مشروع الجزيرة هو بوابة العبور الاخيرة نحو تفكك الدولة السودانية!!. بقلم: صديق عبد الهادي
مشروع الجزيرة هو بوابة العبور "الاخيرة" نحو تفكك الدولة السودانية!!!. (*)
صديق عبد الهادي
Siddiq01@gmail.com
في البداية اود الإعتذار للقراء الكرام عن فترة الانقطاع والتي امتدت لعدة شهور. وهي فترة كانت من ورائها ظروف خاصة، وأخرى تعلقت بضرورة الاشراف والمتابعة لاجل انجاز الطبعة الثانية من كتاب "مشروع الجزيرة وجريمة قانون سنة 2005م" والذي منعت السلطات، ممثلةّ في هيئة المصنفات، نشره في داخل السودان. قامت بتنفيذ الطبعة الثانية "دار صادر" الشهيرة في بيروت بلبنان، وقامت بالنشر "مؤسسة الاقتصادي السوداني" بالولايات المتحدة الامريكية. ولقد خرج العمل في مجمله بمستوىً رفيع يليق بمكانة مشروع الجزيرة وبالتاريخ النضالي المضئ لأهله في رد الظلم ليس عن انفسهم وحسب وانما عن السودان بكامله.
مقدمـــة/
واخيراً انفضّ مولد المماحكات وإستيلاد المواقف المفتعلة فيما يتعلق بقضايا ما بعد اتفاقية السلام ومستحقاتها، حيث وجدت الحركة الاسلامية السودانية نفسها تقف في ساحة ذلك المولد عارية تماماً كما وُلِدتْ في صبيحة الثلاثين من يونيو عام 1989م. إنحاز الجنوبيون بنسبة فاقت الـ 98% لخيار الإنفصال، وأعتقد ان بقية اهل السودان، وفي مناطقهم المختلفة، ما كانوا ليتوانوا في إحتذاء حذو سودانيي الجنوب إذا ما خُيِروا في امرهم من شيئ. والغريب في الامر ان جلَّ السودانيين كانوا يتوقعون ذلك الانحياز "المُر"، إلا حزب المؤتمر الوطني، بالرغم من انه، اي حزب المؤتمر الوطني لم يترك، وبفضل سياساته، ولو سبباً واحداً لاهل الجنوب ليقفوا غير ذلك الموقف، أي تفضيل الانفصال على ما عداه.
اكد هول الواقعة على حزب المؤتمر الوطني جملة حقائق مهمة، منها ان نظامه، وبكل إستراتيجيِّه ومفكريه، لم يكن ليضع في الحساب فقدانه لعائد البترول الذي احدث به كل هذا الزخم الاقتصادي الطفيلي والمتمثل في الانفاق فيما لم ينفع عامة الناس، ومنها ايضاً ان الاهتمام بالقطاعات الاقتصادية ذات الافضلية المقارنة (Comparative Advantage) بالنسبة للسودان، وخاصة الزراعة، لم تكن تحظى باهتمام سلطة الانقاذ، بحسب انها، اي الزراعة، هي مستقبل السودان، ولا ادلَّ على ذلك من أن سدنة السياسة في نظام الإنقاذ ضنُّوا على مشروع الجزيرة بمبلغ 152 مليون جنية اي ما يعادل 55 مليون دولار، وهو مبلغٌ كان كافياً لتأهيل المشروع وقتذاك. ضنَّوا به في حين انهم انفقوا ملياري دولار لاجل بناء سد مروي!!!. وتلك كلها امور ذات أبعاد اخرى سنأتي لمعالجتها مؤخراً.
هذه المقدمة ضرورية بالنسبة لهذا الموضوع الذي نحن بصدده، اي تفاقم الوضع في مشروع الجزيرة، والذي بمآلاته النهائية سيلعب دوراً مفتاحاً في بقاء الدولة السودانية او تفككها ومن ثمَّ زوالها. فليست هناك من استحالة للحدوث إذا ما ظلت الامور تجري على ما نراه.
لا يختلف الناس في السودان ولا يكابرون حول الدور الذي لعبه أهل الجزيرة ومشروعهم في تطور السودان، وحتى لا تضيع الحقائق وتندثر المعارف تحت غبار اللجاج الخاوي الذي يجيده منتفعو نظام الانقاذ و"طلائع" الراسمالية الطفيلية الاسلامية (رطاس)، نجد انه لابد من إضاءة بعض الجوانب العميقة، سمها إن شئت المعرفية في محتواها، والتي إقترنت بوجود مشروع الجزيرة.
أولاً/ إن قيام وتأسيس مشروع الجزيرة مثَّلَ تحولاً عميقاً في تاريخ السودان وبالقطع في تاريخ المنطقة ايضاً. ينظر كثيرٌ من الكُتَّاب اول ما ينظرون إلى التحسن الذي طرأ على مدخولات الناس، ولكن الامر في جوهره ابعد من ذلك، وهو ان مشروع الجزيرة نقل جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي في السودان من حيز القطاع التقليدي إلى حيز القيام على اسسٍ حديثة، وبكل ما يعنيه ليس فقط التحديث، وإنما بكل ما تعنيه "الحداثة" بمفهومها المعاصر. فالنقلة لم تُترجم فقط في تنوع ما هو منتج، وإنما إنعكست في شكلٍ جديدٍ للعلاقات الاقتصادية والانتاجية لم يألفه السودان من قبل، اي في شكلٍ جديد عُرِفَ بـ "علاقات الإنتاج" في الجزيرة. وقد تبعت ذلك تحولات إجتماعية، وسياسية وثقافية بل ومعرفية مثَّلت في مجملها الخيوط الرابطة بين التحول العميق، الذي احدثه أهل الجزيرة بنشاطهم الاقتصادي، وبين مفهوم الحداثة.
ثانياً/ إن علاقات الانتاج تلك كانت تستند إلى قانون محدد تحتكم إليه الأطراف التي تربطها تلك العلاقات الانتاجية، وهي المزارعون والحكومة المركزية وإدارة المشروع. فلذلك لم يعرف اهل الجزيرة الحكومة المركزية من خلال المواطنة فقط كبقية اهل السودان ، وإنما خبروها كذلك من خلال علاقتهم الخاصة بها كطرف في صيغة تعاقدية لم تتوفر لبقية اهل السودان ولم يتوفروا هم على تجربتها. وبحكم هذه الحقيقة التاريخية فإن اهل الجزيرة ومن بين كل السودانيين هم الأدرى بطبيعة الحكومات وبوعي ، وفي هذا السياق سوف لن تكن سلطة الانقاذ إستثناءاً قط!!!.
ثالثاً/ إن المؤسسات الاجتماعية التي ارتبط وجودها بفضل قيام المشروع هي التي شكلت حياة الناس اليومية في الجزيرة، وميزت خبرتهم في التعامل مع قضايا وجودهم كمجتمع. تشكل وعي اهل الجزيرة من خلال مؤسسات اجتماعية ديمقراطية المحتوى، كانت تنتظم كل المشروع بقراه وبمدنه. كان المزارعون يمارسون حقهم الديمقراطي في انتخاب اعضاء مجالس الانتاج التي كانت توجد في كل قرية، كَبرتْ ام صغرتْ. وقد كان لهذه المجالس دورٌ فاعل في حياة الناس وفي نشاطهم الاقتصادي. وكانت هناك ايضاً الجمعيات التعاونية والتي لم تكن مؤسسات ذات دورٍ إقتصادي فحسب وانما كانت وسائل واقنية حاملة للوعي الديمقراطي وترسيخه. فالحركة التعاونية في منطقة الجزيرة كانت لاتضاهى، بل اصبحت جزءاً من مصفوفة التركيب الاجتماعي للحد الذي جعلها واحدة من القنوات المهمة الكبرى لتخديم واستيعاب القوى العاملة، وذلك مثل مطاحن قوز كبرو ومصانع النسيج التي استولت عليها الراسمالية الطفيلية الاسلامية (رطاس)، وسطتْ عليها دون مراعاة لحرمة الملكية الخاصة وقدسيتها!!!. كل تلك المؤسسات كانت شركات مساهمة وبمال المزارعين الخاص، وذلك بالطبع لمنْ لا يعلم بهذه الحقيقة الفاقعة.
هذه المؤسسات كانت تمثلُ اشكالاً حديثة لصياغة العلاقات بين الناس إن كان في مدن او قرى مشروع الجزيرة. وقد كانت إدارتها وإنتخاب قيادتها تمثلُ وسائلاً متقدمة في ترسيخ العمل والفهم الديمقراطي. وهذا ما لم يتسنَّ لمناطق عديدة وقطاعات واسعة من اهل السودان، بل ان غالبية ساحقة من سكان السودان كانوا خارج دائرة الحداثة وقت كان اهل الجزيرة يمارسونها عملياً وفي حياتهم اليومية.
رابعاً/ كان اهل الجزيرة يقومون بانتخاب واحدة من اكبر نقابات السودان الا وهو "إتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل" الذي تشكل وتأسس منذ العام 1953م. يضم الاتحاد في عضويته اكثر من 125 الف مزارع ومزارعة. وهنا لابد من إشارة ضرورية، وهي ان عدد المزارعات النساء في مشروع الجزيرة يقارب 14%، اي ان ما يقارب 17,500 من نساء الجزيرة كن يمارسن حق الانتخاب الديمقراطي في كبرى نقابات السودان. لا اعتقد ان هناك من نقابة واحدة في السودان كان ان تمتعت بهذه الصفة المائزة المتمثلة في وجود هذا العدد الهائل من عضوية النساء، بالطبع واضعين في الاعتبار نسبية الظرف التاريخي. فهؤلاء النساء من جانب آخر هن اللائي ساهمن في تشكيل الوعي المتقدم لكل الاجيال في منطقة الجزيرة.
خامساً/ ساهم اهل الجزيرة وبفضل الوعي الذي نشأ وإرتبط بممارستهم لنشاط إقتصادي حديث، عززته كذلك خبرة العمل من خلال المؤسسات الديمقراطية السالف ذكرها، ساهم وبفضل كل ذلك اهل الجزيرة في إحداث كل التحولات السياسية الكبرى في تاريخ السودان الحديث، وذلك من قبل الدولة المهدية، مروراً بها وبطرد المستعمر، بدايات مؤتمر الخريجين، ودور اتحاد المزارعين على سبيل المثال في الاستقلال، وثورة اكتوبر 1974م، وانتفاضة ابريل 1985م، وإحتضان اول مؤتمر لقوى الانتفاضة في حاضرتهم ود مدني، إلى الوقوف وليس الانتهاء بالمواقف الفذة لتحالف المزارعين الآن في وجه محاولات الراسمالية الطفيلية الاسلامية (رطاس) الهادفة لتصفية المشروع والقضاء على اهله.
سادساً وأخيراً/ كل هذا الأرث البائن والطائل، وكل هذه الاشكال المتقدمة للحركة الاجتماعية في الجزيرة، والتي هي اشكال ديمقراطية حقيقية في جوهرها، لعبت دوراً متعاظماً آخر وهو لايتمثل فقط في إتاحتها إمكانيات اكبر للتمازج وقبول الآخر وإنما في إضعافها للحس القبلي وبالتالي في تضييقها نطاق الاسباب التي من الممكن ان تفتح مصاريع ممارسة العنصرية. كل ذلك جعل من منطقة الجزيرة مثالاً حياً للتعايش السلمي، ونموذجاً ساطعاً للتنوع الاثني والعرقي في السودان، بل ونموذجاً للدولة السودانية في المستقبل. دولة مبرئة من درن العنصرية البغيضة وتهمتها. تلك التهمة المؤكدة التي اصبحت ترتبط بالحركة الاسلامية السودانية وتحيط بممارساتها كما السوار بالمعصم.
كانت الاضاءات المتقدمة اعلاه مهمة في سبيل ما نحن بصدده في المقالات القادمة من كشفٍ لمخططات الراسمالية الطفيلية الاسلامية (رطاس) تجاه مشروع الجزيرة وتجاه ملاك ارضه وتجاه اهله في العموم.
المقال القادم:
ولماذا تضمر الحركة الاسلامية كل تلك الكراهية العميقة المستترة تجاه منطقة الجزيرة؟
ـــــــــــــ.
(*) ورقة تمّ تقديمها في ندوة تدشين كتاب "مشروع الجزيرة وجريمة قانون سنة 2005م" والتي كان ان إستضافها منبر 21/24 بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الامريكية في يوم السبت 30 ابريل 2011م.
(**) نُشِر بـ"جريدة الأيام" 29 مايو 2011م.