفاقد التربوى على حد سواء، حتى لا يجدوا فرصة أخرى. و تحت وطأة ظروف المعيشة، و ضنك العيش، فليس هنالك من سبيل أمامهم سواء العمل فى تلك الأجهزة. بمعنى آخر فقد أصبحت الأجهزة الأمنية فى ظل نظام الإنقاذ أحد سبل كسب العيش فى السودان...فتأمل!! لكن عواقب هذه الممارسة قد كانت وخيمة على أخلاقيات و نسيج المجتمع السوداني، حيث لا تكاد تجد أسرة ممتدة فى البلاد، إلا و يكون أحد أفرادها، و بالأخص الشباب منهم، قد تلوث بفيروس التجسس و التحسس الإنقاذي. لكن الأسوأ من ذلك، بل إن النتيجة المنطقية لذلك الأسلوب الخبيث، هو تجسس الإبن على أبيه، و الأخ على أخيه، و الشخص على أحد أفراد أسرته، أو أحد أقربائه....الخ.
لم يعرف المجتمع السوداني هذا النوع من الممارسات قبل مجئ الإنقاذ. فهو صنعة إنقاذية خالصة، و لا يمكن أن يشاركها أحد فى "الملكية الفكرية" له. لذلك فسيسجل الشعب السوداني "براءة" إختراع هذه الممارسة المخزية و المشينة لنظام الإنقاذ، ليتفرد بها كأحد أسوأ الأنظمة التى مرت على حكم البلاد سجلا فى هذا المجال. أعتقد أن القصص، بل المآسي، التى خلفها نظام التجسس و التحسس، الذى إبتكرته الإنقاذ، سترويه أجيال السودان المتعاقبة، أبا عن جد، بإعتبارها أسوأ كابوس حل بالشعب السوداني، و مزق نسيجه الإجتماعي، وزرع الشك و الريبة فى أوساط الأسرة الواحدة، و زعزع الثقة حتى بين الإبن ووالده.
لقد ساعدت هذه السياسة، و الإرهاب الذى نتج عنها، نظام الإنقاذ فى إستحكام قبضته على البلاد، و تمكن من خلالها من مراقبة كل صغيرة و كبيرة تتعلق بتحرك المعارضين له. بل لم يتبقى له سوى حصر أنفاس البشر. لكن، و على الرغم من كل هذا، فقد تمكن شعبنا من إستنباط الوسائل و الطرق الكفيلة بالحد من غلواء تلك السياسة، و تجاوزها، لتفعيل أساليب العمل المعارض للنظام. وقد كان آخر تلك الإبداعات فى العمل المعارض ما قام به شبابنا مؤخرا من تكوين حركة معارضة تتمثل فى حركتي "شباب من أجل التغيير" و "شرارة"، ستتحول بإذن الله، و بفضل تلك السواعد الفتية، الى حركة معارضة ولدت بأسنانها لتزلزل أركان النظام، و تطيح به فى نهاية المطاف، و تكنسه الى مزبلة التاريخ غير مأسوف إليه.
لذلك فقد توجس قادة الإنقاذ خيفة من حركات شبابنا المعارضة، وقد أسموها بمعارضة "الفيس بوك". و لأن قادة النظام مقتنعون تماما بأن معارضة "الفيس بوك" سوف تتحول قريبا الى زحف بشري، و جماهير هادرة، تملأ شوارع البلاد و أزقتها و"زنقاتها"، فقد بدأوا فى التحرك سريعا للتصدى لها. تمثل هذا التحرك، من ناحية، فى توجيه و تحريك كتائبهم "الإسفيرية" للتصدى لشباب "الفيس بوك" و تثبيط هممهم و عزيمتهم، بمختلف السبل و الوسائل، وذلك من خلال بث الشكوك فى جدوى مثل هذا التحرك، بل و الكذب الصراح، الذى رضعوه من ثدي الإنقاذ، حول أهداف و مرامي حركات شبابنا المعارضة، حتى يتمكنوا من زرع الفتنة و التفرقة فيما بينها. و لكن هيهات. فقد خبر شبابنا جميع أساليب مكرهم و دهائهم، و قد صقلته سنوات الإنقاذ العجاف، و أكسبته مناعة تامة، وقدرة فائقة على التعامل مع كل تلك الأساليب القذرة التى سيبتدعها مستقبلا هذا النظام الفاسد المستبد.
و أما تحركهم ضد شباب المعارضة فقد تمثل، من الناحية الأخرى، فى تكوين "كتيبة البلطجية" للتصدى لحركات الشباب المعارضة حينما تتحول من "الفيس بوك" الى أرض الواقع قريبا بإذن الله. هنا تجئ ثنائية الإنقاذ التى أشرنا إليها فى صدر هذا المقال. أعتقد أن قادة الإنقاذ قد توصلوا الى قناعة تامة بأن مساحة المعارضة قد تمددت الى أن وصلت الى عقر دارهم، أي داخل الأجهزة الأمنية التى كونوها لحماية النظام و ضمان إستمراره.
نعم، لقد وصلت الأزمة بالفعل الى هذا المستوى، و إلا فما هو المبرر لتكوين "كتائب البلطجية"؟ إن كان الأمر يتعلق بقهر و إرهاب قوى المعارضة، ووقفها عند حدها، فيوجد لديهم العديد من الأجهزة الأمنية القادرة على ذلك. لكن الأمر قد تعدى قوى المعارضة المعروفة لديهم، وقد بدأوا يشكون فى مدى ولاء أجهزتهم الأمنية. هنا يوجد مكمن الخطر على إستمرار النظام. إن تمرد تلك الأجهزة، أو حتى مجرد عدم تحركها الفعال لقمع المعارضين، كما كانت تفعل ذلك دوما، سيشكل خطرا ماحقا، ليس على مدى قدرة النظام على الإستمرار فقط، بل على وجوده من الأساس.
لذلك فقد قام السيد نافع على نافع بتكوين "كتائب البلطجية"، ليس لإرهاب حركة المعارضة، شيبا أو شبابا فقط، بل لإرهاب أجهزة الإنقاذ الأمنية التى قام هو نفسه بتأسيسها، و الإشراف على أدائها، لتقوم بتنفيذ جميع الممارسات القذرة فى حق المعارضين لنظامه. فعل السيد نافع ذلك لأنه بدأ يشك فى ولاء الأجهزة الأمنية لنظامه، وهو محق فى ذلك لسببين. الأول هو أن ما تقوم به تلك الأجهزة من ممارسات، سوف تهز كل من تبقى له من وجدان، أو فطرة سليمة، و بالتالى يصبح قابلا للتمرد على ممارساتها و أفعالها. أما السبب الثاني فهو التمييز الذى يمارس داخل تلك الأجهزة نفسها بين النخبة التى تدعي و تزعم بأنها هي الأولى بكل العطايا و المزايا، بإعتبارها المؤسسة لها، و بين القادمين الجدد، الذين ربما لم يجدوا سوى الفتات ليقتاتوا منه. و بما أن الآمال التى جندوا على أساسها كانت كبيرة و طموحة، فإن إصطدامهم بحقائق الواقع الذى لا يرقى لتلك الطموحات، سوف يؤثر قطعا، ليس على مستوى أدائهم فقط، و إنما، و هذا هو الأهم، على درجة ولائهم لنظام الإنقاذ نفسه.
أليس من سخرية الأقدار أن يكون السيد نافع هو من قام بتأسيس "بيوت الأشباح" فى بداية عهد الإنقاذ، و هو نفسه الذى يقوم بتكوين "كتائب البلطجية" فى آخر عهدها؟! إن ما نود قوله للسيد نافع، و لربعه من قادة الإنقاذ، هو إن تأسيسكم لبيوت الأشباح لم تنجح فى كسر شوكة المناضلين الشرفاء من بنات و أبناء شعبنا ضد دولة الفساد و الإستبداد، ، بل على العكس تماما من ذلك، فقد زادتهم بأسا و عزيمة على مواصلة النضال ضد طغيان الإنقاذ. وإن تكوينكم لكتائب البلطجية سوف لن ينتج عنه سوى إصرار و عزيمة شباب المعارضة على الإطاحة بنظام الإنقاذ، و تطهير أرض السودان من مخلفات دنسه و أدرانه، و تخليص الشعب السوداني البطل من هذا الكابوس الذي جثم على صدره لفترة تزيد على العقدين من الزمان. إنكم ترون هذا اليوم بعيدا و لكننا نراه أقرب إليكم من حبل الوريد!! وحينما ينتفض الشعب، بشيبه و شبابه، و يكسر حاجز الخوف، و يهدر فى الشوارع، فلن ينقذكم من بأسه "كتائب بلطجية"، أو غيرها من الأجهزة الإجرامية السرية التى ترعونها لمثل هذه المواجهة. و إن شبابنا لقادر، بعزيمته و إصراره، على منازلة كتائبكم، و إلحاق هزيمة ماحقة بها، لأنه يناضل و يحارب دفاعا عن الحق، فى مواجهة الباطل الذى تدافع عنه كتائبكم البائسة.
30/3/2011م
Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]