خصخصة الدفاع في ظل العولمة العسكرية 2-2
م. أبي عزالدين عوض
21 May, 2012
21 May, 2012
ويهمنا التساؤل عن الدول العربية و الإسلامية التي تستطيع تقديم بعض الخدمات الدفاعية بكفاءة، فقد نجد بعضا من ضالتنا في مصر (إن لم نتكامل معها) و باكستان و إندونيسيا و الجزائر و إيران وتركيا، دون أن يكون ما نبحث عنه هو شركات متعددة الجنسيات ودون أن تكون غطاءا للجهات التي تندرج تحت خانة (آخرين من دونهم لا تعلمونهم)، أو تكون حصان طروادة الذي نحتفي بصهيله، مثل احتفاءاتنا الدائمة بصهيل طروادة منذ نيفاشا !
فالتجارب عديدة لهذه الخصخصة العسكرية حتى في بعض الدول العربية، وإن انتقصت شيئا طفيفا من سيادة بعضها، ويمكن الإستفادة من تجارب الدول الشقيقة في كيفية ضمان خصخصة الخدمات الدفاعية دون تهديد الأمن القومي، مثل دولة الإمارات التي لدينا معها تعاون أمني معلن.
ومن الطبيعي أن الذي يمنع خصخصة بعض إدارات وخدمات وزارة مهمة وحساسة مثل الدفاع، هو خوفنا من الإختراق الداخلي و الخارجي، وكشف المعلومات لمن لا يستحقها، و التشكك في نية وسلامة مقصد الجهات التي ستمسك بزمام الأمور، ولكن نفس الأمر والإختراق قد يحدث بدون خصخصة، ونعلم أن جزءا من الطابور الخامس يعمل في مؤسسات الحكومة ويجتهد سرا أن يدمر أو يعطل عجلة العمل بدهائه في أي وزارة أو إدارة يختبئ بها، مكايدة للحكومة وإذكاءا لنار معارضتها وتأليبا للشعب المصطلي، ومن السنن الإلهية أنه سيكون هناك دوما (آخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم)، و لكن يمكن – على قدر الممكن - أن نضع الضوابط المناسبة لضمان قيام الجهات المتعاقد معها بالعمل لصالحنا قدر الإمكان، ودونكم الأعداد الهائلة من الأجانب و ذوي الأصول الشرقية من العلماء و الضباط و المقاتلين القاتلين والعاملين والمستشارين في وزارة الدفاع الأمريكية و وكالة ناسا و غيرها..
أما إن استعصى الأمر على عقول التقليديين و نفوس الروتينيين وأثار اللغط والسخط، فيمكن الخصخصة الجزئية لإدارات و قطاعات معينة نحتاج فيها للحداثة و للتنافسية و لمواكبة العولمة العسكرية و الأمنية حفظا لأنفسنا بتقدير أخف الضررين. ويمكن تجهيز القطاع الخاص المحلي تدريجيا و تدريبه ليقوم بهذه المهمة على أفضل ما يكون بأفضل المقاييس الدولية و معايير الجودة المعتمدة في هذا القطاع الحساس.
ومما يتحرز له هو امكانية استجابة الجهات الخاصة لأي ضغوطات دولية مستقبلية أو عقوبات دولية بسبب استقلالية القرار السياسي، بعكس الجهات الحكومية التي تتبع للإرادة السياسية الحاكمة في السودان والتي لها ثوابت لا تحيد عنها، ولا يمكن أن تعاقب نفسها !
وكذلك أن تقوم الجهات الخاصة برفع الأسعار والتكلفة عند قيام أي حرب محتملة في المستقبل مع الدول العدائية في الإقليم الإفريقي، أو بالضغط علينا بمغادرتها أرضنا حين تشتد علينا الخطوب (وهي التي لم ترضع أن الشردة عيب و شينة). ومثال لذلك إن كنا نستخدمها في مهام الرقابة الحدودية ونشأت توترات حدودية، فيمكن لهذه الجهات استغلال ازدياد حوجتنا لها لرفع تكلفتها بصورة مبالغ فيها بحجة ازدياد المخاطر، مما يفجأ وزارة المالية ومن ورائها البرلمان، أو يرهق وزارة الدفاع في أوقات حساسة تحتاج لتركيز الجهود.
من جانب آخر فإن من إيجابيات الخصخصة هو سهولة الإقالة والغاء العقد لعدم الكفاءة وعدم إنجاز العمل في موعده ولعدم الإلتزام بالمعايير العالمية التي نحتاج لها.
و تتخوف الجهات الخاصة من اقصائها نظرا لوضوح معايير المنافسة والتوظيف و الإقالة و فسخ عقود المسؤولين، في حين أن الإلتزام بهذه المعايير بدون الخصخصة هو أقل من ناحية عملية و يخضع لمعايير أخرى، منها العامل الإنساني، الذي ينتفي بالخصخصة في الشؤون العسكرية التي لا تتحمل المجاملات.
ومن الضمانات أن نراجع سياسات التوظيف لدى هذه الشركات الخاصة التي تقدم الخدمات الدفاعية، فبمثل ما سيتم إطلاعهم على بعض خصوصياتنا، علينا الإطلاع على بعض خصوصيات هذه الشركات الضخمة، وإدراج موافقتنا على العقد المشروط بصحة الوثائق الأخرى عن سياسات الشركة وإدارة الموارد البشرية فيها وبعدم تغييرها إلا بالرجوع إلى وزارة الدفاع السودانية، كجزء من العقود الموقعة، إضافة للإتفاق على حاكمية القوانين التي يتم الإرتكان إليها في حال الخلاف أو الإشتباك أو الإعتداءات أو التقاضي والإختلاف.
وهناك نقطة جدلية يجب الإلتفات إليها، وهي أن ارتفاع الرضا الوظيفي يؤدي لارتفاع الولاء ، فهل إن كان الرضا الوظيفي في إحدى إدارات وزارة الدفاع، يرتفع بالخصخصة، فهل هذا يؤدي لارتفاع الولاء و نقصان احتمالات التسريب والطوبرة ؟
يجدر بالذكر انتصارا للخصخصة، أنه في زمن العولمة صار من الطبيعي أن تمسي الخبرة المتراكمة منهكة القوى و منتهية الصلاحية وضعيفة الأثر، أمام المهارات العالية الحديثة والمعلومات المحللة المتوافرة بكثافة والخبرة العولمية الجديدة التي كانت غير متاحة لأجيال القرن العشرين الماضي.
إن ما يتضح هو أنه لا يمكن إغفال ما أصاب العالم من عولمة بإيجابياتها و سلبياتها يجب علينا حسن التعامل مع آثارها الماضية و الحاضرة، و المرونة مع واقعها و استشراف سيناريوهات مستقبلها، وإلا بقينا على تخلفنا في هذا المجال، وسيصير من السهل حينذاك على أي طائرة أن تخترق مجالنا الجوي، لتفعل ما تريد، وتعود أدراجها واثقة من أنه لن يصيبها مكروه في السودان، وسينتهك الأعداء أجواءنا بثقة كاملة أنه لن يتم رصدهم أو إصابتهم أو تعقبهم!
وإن تأمين الحدود يعني حفظ سيادة و هيبة الدولة، لذا يبدو من الصعب على النفس أن تتقبل الإستنصار الخارجي بخصخصة الخدمات الدفاعية التي تحفظ للدولة سيادتها و هيبتها، ولكن ذلك قد يبدو لدول كثيرة في العالم خيارا أفضل من فقدان السيادة و الهيبة و الأمن للوطن و مواطنيه.. وهذا حتى حين...
أما إن كانت هناك حلول أخرى أفضل و أنجع و أقوى وأكثر أمانا للمواطنين و الوطن، فمرحبا بها إن صدقت النوايا، و إن تم بناء الأسس و المعاني بعد ترتيب الأولويات، وإن تم الإعداد لدقة التصويب الإستراتيجي قبل الإعداد لدقة البيادة و الحذية، وإن تم حقيقة ً تطبيق ما نرى في العروض العسكرية المشرفة، دفاعا عن هذا الوطن وأهله وعباد الله فيه. وحتى لا نحتاج لخصخصة أدوات السيادة لنيل السيادة! وحتى لا تطل أفكار الخصخصة برأسها - رغم أنها ليست عيبا أو انتقاصا لقواتنا الباسلة وتاريخها المجيد - في ظل توجه عالمي نحو الخصخصة، حتى في أعظم الدول إداريا وأمنيا وعسكريا، لمقابلة التحديات الجديدة المتجددة و المهددات الكامنة، التي أفرزتها عولمة النظام الجديد في كل شبر في العالم، وتغير العقائد العسكرية نفسها، واختلاف نظريات الدفاع ومعاني السيادة عما كانت عليه في القرن العشرين، الذي ولى إلا غير رجعة.
ومن الفرص التي تقدمها العولمة و خصخصة بعض الدفاع، هو رفع مستوى التأهيل و التدريب بأنواعه، بما فيها: العملياتي و التكتيكي و الإستراتيجي، بأن تكون خطة الخصخصة عكسية مثل التمويل التناقصي، بأن بتبدأ بنسبة مئوية معينة من الخصخصة تكون هي الأعلى ولا ترتفع، بل تتناقص تدرجيا كسياسة توطينية للخدمات الدفاعية، وما يتبعها من صناعات.
بل يمكن أن تدخل الخصخصة الجزئية مجال التوجيه المعنوي، بوجود مراكز متخصصة في دراسات الرأي العام و اتجاهاته و التأثير على السلوك الجماهيري بصورة إيجابية..
ومن قراءة الواقع أمام العين المجردة، فإن أكثر ما نحتاجه هو المراقبة الحدودية، و مراقبة الأجواء و تلغيمها، وأنظمة الدفاع الصاروخي متوسطة المدى، وكذلك تأمين الحدود البحرية.
وكذلك في مراقبة الحدود البرية و تأمينها والتي تصل إلى 6,750 كيلومتر ترهق أي ميزانية لحمايتها من الإنتهاكات أو لمراقبة ثغرات تهريب الموارد الوطنية خارج السودان أو تهريب الممنوعات إلى داخل البلاد، هذا إضافة إلى 850 كيلومتر من الحدود البحرية في ظل الخطر المتوقع دوما من أي حصار أو هجوم على ميناء البلاد الرئيسي، ولا نظن أن المعتدين الذين قاموا باغتيال شخصين داخل سيارة، كانا يحتاجان لطائرة للقيام بذلك في بورتسودان، لذا لا بد أنه كان لهذه الطلعة الإرهابية أهدافا أخرى قد تكون استطلاعية أو اختبارية لمدى جاهزيتنا و سرعة استجابتنا وفعالية راداراتنا ونظام دفاعنا الجوي، كما قد تكون باحتمال زرع الفتنة بين السياسيين و العسكريين، والوقيعة ما بين البرلمانيين والتنفيذيين..
كما يمكن أن نستعين بالخصخصة في تقييم الأداء و تأمين المنشآت الإستراتيجية برؤية جديدة و تقييم المخاطر بجميع أنواعها، وخصوصا تأمين منشآتنا من أخطار الضربات الجوية، وما يستدعيه ذلك من إنشاء أنظمة دفاع جوي خاصة و محدودة حول المنشآت الإستراتيجية..
مع الإنتباه لعدم التورط في ما تورطت فيه بعض حكومات ما يسمى بالمجتمع الدولي مثل أمريكا، باستخدام جهات التأمين في المهام القتالية، وهو ما يتعارض مع الأخلاق و القوانين الدولية. حيث يمكن لهذه الشركات أن تقوم بأدوار مشابهة لأدوار المنظمات المشبوهة المغرضة، عبر تجاوزها للعقد الموقع معها و دخولها في القتال عمدا بحجة الدفاع عن نفسها، لتوريطنا وكأننا من أصدر لها التعليمات، و لفتح ثغرات في منظومتنا الوطنية أمام سطوة ولاعدل القانون الدولي.
هذا ولا ننسى أنه يمكن كذلك خصخصة خدمة عسكرية مهمة وهي إعداد و تجهيز مسارح العمليات.
وإذا وجدنا أن التكلفة مرتفعة مع صعوبة الحصول على تمويل دولي لمثل هذه الخدمات، برغم أن الحكومات تلجأ للخصخصة لتغطية العجز في دفع تكلفة الإدارة الحكومية، فيمكن استحداث صيغ مثل ضمان الدفع بمنتجات المنشأة الإستراتيجية نفسها، مثل أن يكون تمويل تأمين آبار البترول و المصفاة والمناجم هو بضمان وجود احتياطي النفط في الأرض أو في مناجم التعدين، مع الدفع لهذه الشركات من واردات بيع النفط أو المعادن نفسها.
وهناك شركات إيطالية، و يابانية مثل متسوبيشي، يمكنها أن تتعاون في هذا المجال دون تأثر بالعقوبات الأمريكية الظالمة، ودون نوايا استعمارية حديثة، ودون ارتباطات قوية بمصالح الإستعماريين.
وبجانب كلفة هذه الخدمات، أضرب مثالا لمنتج دفاعي قد يجادل البعض في أنه منتج غربي خاضع لرقابة صانعيه من دول الإستكبار مما يمكنهم أن يبيعوه من ناحية، ويسربوا معلوماته لعدونا من ناحية، وهو الكاميرات الحدودية التي يقارب سعرها 250 ألف دولار للواحدة التي تغطي 5 كيلومترات، ولدينا حدود مع كيان الجنوب تقدر ب 2184 كم. ، مما يجعلنا نحتاج ل 440 كاميرا إن أردنا تغطيتها كلها بنفس النسق و تكلفنا 100 مليون دولار، هذا غير تكلفة تأمينها وتركيبها والمستلزمات الأخرى، فإن كان استخدام التكنولوجيا لمراقبة الحدود أو الأجواء، يتم فيه الإعتماد على المنتجات الإلكترونية الغربية و الشرقية، فلا فرق في استخدام الإداريين الغربيين و الشرقيين الذين يقومون على هذا الأمر، فشريحة الكترونية واحدة داخل أي جهاز مستورد تكفل أساسا مراقبة ما يحدث و التحكم فيه عن بعد، من داخل غرفة في تل أبيب أو لندن أو نيويورك، أو حتى نيروبي و كمبالا !
لذا تنتفي حجة أن الخصخصة تكشف أسرارنا، وهي أصلا مكشوفة في ظل استخدام التكنولوجيا غير الوطنية، وقد انتقلت ساحة المعارك إلى معارك غير معركة المعلومات القديمة.
كما يجدر بالذكر أن الخصخصة تعطي مساحة حرية أكبر لابتكار الحلول وللإبداع دون قيود طالما يوصل للأهداف المرسومة،
وإن تنويع جهات و وسائل إعداد الدولة للدفاع (عسكريا كمثال)، يجعل مهمة العدو أقل سهولة وأقل وضوحا في التنبؤ بما ننوي القيام به ، فبقاء القادة العسكريين في مناصبهم لفترات طويلة، يجعل من السهل التنبؤ بأفعالهم و قراراتهم و ردود أفعالهم، مما يعد مهددا أمنيا للدولة بأكملها.
إن القطاع الدفاعي الخاص يمكنه أن يصمم منتجات دفاعية للبلاد بتحليل دقيق للإحتياجات الدفاعية السودانية في ظل الإمكانات التي يمكن توفرها، وقراءة الواقع البيئي الخارجي الحالي و استقراء المستقبلي، بوجود حصيلة وافرة من المعطيات و المعلومات للبيئة الإقليمية المحيطة بالسودان.
والخصخصة في المجال العسكري ليس شرطا أن تكون نقلا لملكية ولكنها يمكن أن تكون نقلا لإدارة أو استقدام قوي أمين في خدمة دفاعية أو تكون في إعادة هيكلة أو عقدا للإيجار ! هذا الأمر يجب وضعه تحت مجهر الشريعة، للبحث في مصالحه و مفاسده، وأخف الأضرار فيه، ثم دراسته سياسيا و استراتيجيا قبل عرضه على استفتاء شوري داخل المؤسسة العسكرية نفسها، فما خاب من خار ولا ندم من استشار، والسباحة ضد تيار العولمة لا تأتي بخير في ظل عدم وجود القوة الكافية لمواصلة السباحة.
وعلى المجلس الوطني وخصوصا لجنة أهل الأمن والدفاع التي وسد أمرها إلى د.كمال عبيد بعد مغادرة الفريق مركزو، الإنتباه لأعراض الأمراض مبكرا، وأن تتحسس الخطر وتتنبأ بمآلات الأحوال مع بزوغ رأس هذه المؤشرات، دون تسويف و مجاملات أو تخويف و مداهنات، فبعض مما يمر ببلاد مستهدفة دوما و مأزومة بالنكبات يوضح أننا نحتاج وقفة صفا مع النفس، وانتباه مع العقل، بل نحتاج لتمام تسعة، تماما فرديا لكل مسؤول فينا حتى بعد منتصف الليل، يليه قيام في ثلث الليل الأخير، في لحظات صفاء مع النفس و تأمل عسكري نحاسب فيه أنفسنا بتجرد، ودون خوف على فقدان هيبة أو كرسي أو رتبة، فالحذر من عدم اتباع النهج الإلهي في الإستخلاف على أرض الإسلام يجب أن يكون أكبر من كل محاذير وضعية أخرى لعدم إغضاب بعض الأشخاص والحفاظ على مشاعرهم ! وإن خسارة ثقة الله سبحانه و تعالى في قدرتنا على حماية أنفسنا وأرضنا و بحرنا و "فضائنا" هي أكبر جللا و أعظم خطرا من كل قلق دنيوي آخر..
oia_1975@yahoo.com