عضُ أصابعٍ أم سلخُ نملٍ في أديس أبابا؟!

 


 

 



mahdica2001@yahoo.com

-    قبل أكثر من شهرين (أي في النصف الثاني من مارس 2012)، غادر أعضاء وفدي التفاوض (شمال وجنوب السودان) مدينة الزهرة الحبشية الجميلة وعلى وجوههم إبتسامات عريضة بعد أن توهموا أنهم أحرزوا إختراقاً جوهرياً في ما أُصطلح على تسميته بالقضايا العالقة، حيث تجسد ذلك الإختراق في؛ إتفاق الحُريات الأربعة، والإتفاقية الأمنية، وتم تتويجه بالإتفاق على لقاءٍ قمة رئاسية تجمع بين الرئيسين/ عُمر البشير، وسلفا كير، في عاصمة دولة جنوب السودان "جوبا"؛ وعلى إثر ذلك وبُناءً عليه أرسلت حكومة الجنوب وفداً رفيعاً بقيادة الأمين العام للحركة الشعبية الحاكمة/ باقان أموم (22-24/03/2012) لدعوة الرئيس "البشير" إلى جوبا، والذي قبل الدعوة وإبتسامة الرضا تكسو محياه؛ ولكن "الحلو ما يكملش" - كما يقول أحبابنا في شمال الوادي؛ إذ نشط شياطين الإنس في منبر الشمال وأبكوا عراب الإتفاق، رئيس وفد الشمال/ إدريس عبدالقادر، وأجهضوا الإتفاق بذات الطريقة التي إغتالوا بها رفيقه (إتفاق أديس أديس أبابا الإطاري – إتفاق عقار/نافع، 28/06/2011)، وهكذا نشبت حرب هجليج الثانية تماماً كما نشبت حرب النيل الأزرق وجبال النوبة، فكأننا يا بدر لا رُحنا ولا جينا.

-    الآن؛ يعود الوفدان إلى التفاوض وقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وتغيرت أشياء عديدة على كافة المستويات "المحلية والإقليمية والدولية" وبإجراء جرد حساب بسيط يتضح أن حكومة الجنوب تعود وهي في موقف تفاوضي أفضل كثيراً من غريمتها، ومسنودة بقرار أُممي ذي أنياب حادة وعصى غليظة، مُقارنة بحالها قبل يوم واحد من دخول هجليج في 26/03/2012، وحتى لا نتهم بالإنحياز والعمالة والخيانة التي توزع صكوكها على أي مُعارض بكُل خفة، نورد الحقائق الساطعة التالية:-

أولاً؛ على المستوى المحلي:-
i.    إنسحب الجيش السوداني من منطقة أبيي التي اجتاحها منذ أكثر من عام وبقي فيها طيلة تلك المُدة رغم كُل مناشدات المجتمع الدولي، وقد يقول قائل ولكن القوات الجنوبية انسحبت أيضاً من هجليج (وهذه بتلك!)، ونرد بأن هذا قول مُخادع وغير صحيح لأن جيش الجنوب لم يكُن في هجليج حتى تاريخ 26/03/2012، كما أن الهدف الأول من إحتلال هجليج، هو إجبار حكومة الشمال على الإنسحاب من أبيي (وقد حقق الجنوب مُبتغاه- رغم التمنع واللكلكة!!).

ii.    إستطاعت حكومة الجنوب بإحتلالها المؤقت لمنطقة هجليج، إدراج المنطقة ضمن المناطق المُتنازع عليها (وهذا هدف آخر من عملية الإحتلال التي بدت للوهلة الأولى غير مفهومة)، ولن تنفع المُغالطات والحجج الواهية في دحض هذا الإدراج، فقد أكد المُمثل الأُممي/ هايلي مانكريوس، وغيره من المبعوثين، ما سبق أن قُلناه بأن محكمة لاهاي غير مُختصة وغير مخولة بترسيم الحدود، وإنما ينحصر إختصاصها في تحديد حدود منطقة أبيي فقط لا غير، وقد قالت بشأن هجليج بأنها تقع خارج نطاق حدود منطقة أبيي (وهذا هو مناط إختصاصها المُحدد، والذي لا يقبل التأويل).

iii.    تردى الوضع الإقتصادي في الشمال ووصل إلى درجة تُنذر بالإنفجار في أي لحظة، فقد أدت سياسة الإضرار المُتبادل وعض الأصابع إلى سحق مواطني الدولتين، ولكن مواطن الشمال  صرخ أولاً وقال "الروب"، حيث تم تعويم وإغراق الجنيه السوداني فأصبحت له ثلاثة أسعار مما أدى إلى إنفلات الأسعار من عقالها المهلهل، وحدثت فوضى مالية ونقدية غير مسبوقة، (والغريق لي قدام) عندما تُزاد أسعار المحروقات، فتتبعها السلع والخدمات، وهلُمجرا.

iv.    بالرغم من أن الإعلام السوداني السمج صدع رءوس مُشاهدي القناة الفضائية بالأغاني الحماسية من شاكلة "دخلوها وصقيرها حام"، أي هجليج، إلا أنه صمت عن تلك التي خرجوا منها صاغرين (أبيي) وصقيرها نام. وبمُناسبة الأغاني الحماسية، لماذا التلصق باليمن والشام يا حكامات ودحبوبة "هزيت البلد من اليمن للشام، سيفك للفِقر قلَام" أو لم يكُن الأوفق القول "دمرت البلد من حلفا لقيسان!! فسادك للوطن هدَام"، عموماً ومع كُل هذا الغُثاء والتهريج الإعلامي إلا أن الواقع يقول أن الجبهة الداخلية في أقصى حالات الإختلاف والإستقطاب- حتى داخل المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية - فالخلاف جلي وبائن بين المهووسين وبين البراجماتيين، وآية ذلك تضارب التصريحات وتناقضها وعدم وجود إستراتيجية واضحة المعالم للتفاوض (أو إن شئت عدم التفاوض).

v.    وعلى صعيد الجبهة الداخلية أيضاً فقد تمكنت حكومة الجنوب من دق إسفين بين حكومة الشمال وبين قبيلة المسيرية، وسوف تظهر تداعيات هذا الخازوق قريباً. ثُم ألا يحق لنا أن نتساءل، كيف تستطيع الحكومة السودانية في ظل شحنها الإعلامي الزائد وإنتهاجها لسياسة حافة الهاوية وتهييج الجماهير، تطبيق الإتفاقيات التي تتوصل إليها مع مُعارضيها، والتي تشمل دون شك (كشأن أي تفاوض) تنازلات مُتبادلة- ومُرة كالحنظل أحياناً؟!.

vi.    أظهرت عملية إحتلال هجليج مرتين خلال أقل من شهر (ثُم قصف برادو بورتسودان) أن البلاد "قاعدة أم فكو"، وأن قيادتها العسكرية لم تعد محل ثقة ضُباط وأفراد الجيش "دعك عن عامة الشعب" وقد إنكشف اللمبي واتضح أن كُل مؤهلاته هي "صداقة الريس"، وأهتز موقفه أكثر بعد أن أصبح رديفاً لخدنه في سرج الجنائية الجامح، إلى جانب أحمد هارون. فلكُل يتساءل الآن عن جيش الهنا، حسبما قال الأستاذ/ ابوبكر القاضي "يا زينب كُنتِ وين، جيت لحوشكم مرتين؟!".

ثانياً؛ على المستوى الإقليمي والدولي:-
-    لأول مرة في تاريخ نزاعات السودان، يتدخل مجلس الأمن وفقاً للفصل السابع (وما أدراك ما الفصل السابع)، كما أن المجتمع الدولي لم يخف تبرمه من مُماطلة الخرطوم ونقضها للإتفاقيات، ولقد إستطاعت حكومة الجنوب رغم حداثة خبرتها الدبلوماسية من حشر حكومة الإنقاذ في جُحر ضبٍ أعزب (أنظروا إلى قرار تعيين د. فرانسيس دينج سفيراً للجنوب لدى الأُمم المتحدة) في الوقت الذي يجوب فيه خيرة دبلوماسيينا "منصور خالد، إبراهيم طه أيوب، ودالمكي، إلخ" الملاجئ والمنافي، فالخارجية في هذا العهد الغيهب أصبحت مثل زريبة الشكينيبة، والجواب يُقرأ من عنوانه، والوزارة تُعرف من وزيرها!.

-    من المُلاحظ حدوث تبدُلٍ خطير (وإن كان يبدو وئيداً) في مواقف الدول الإفريقية من مسألة المحكمة الجنائية الدولية، خاصةً بعد حصول جنوب السودان على إستقلاله (وواهم من يظن بعدم وجود وشيجة بين هذا المُتغير وإستقلال الجنوب)، ولعل رفض جمهورية ملاوي لزيارة البشير (حتى ولو كان مدعواً من الإتحاد الإفريقي) وتصريحات وزير خارجية بوتسوانا، ومن قبلهما كينيا ويوغندا وجنوب إفريقيا، تؤكد أن قادة إفريقيا أصبحوا يهربون من رئيس جمهورية السودان، هروب السليم من الأجرب.

-    من المؤسف أن الإستقطاب الداخلي بين "زُرقة وحُمرة السودان"، وبين الأصوليين الإسلاميين وغيرهم، ينداح الآن ليصبح إستقطاباً إقليمياً – يشمل حزام الساحل المُمتد من السنغال إلى القرن الإفريقي- مما يُشكل مُهدداً خطيراً للعلاقات العربية/الإفريقية (وهذا موضوع سوف نتناوله في محفل آخر، وبما يستحقه من تمحيص ورصانة بحثية).

هكذا يبدو كشف الحساب الداخلي والخارجي، وخلفية المشهد الذي ينطلق منه وفدا التفاوض في أديس أبابا، وليس من باب الرجم بالغيب القول بأن  حكومة الخرطوم ذاهبة إلى التفاوض وهي مُكرهةً لا بطلة، وأن إستراتيجيتها تقوم على المراوغة والمُماطلة وذلك لغياب الإرادة السياسية وإنعدام الموقف الموحد من العملية السياسية برُمتها، بينما تذهب الحركة الشعبية وهي مُتلهفة لسلخ جلد النملة وقطف ثمار الإصطفاف الدولي إلى جانبها، وذلك قبل أن يتبخر الإلتفاف الشعبي حول موقفها، فتصرخ هي الأُخرى "كفى عضاً في الأصابع".
في الجُزء الثاني من هذا المقال نستعرض عقبة الملف الأمني والوهم المُعشش في ذهن قادة الإنقاذ بأن تحالف كاودا رهينة في يد حكومة الجنوب، وبالتالي يمنحونها كرتاً ليس في حوزتها ويعززون موقفها التفاوضي بدون مُبرر. كما سوف نغوص عميقاً لمعرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى رفض إتفاق أديس أبابا الإطاري بطريقة هستيرية، علماً بأن أحداً من المسئولين في الحُكومة وحزب المؤتمر الوطني لم يجرؤ حتى الآن على الإفصاح علناً عن أسباب هذا الرفض المُريب، ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب، وأمكن علاج علة مُتلازمة أوكامبو!!، وسوف نقترح خارطة طريق سودانية كاملة الدسم تبدأ بإيقاف العض المُتبادل وضخ النفط في شرايين جسد الإقتصاد المُنهك، ودمج إتفاقية الدوحة (حصان طروادة القطري) في إتفاق أديس أباب الإطاري، ويا دار ما دخلك شر!!.
وحتى ذلك الحين أقعدوا عافية.

بريتوريا: 05/يونيو/2012

 

آراء