الإسلاميون الجُدد؛ بولاد وخليل والطاهر الفكي نموذجاً؟!

 


 

 



-    أياً كانت المشاعر الجياشة، غضباً أم حُزناً نبيلاً، ومهما تكُن درجة الأسى وهول الصدمة، فإن الشُهداء لا يُرثون بالنواح والعويل والدموع، وإنما بالقبض على جمر القضية وإستخلاص الدروس والعبر، والخروج بأسرع ما يُمكن من دائرة رد الفعل الآنية الغاضبة، ثُم التفكير بعقل بارد وإعادة تقييم المسيرة بكُل ما رافقها من أخطاء كبيرة وإنجازات باهرة، فمسيرة د. خليل السياسية وتمرده على أقرانه الإسلاميين التقليديين وعملية إغتياله تحمل في طياتها دلالات ومؤشرات غاية في الأهمية والخطورة، ليس فقط على حركة العدل أو المُهمشين المظلومين في كاودا والكُرمك والمناصير والجزيرة وبابنوسة وهمشكوريب وفي معسكرات النزوح واللجوء وأحزمة الفقر حول العاصمة التي تُسمى زوراً بالعاصمة الوطنية/القومية، وإنما سوف يمتد تأثيرها على حاضر ومستقبل السودان كُله، وبها إنتقل الصراع نقلة نوعية فارقة، إذ ليس سراً أن هُنالك أصواتاً في الحركات المُسلحة ظلت تدعو بإلحاح إلى نقل العمل المُسلح إلى مركز إصدار القرار (الخرطوم) وحجتهم القوية في ذلك أن أطراف السودان دفعت ثمناً باهظاً- تضحيةً بالأنفس وتدميراً للممُتلكات وحرقاً للقُرى واغتصاباً للحرائر وإبادةً جماعية أثبتت وقائعها أرفع سُلطة عدلية في العالم- بينما ظل المركز آمناً لا يحس ولا يتعاطف.
- ليس سراً كذلك ،أن هُنالك من يذهب أبعد من الدعوة لنقل الحرب إلى المركز، ليخلص إلى أن نظام الإنقاذ فقد المرجعية والبوصلة الفكرية منذ المُفاصلة الشهيرة والتخلي عن المشروع الحضاري وحل الحركة الإسلامية، وبمرور الوقت أصبح النظام يتمحور في شخصيات يتقلص عددها ولا يزيد، ثُم أنه وبعد تحجيم علي عُثمان وطرد صلاح قوش وإذلال نافع (وإرغامه على لحس كوعه وبلع إتفاقية أديس أبابا)، أصبح البشير هو لويس السادس العشر السوداني (أنا الدولة والدولة أنا(. كما من المعروف أن إتفاق الدوحة الأخير مُفصل على مقاس شخصُ فرد هو د. التيجاني السيسي، وللأسف الشديد فإن عملية إغتيال د. خليل تمت بناءً على هذا النمط من التفكير الذي يتوهم أن حركة العدل والمساواة هي خليل، وخليل هو حركة العدل (كما صرح أحد أغبيائهم الإستراتيجيين مُنتشياً للفضائية السودانية)، ناسياً إنه بقوله هذا وبفعل حكومته إنما يُعزز منطق دُعاة إختزال الصراع في أشخاص ويسوغ بالتالي عمليات الإغتيال (الذي إبتدروه وعليهم تحمل تبعاته- كما توعدهم قادة العدل والمساواة).
-    إنه مما يحُز في النفس أنه لم تخرج حتى ولو مسيرة واحدة تدعو لوقف الحرب في الجنوب طيلة سنوات الحرب الأهلية الضروس في جنوب البلاد والتي امتدت لما يُقارب نصف قرن من الزمان، ولئن زعموا ان الجنوبيين كُفرةُ والجهاد ضدهم فرض عين، فهل حفظة القُرآن في دارفور كُفار فُجار أيضاً؟!. كذلك لم تخرج  أي مسيرة تُطالب بوقف الحرب في دارفور وجبال النوبة والأنقسنا (مُجرد وقف الحرب لدواعٍ إنسانية –دعك عن الإنحياز لقيم الحق والعدل والمواطنة) في الوقت الذي خرجت فيه المُظاهرات المليونية نُصرةً لغيرهم في فلسطين وسوريا وليبيا واليمن، مع أن الدين الذي يجمعنا يقول أن "ذوي القُربى أولى بالمعروف". ولعله مما يزيد المرء حُزناً على أسى خروج موكب لنساء المؤتمر الوطني فرحات بموت من كان ذات يومٍ قائدهن في التنظيم الرسالي الإسلامي، وهن بفعلهن هذا الذي لا يمت لتعاليم الإسلام بصلة ولا إلى عادات وتقاليد وإرث شعبنا الكريم يثبتن أنهن حقاً ناقصات عقل ودين (وفقاً لرؤية أخوتهن وبعولتهن في المؤتمر الوطني). 
-    على حركة العدل والمساواة الكف عن إصدار أي تهديدات غير واثقة من قُدرتها على تنفيذها بكُل دقة وبنجاح تام، وذلك حفاظاً على مصداقيتها (فالسوًاي ما حدًاث)، كما يجب عليها الإفصاح عن كافة المعلومات المتوفرة لديها عن عملية الإغتيال بكُل صدق وشفافية وصراحة، فمن حق الشعب أن يعرف من الذي تآمر ومن الذي خطط ومن الذي شارك في المؤامرة، ومن المسئول إن كان ثمة تقصير في حماية وتأمين قادتها (علماً بأن الإقدام ليس صنواً للتهور)، كما ينبغي عدم إستعداء أي جهة دون توفر أدلة كافية، وتحديد مصدر واحد للتصريحات والتعامل مع الإعلام، ومع أن كُل القرائن تومئ إلى أن الجيش السوداني ليس مؤهلاً للقيام بمُفرده بهذه العملية التقنية الدقيقة، إضافةً إلى أن تضارب تصريحات وزير الدفاع والناطق الرسمي ورئيس الجمهورية تؤكد بما لايدع مجالاً للشك بأنهم لم يكونوا مُدركين حتى للكيفية التي اُنجزت بها عملية الإغتيال. فالكاذب الرسمي (الصوارمي) يقول أن الشهيد/خليل، قُتل في إشتباك (حتى يدرأ عن جيشه سُبة إدخال سُنة وثقافة الإغتيال) بينما يؤكد وزير الدفاع أن عملية الإغتيال تمت بإستخدام تقنيات مُتقدمة ساعدت على تحديد الهدف بدقة (نافياً بذلك تصريح الناطق الرسمي) ثُم يأتي رئيس الجمهورية لينفي قول الإثنين، ليزعم أن موت خليل كان قضاءاً وقصاصاً ربانياً!!. وبآخرة يأتي الخبير الإعلامي "ربيع عبد العاطي" ليشجب تهديد حركة العدل بالإقتصاص لمن قتل قائدها مُتباكياً على الأخلاق السودانية التي لم تعرف الغدر والإغتيالات السياسية، وخلاصة القول "أن من يزرع الموت لا يحصد الحياة".
-    أياً كانت الجهة الإقليمية التي دبرت أو ساعدت في تنفيذ عملية الإغتيال، فإن على الحركة التريث والإبتعاد عن الوساطات في الوقت الراهن على الأقل، فثمة شكوك تدور حول الوسطاء ونزاهتهم وحيادهم ومقدرتهم أو إمتلاكهم لمؤهلات الوساطة، فقضية دارفور والسودان عموماً تتعلق بالمُشاركة في السُلطة والثروة إستناداً على نظام حُكم ديمقراطي، ولعل أكثر دولة إنغماساً في الشأن السوداني، في حاجة إلى وساطة الآخرين لمُساعدتها في إقرار هذه المبادئ والعمل بها وقديماً قيل (فاقد الشئ لا يُعطيه)، كما من الواضح أن من شارك في عملية الإغتيال لا يعرف شيئاً عن التركيب النفسي للشخصية السودانية، فالمثل الدارفوري يقول ما معناه "ضرب الكلب أمام سيده حقارة"، دعك عن إغتيال إنسان زعيم (إن صح الإتهام)، ومهما يكُن الامر فإن منبر الدوحة شبع موتاً بإغتيال خليل.
-    إن الناظر بتمعن لعلاقة المُتعلمين من أبناء الريف عامةً (وكُردفان ودارفور تحديداً) بالحركة الإسلامية، يُلاحظ أن الناشطين سياسياً منهم كانوا نافرين من الأحزاب الطائفية (الأُمة والإتحادي) التي لم يكُن لها أي وجود فعال في مؤسسات التعليم العالي، وأن أغلب هؤلاء الناشطين السياسيين كانوا موزعين على التيارين العقائديين (اليساري/العلماني والإسلامي/الأصولي)، وقد كانت الكفة مائلة لقوى اليسار (الجبهة الديمقراطية) في عقدي الخمسينيات والستينيات، ولكن وبإكتمال مرحلة التحرر الوطني وتحول النظم الإشتراكية إلى أنظمة إستبدادية وبالتالي خفوت بريقها، بدأ الميزان في التحول التدريجي لمصلحة التيارات الإسلامية بمختلف مُسمياتها، وانقلب الميزان لصالحها تماماً بالسقوط المدوي للنظام الإشتراكي. ولقد كان أبناء الريف (دارفور وكُردفان والجزيرة،، إلخ) هُم عماد حركة الإتجاه الإسلامي  في جامعة الخرطوم التي تُعتبر "مع رصيفتها جامعة القاهرة/ فرع الخرطوم" رُمانة ميزان العمل السياسي الطُلابي. ظل هذا الوضع سائداً حتى قيام الإنقاذ 1989، ولكن ومع مُمارسة الإسلاميين الفعلية لعملية الحُكم بدأ واضحاً أن مجموعة مُعينة (أبناء الوسط والشمال النيلي) إستأثرت بمفاصل الحُكم ومكامن الثروة، وتركت الفتات "والجهاد" لزُملائهم القادمين من الهامش، وصدر الكتاب الأسود الذي كان بمثابة المانيفستو الذي صب الزيت على نار دارفور (البعض يرى أنه الشمعة التي أضاءت الطريق وقرعت جرس الإنذار)، ولعل القيادي الإسلامي، الشهيد/ داؤد يحي بولاد، من أوائل الذين فطنوا إلى أن أخوانه في التنظيم الرسالي  لا يهدفون إلى تمكين للدين أو إقامةً لشرع الله، وإنما إستغلاله بُغية الإستحواذ على السُلطة بإعتبارها أيسر السبُل لإكتناز الثروة والمحافظة على الإمتيازات التي تمتعت بها المجموعة العربوإسلامية منذ أن وطئت قدما عبدالله بن أبي السرح أرض رُماة الحدق (وإبرامه لإتفاقية البقط 31 هـ، التي نصت على منح الغُزاة عبداً كُلما أشرقت شمس يوم جديد!!).
-    لقد أجاد بروفيسور/ عطا البطحاني، تلخيص هذه الرؤية، حيث يورد في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "أزمة الحُكم في السودان- أزمة هيمنة أم هيمنة أزمة!!"، ص 142 (إستولى ضباط الجيش من الإسلاميين زاعمين في سياساتهم المُعلنة "إنقاذ" البلاد ومحاربة الفساد وتحريك جمود الإقتصاد برفع قيود الدولة والمحافظة على الوحدة الداخلية "وحدة الأمة وتماسكها"، وفي الواقع كان القصد هو إنقاذ وضع البرجوازية العربية الشمالية المُسلمة بقيادة أقوى شرائحها تنظيماً- الجبهة القومية الإسلامية- وإن جاء ذلك تحت راية الإنقاذ الوطني)- إنتهى الإقتباس. 
-    ولعل في تصريح د. التُرابي حول التقارب بين الحزب الشيوعي والمؤتمر الشعبي، وتبريره لهذا التقارب بالقول "إنهم تطوروا وكذلك نحن" إيماءة إلى التغيير الذي حدث في تفكير الإسلاميين الجُدد من أبناء الهامش السوداني، إذ أدركوا أن قضيتهم ليست مُصادمة الشيوعيين واليساريين حول رقصة العجكو أو مدى إحتشام أزياء بنات الجامعات والعاملات وغيرها من القضايا الإنصرافية، وإنما أدركوا أن عليهم مسئولية أخلاقية تجاه أهلهم في الأرياف الذين يتطلعون إلى أبسط أساسيات الحياة البشرية- بئر ماء وعملٍ كريم ومدرسة إبتدائية وشفخانة ونقطة بوليس وطريق مرصوف وآمن إذا سمحت الظروف (أو كما يقول المتصوفة؛ رغيف خبز ناشف من طاهية، وكوب ماء بارد من صافية، وحجرة نظيفة نفسك فيها خالية، ومسجد من الورى في ناحية). لقد توصل أبناء الهامش السوداني (يساريين وإسلاميين) إلى أن هذه المطالب التنموية العادية لن تتحق بدون إستقرار ولن يتحقق الإستقرار بدون عدالة ومساواة، ولن تسود العدالة والمساواة إلا بإقامة دولة المواطنة المُستندة على نظام ديمقراطي يحترم آدمية الإنسان وحقوقه دون إستعلاء أو إقصاء. وعلى الجانب الآخر أدركت قوى اليسار (الذي نعتز بالإنتماء إليه منذ بواكير الصبا) أن قضيتهم ليست في إثبات مدى صوابية التفسير المادي للتاريخ ونظرية فائض القيمة ودكتاتورية الطبقة العاملة،، إلخ من المُصطلحات التي لا تعني أكثر من رُطانة ثقافية (وكلام كُبار كُبار) وترف فكري يُعبر عن الإنفصام عن الواقع، وإنما القضية والمسئولية تكمن في كيفية تلبية إحتياجات عامة الشعب "التي أشرنا إليها أعلاه"، ولذا كان التقارب الذي سارعت وتيرته وفرضته مُمارسات النخبة العربوإسلامية المُتدثرة بشعارات الشريعة الإسلامية، التي فشلوا في تطبيقها طيلة ربع قرن من الحُكم المُطلق.
-    قال د. حيدر إبراهيم، في مقاله بعنوان "السودان.. صناعة الموت وضرورة البديل" المنشور مؤخراً بالمنابر الإسفيرية (... فالصراع سياسي-إقتصادي وما القبلية والجهوية إلا أقنعة لإخفاء الأسباب الحقيقية) ودعا حركة العدل والمساواة إلى المُبادرة بطرح برنامج قومي ينتظم كافة قوى التغيير قائلاً (..وهذا الخطاب الجديد للحركة يهدف لطمأنة الآخرين، ولإثبات أننا أمام حركة قومية تسعى لجمع السودانيين الديمقراطيين جميعهم، في منبر موحد ومستند على برنامج الحد الأدنى)؛ وعلى ذات النهج أرسل المرحوم/ الخاتم عدلان، رسالة إلى الشهيد/ د. جون قرنق في 25 أغسطس 2004- كتاب "ما المنفى وما هو الوطن"/ الخاتم عدلان ص 192، جاء فيها (إننا ندعو الحركة الشعبية إلى أن تضع هذه المهمة - مهمة توحيد القوى ولم الشمل وصياغة برنامج شامل لمستقبل البلاد- في طليعة أولوياتها.... وأن تدعو إلى مؤتمر قومي لتعريف وتوضيح أفضل الطُرق لتعاونها), ولعل بيان الجبهة الثورية السودانية ورسالته الأخيرة إلى تحالف المعارضة، يأتي إستلهاماً لهذه الأفكار؛ التي سبقهم إليها جميعاً قبل ستة عقود الراحل المُقيم ثاقب الرأي/ عوض محمد عبدالرازق في تقريره الشهير لمؤتمر الحركة الوطنية للتحرر الوطني في أكتوبر 1952. وسوف ننشره عليكم في الاسبوع القادم بإذن الله، مع بعض الهوامش على متن ذلك السفر السامق. 
وكُل عام وأنتم بخير، وربنا يرفع البلاء عن وطننا الحبيب

مهدي إسماعيل مهدي
بريتوريا/ 05 يناير 2012
mahdi osman [mahdica2001@yahoo.com]

 

آراء