عندما تتصارع الأفيال الحشائش وحدها تعاني
كان الرشيد نورالدين، سفير السودان في المغرب في منتصف السبعينات، يردد مثلا انجليزياً يقول "عندما تتصارع الأفيال الحشائش وحدها هي التي تعاني".
كان الرشيد نورالدين عضواً في تنظيم " الضباط الأحرار" أي أولئك الضباط من أصحاب الرتب المتوسطة، الذين خططوا ونفذوا "انقلاب مايو" واختاروا جعفر نميري ليترأس "مجلس قيادة الثورة" وأطلقوا على ذلك الانقلاب "ثورة مايو الظافرة" ولم تكن أبداً "ثورة "وقطعاً لم يكن لها من"الظفر" نصيباً.
لا أعرف لماذا لم يصبح الرشيد نورالدين عضواً في "مجلس قيادة الثورة" ، وفي تقديري أنه كان ضابطاً مثقفاً، قوي الشكيمة.
كانت شخصيته قطعاً أقوى من آخرين في ذلك المجلس، خاصة أولئك الرواد (ابوالقاسم محمد ابراهيم ،ابوالقاسم هاشم، وزين العابدين محمد أحمد عبد القادر) لكن الرشيد نور الدين رضي أن يتولى رئاسة جهاز الأمن القومي( المخابرات) وإدارة " الكلية الحربية" ثم قرر نميري بعد ذلك إبعاده سفيراً إلى المغرب، كما سمعنا وقتها ونحن بعد طلاباً في الجامعة المغربية في سنتنا الأولى.
ولا أستبعد حكاية الإبعاد، لأن نميري كان لديه قدرة اتخاذ قرارات مفاجئة، ومبادرات تصل حد التهور لما يظن أنه الصواب.
كان الواهمون الذين تعاملوا مع نميري، يعتقدون أنهم يستطيعون التأثير عليه، لذلك جميع الذين اقتربوا منه كانوا يذهبون بعد نهاية اليوم، وفي ظنهم أنهم "سيطروا عليه" ولأنه محدود وحاقد، كان يعرف كيف يغدر بهم ويسفه تصوراتهم. وأعتقد أن كثيرين من الذين عاصروا تلك الفترة يمكن أن يحللوا الأحداث، ويكتبوا عن تلك الوقائع، أفضل بالتأكيد من "طالب في السنة الأولى فلسفة" في الجامعة المغربية، ينقل الآن انطباعاته عن سنوات نميري.
ربما كنت من أكثر الطلاب الذين التقوا السفير الرشيد نورالدين، وفي أكثر من مناسبة، كان هناك نقاش يصل حد الجدال، خاصة أن "عدائي" لنظام مايو كان يسير في خط تصاعدي. كنت ألتقيه بصفتي رئيساً لاتحاد الطلاب، ولعلني أتحسر الآن كثيراً، لأنني لم أفطن إلى أنه، وفي أكثر من مناسبة أراد أن يقول لي شيئاً من هذا الذي نسميه "حديث المجالس"، لكن كنت دائماً أتجاسر بصراحة تصل حد عدم اللباقة أحياناً وأقول له" ليس في القنافذ أملس". كان يرد "أنت مازلت صغيراً لتفهم ".
ورد إلى ذهني المثل الذي كان يردده الرشيد نورالدين، رحمه الله، وأنا أتابع " أخبار الخرطوم" هذه الأيام ، وما حدث ويحدث هناك في عاصمتنا التي نحبها، نذهب إليها وكلنا شوق، ونغادرها والتمنيات بالعودة تملأ جوانحنا.
أليس هو "الوطن الحبيب اللعين" كما قال " طيبنا الصالح".
في كل مرة نقول، إن عودتنا قريبة و"دولة المؤسسات" ستأتي. لكن الأيام تمر يوماً بعد يوم وشهراً تلو شهر، وسنة بعد أخرى، ونحن خارج هذا "الوطن الحبيب اللعين". بيد أن المهم أننا لن "نشتري اليأس لأنه من الكماليات".
تقول أخبار الخرطوم، إن قراراً صدر بإعفاء صلاح عبدالله محمد صالح الذي طغى لقبه على اسمه، وأصبح يعرف باسم " صلاح قوش". قرار الإعفاء لم يقل لماذا أعفي الرجل من مهامه، وكان نصه كالتالي " أصدر المشير عمر حسن أحمد البشير رئيس الجمهورية مرسوماً جمهورياً أعفى بموجبه الفريق أول مهندس صلاح عبد الله محمد صالح من منصبه مستشاراً لرئيس الجمهوريةّ".
أمر مماثل حدث عندما أعفي "قوش" من منصبه السابق الأكثر أهمية، أي مدير جهاز المخابرات الداخلية والخارجية. وبالطبع لم يتحدث قوش عن أسباب إقالته في الحالتين.
"مدير جهاز المخابرات" منصب في غاية الحساسية، وفي الديمقراطيات الغربية، عندما يعين شخص في هذا المنصب لابد أن يذهب إلى البرلمان ليقدم تصوراته حول مهمته، والسياسة التي سيتبعها. حتى في "جبل طارق" وهو كيان لا تتعدى مساحته سبعة كيلومترات، يذهب مدير جهاز "الأبحاث والمعلومات" أي مدير المخابرات كما يسمى، إلى البرلمان، ليقول من هو، وماذا سيفعل.
أما عندنا في "وطننا الحبيب اللعين" فإن كبار المسؤولين يعينون ويقالون، ولا أحد يقول لنا لماذا عينوا في مناصبهم، ولماذا أقيلوا، بل أكثر من ذلك "من هم". وسبب ذلك واضح لا يحتاج إلى كثير تفصيل.
نحن دولة يحكمها نظام شمولي، لا يعرف ماذا تعني "دولة مؤسسات"، وإذا عرف لا يعنيه الأمر، لأن ذلك كما قال لي أحد الوزراء " كلام مثقفين لا معنى له على أرض الواقع ". وأضاف: "دولة المؤسسات هي مجرد كلام ساكت".
كل الناس في عاصمتنا، التي نحب، يريدون أن يعرفوا ماذا يحدث في أروقة السلطة، و"حكاية قوش" ما هي سوى عنوان من العناوين. المؤكد أن ما يحدث فيه كل سمات صراعات "مراكز القوى" في الأنظمة الشمولية. ومن أهم هذه السمات، الاعتماد على " الدسائس" لحسم الصراعات.
داخل الأنظمة الشمولية، وخاصة في دول العالم الثالث، ما يحدث في كثير من الأحيان أن الشعوب في هذه الدول، ونحن منهم، ما زالت تعيش مرحلة الغليان والفوران، إلى الحد الذي يجعل من له قدرة تحريك "دبابات ومدرعات" ليلاً والاستيلاء على جسور العاصمة، ومباني الإذاعة والتلفزيون، يتجاسر ويقول "إنه حقق ثورة" إلى حد أن المقدَّم حسن حسين الذي جرب هذا النوع من "الثورات" في منتصف سبعينات القرن الماضي، وعندما وصل إلى الإذاعة ليلقي "بيان الثورة" قيل له إنه لا داعي أن يتحدث عن "حل الأحزاب" لأن "ثورة مايو المظفرة" حلتها قبله، وكان أن أعلن بدلاً من ذلك " حل توتو كورة" وهي هيئة حكومية، كانت قد تأسست لتقنين المراهنات حول نتائج مباريات كرة القدم.
هل حدث هذا..نعم حدث في " الوطن الحبيب اللعين".
شعوب العالم الثالث، ونحن منها، ما زالت تحاول بمعاناة شديدة أن تنتقل من الشرعية التقليدية ذات الأصول القبلية والعائلية والعشائرية وشبه الدينية إلى مرحلة الشرعية الدستورية والقانونية.
وبما أننا عدنا إلى مرحلة "الشرعية التي تبحث عن نفسها في القبيلة" فإن أخبار الخرطوم يمكن فهمها من هذه الزاوية.
وهذا حديث لا أقوله بمناسبة الإعفاءات والإقالات التي تحدث في عاصمتنا،التي نحب، لكن سبق وأن قلته وبوضوح وبتفصيل في تحليل مسهب نشر على صفحة كاملة في صحيفة " الشرق الأوسط"، في 11 فبراير الماضي. وأقول الآن، دون تزيد أو تفاخر في القول، إن اقتباس فقرات من ذلك التحليل، غير متاحة، في صحيفة تصدر في الخرطوم، تسعى جاهدة أن تصدر كل صباح دون أوجاع رأس، ومشاكل مع من بيدهم القرار. تفسيري لما يتواتر إلينا من "أخبار الخرطوم" يوجد في ذلك التحليل المنشور.
لكن الآن، ربما يطرح كثيرون سؤالاً: ثم ماذا بعد؟
حقيقة هذا هو السؤال الذي يتقدم على ما عداه من الأسئلة. وفي هذا السياق وجدت انه يتحتم علي، أن أعود إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي ماذا بعد التاسع من يوليو، حين يرفرف علم الدولة الجارة فوق ساريته في جوبا؟
عندما كنت أكتب وبقيت أكتب، أن الانفصال سيحدث، وهو أمر سمعه مني شخصياً الراحل جون قرنق في التسعينيات في أديس أبابا ، حتى قبل أن تنضم " الحركة الشعبية" إلى " التجمع الوطني الديمقراطي" ، كان ذلك "كلام مجانين" على حد تعبير قرنق.
وما آمله ألا يكون كلامي في هذه المرة " كلام مجانين" أيضاً .
وأختم لأقول ما يزعجني إلى حد الألم أن هذا الوطن "الحبيب اللعين" في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة، يجعلني أكرر كلاماً سبق أن قلته بصيغة أخرى، وهي أن هذا الوطن يشهد حالة من فقدان الثقة بالنفس ولامبالاة، وإحباط استبدت بجماهير واسعة نتيجة إحساسها بأنها ليست فقط معزولة عن المشاركة في صنع القرار، وإنما هي معزولة أيضا عن المعلومات والوقائع المؤدية إلى صنع هذا القرار، وترتب على ذلك أن الجماهير أسلمت نفسها مضطرة للشائعات والأقاويل، إلى حد اعتقدوا أنهم يمكن أن يجدوا في الجلسات حول "بائعات الشاي" في الخرطوم، التي نحب، أخباراً ومعلومات.
كل ذلك تفاعل وامتزج مع بعضه ليصنع أزمة في العقل والنفس ومزاج الناس، لاشك سيكون انعكاسها على أحوالهم في الوطن مقلقاً ومزعجاً.
عن " الاخبار" السودانية
talha@talhamusa.com