العقيد القذافي أدمن التلاعب بالساسة السودانيين
لعلي لا أتجاوز إذا قلت إن لا أحد تلاعب بالساسة السودانيين مثل "العقيد معمر القذافي"، بل أكاد أجزم أن بعض ساستنا،وفي لحظات الحاجة الماسة لدعم العقيد المادي، قطعوا على أنفسهم تعهدات لا نعلم عنها شيئاً، وإن كنا نستشعر أثرها.
الانطباع السائد في العالم العربي، ولا أدري كيف ترسخ إلى الحد الذي يعتقد كثيرون بصدقيته، أن السودانيين يتصفون بصفتين "الطيبة" و"الكسل".
عندما التقيت العقيد معمر القذافي لأول مرة عام 1988، وكان مطلوباً مني يومها تطبيع علاقة متوترة بين ليبيا وصحيفة "الشرق الأوسط" بعد أن أطلق الليبيون تهديدات ضد الصحيفة بسبب تداعيات خلاف بين طرابلس وحركة فتح الفلسطينية، لاحظت أنه حاول التعامل معي بشيء من الاستخفاف، قال يومها بطريقة تهكمية "أنت سوداني لماذا أرسلوا لي سوداني؟"، وأجبت "صحيح أنا سوداني، لكن وجودي في طرابلس لا علاقة له بالسودان من قريب أو بعيد".
ويبدو أن من كانوا معه لاحظوا أن جوابي لم يكن معتاداً، وسعوا بعد نهاية اللقاء، إلى معرفة ما كان يدور في ذهني وأنا أرد ذلك الرد الجاف على "الأخ القائد" كما كانوا ينادونه.
وأتذكر أن أحدهم ويدعى "إبراهيم على" قال لي "نحن نعرف السوادين طيبون" وعلى الرغم من أنني عرفت ماذا يقصد بلفظة "سوادين" ، لكن استفسرته قائلاً "ماذا تقصد بلفظة سوادين؟". ثم تعمدت الإشارة إلى ذلك الانطباع السلبي الذي يقرن بين "الطيبة" و"السذاجة". وقلت لهم على أية حال "الطيبوبة" من الخصال الحميدة، لكن لا أعتقد أن الأمر نفسه ينسحب على "السذاجة". ربما يكون العقيد القذافي مثله مثل كثيرين في العالم العربي، يعتقد كذلك أن "طيبتنا" تعني أيضاً "سذاجتنا".
كانت أول واقعة سترتبط في أذهان السودانيين حول منطق "العقيد" في التعامل مع ما يحدث في بلادنا، هي واقعة التواطؤ الذي تم بين "المخابرات البريطانية" والأجهزة الأمنية الليبية، عندما أجبر الليبيون طائرة الخطوط البريطانية التي كان على متنها كل من "المقدم بابكر النور سوار الذهب" و"الرائد فاروق عثمان حمد الله". إذ سلم العقيد القذافي الضابطين السودانيين إلى جعفر نميري، الذي لم يتردد في إعدامهما، على الرغم من أنهما لم يشاركا عملياً في انقلاب 19 يوليو 1971، ذلك الانقلاب الذي بات يعرف في تاريخنا المعاصر باسم "انقلاب هاشم العطا".
لم ينس "العقيد القذافي" أن"الشيوعيين السودانيين" رفضوا فكرة الوحدة الاندماجية بين مصر وليبيا والسودان، أو على الأقل تحفظوا عليها، وكان أن جاء رده بعملية قرصنة جوية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة، وستتجلى في أكثر من واقعة بعد ذلك طبيعة "العقيد"، وطريقة تفكيره. كان الغرور لدى الرجل طاغياً، وإغراءات التدخل في شؤوننا الداخلية لا تقاوم.
الثابت أن أهل الصحراء، يطبعهم "الحذر" وتساورهم الشكوك باستمرار تجاه الآخر، ويتصرفون وفق هذا "الطبع" الذي يغلب على أي "تطبع". وأهل الصحراء تعلموا من "الجمل" الكثير، ومن هذا الكثير أن "الجمل" حيوان صبور لكنه أيضاً حقود لا ينسى، لذلك ينتقم حتى لو مرت سنوات. ظل "العقيد القذافي" في ممارسته السياسية مشدوداً باستمرار إلى طباع أهل الصحراء السلبية، تحركه الشكوك، ولا يتردد إذا كان بإمكانه "الانتقام". وحتى في ظل أوضاعه المعقدة الحالية، أظن أنه وبسبب سلوكه الانتهازي وروح الانتقام المتجذرة ، لن يقدر في جميع أحواله على دور "البطل" وهو قطعاً لا يصلح لدور "الشهيد". ومما يزيد الأمر تعقيداً أن ليبيا ظلت ولأربعة عقود في قبضة هذا الرجل الذي لا يستحق، وفي أحسن الظروف لا يعرف ماذا يريد، تشغله الأوهام وشهوة السلطة. لذلك سنلاحظ أنه أجبر الرئيس المخلوع حسني مبارك أن يناديه بلقبه الجديد في إحدى القمم العربية أي "ملك ملوك أفريقيا". وهو الرجل الذي انقلب على ملك زاهد، انتهى به الأمر أن توهم نفسه "ملكاً على كل الملوك"، وكان هناك من هو مستعد لمسايرته في هذا الوهم.
عندما راحت شقة الخلاف تتسع بينه وبين جعفر نميري، سنلاحظ بوضوح أن علاقاتهما انتقلت من خانة التحالف الوثيق، الذي جعله يختطف طائرة مدنية، لتسليم بابكر النور وفاروق حمد الله إلى حليفه في الخرطوم، إلى خانة العداء المطلق. وهذا ما يفسر كيف راح يستقبل معارضين سودانيين بداية من عام 1974، حيث شكلوا في طرابلس "الجبهة الوطنية"، وتولى تدريب وتسليح قوات هذه الجبهة التي نفذت انقلاباً فاشلاً في يوليو 1976 .
كان دافع "العقيد القذافي" يومها إسقاط نظام جعفر نميري، ولم يكن يهمه من سينفذ، وكيف سينفذ، وماذا سيحدث بعد ذلك. كانت أطراف "الجبهة الوطنية" تضم وقتها شخصيات سياسية تصارعت طويلاً أيام الديمقراطية الثانية، خاصة الصادق المهدي والشريف حسين الهندي، لكن تلاقت أهداف حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي والإخوان المسلمين، مع هدف "العقيد" بإسقاط جعفر نميري. بعد فشل محاولة الانقلاب التي قادها العميد محمد نور سعد، حاولت ليبيا الرهان على قوى أخرى، وكان من بين الذين حاول معهم "العقيد" الشيوعيون السودانيون، لكن يبدو أن الشيوعيين لم يسقطوا من ذاكرتهم قط ما حدث لكل من "بابكر النور" و"فاروق حمد الله".
كان على "العقيد" أن ينتظر حتى عام 1983، عندما تبنى حليفه في أثيوبيا منقستو هايلي ماريام، "الحركة الشعبية" بقيادة جون قرنق، الذي قال في وثيقة التأسيس إن الحركة ستعمل على قيام "سودان جديد على أسس علمانية". بادر الليبيون إلى ربط علاقات مع الحركة الناشئة، وأغدقوا عليها المال والسلاح، ربما كان قرنق يريد فعلاً "تغيير هوية السودان"، لكن" العقيد" كان يريد شيئاً واحداً "إسقاط نظام نميري".
لا توجد معلومات موثقة حول العلاقات بين طرابلس والحركة الشعبية، وكلا الجانبين ظل يتكتم على هذا الأمر. لكن المعلومات المتوفرة تشير إلى أن "العقيد" كان سخياً في البداية، وعندما سقط نظام نميري بانتفاضة أبريل عام 1985، لم تعد ليبيا تكترث لما يبحث عنه السودانيون، أي قيام "دولة مؤسسات ديمقراطية"، بل كان ما يهمها هو الهيمنة على الوضع الجديد.
كانت أوضاع القوات النظامية في الجنوب، في ظل الديمقراطية الثالثة، غير مريحة وغير مواتية، وغير قادرة، بل وفي بعض الأحيان غير مستعدة لمواجهة قوات "الحركة الشعبية". ووجد "العقيد القذافي" أن الفرصة سانحة للعودة إلى الساحة السودانية، خاصة أن من يتولى رئاسة الحكومة حليف قديم، وهو الصادق المهدي، وعندما بادر محمد عثمان الميرغني إلى طلب مساعدات عسكرية من العراق، وهي المساعدات التي أطلق عليها السودانيون يومها "صفقة راجمات الصواريخ"، تحرك "العقيد" وقدم أسلحة إلى الجيش السوداني، وكانت الأسلحة الليبية لا تقارن في كميتها مع أسلحة العراق وما واكبها من ضجة، وذلك ما سمعته شخصياً من الصادق المهدي وضمنته في حوار نشر في مجلة "المجلة" آنذاك.
وأبانت تلك الصفقة أن "العقيد" لم يكن سعيداً بحليفه السابق جون قرنق، وهو أمر لا يثير الاستغراب، كانت تلك هي "أساليب العقيد"، ينقلب على حلفاء الأمس وأصدقاء اليوم، إذ اتضح له أن الأمور لا تسير معهم كما يشتهي.
ليست لديّ معلومات دقيقة حول علاقة "العقيد القذافي" مع الإنقاذ، وإن كنت أرجح أن كلا الطرفين ظل مرتاباً، لذلك اتسمت علاقتهما بالحذر..
كانت من الأمور اللافتة التي استرعت انتباهي في الخرطوم عندما زرتها في ديسمبر الماضي ما يطلق عليه "برج الفاتح"، وعرفت أن الليبيين شيدوا هذا الفندق الضخم. والثابت أن هناك "ذراعاً استثمارياً" لأجهزة المخابرات الليبية التي كان يتولى رئاستها، قبل الأحداث الأخيرة، أبو زيد عمر دورده، هذا الذراع يركز دائماً على الاستثمار العقاري، واشترى عبر رجال أعمال ليبيين هم مجرد واجهات، عدداً من الفنادق في أفريقيا وأوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
المؤكد أن "العقيد القذافي" وجد فرصة سانحة للعودة إلى الساحة السودانية بعد فترة كمون، عندما انفجرت الأعمال المسلحة في دارفور. كانت أبواب طرابلس مشرعة لرجال "الحركات المسلحة"، وكانوا هم في حاجة إلى المال السائل، وعندما وضع "العقيد" الكثير من أوراق دارفور في جيبه كما هي طريقته، راح يتهكم كعادته قائلاً إن مشكلة دارفور سببها جمل.
عن "الاخبار" السودانية
talha@talhamusa.com