علاقة الولايات المتحدة بجنوب السودان وتأثيراتها على السودان
عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج
16 July, 2012
16 July, 2012
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
دأبت أطراف الصراع فى جنوب السودان فى صراعها مع الحكومة المركزية فى السودان منذ التمرد الأول فى عام 1955 م, على كسب تأييد القوى الخارجية بغرض تحقيق مصالحها المتمثلة فى تحقيق حكم ذاتى إقليمى يسمح لهم بحكم الجنوب, وقد تحقق ذلك الهدف (تشكيل حكم ذاتى إقليمى) للنخبة الجنوبية عند توقيعهم لإتفاقية أديس أبابا عام 1972 م, والتى سمحت لأبناء جنوب السودان بحكم إقليمهم بأنفسهم, بيد أن تطورات الصارع فى السودان وخاصة بعد إصدار الرئيس الأسبق للسودان الراحل المشير جعفر نميرى لقوانين الشريعة الإسلامية (قوانين سبتمبر) وتقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم فى عام 1983 م, إشتعلت نار التمرد مرة أخرى بقيادة العقيد الراحل جون قرن (مؤسس الحركة الشعبية), بحجة عدم إلتزام النميرى بإتفاقية أديس أبابا, وقد نالت الحركة الشعبية دعماً مقدراً من أثيوبيا وكوبا ومعظم دول المعسكر الشرقى, إلا أن التغيير فى مجريات الأحداث الدولية, بسقوط الإتحاد السوفيتى السابق كقوة عالمية, وتربع الولايات المتحدة الأمريكية على سدة الهرم العالمى كقوة عالمية وحيدة تضبط إيقاع التفاعلات الدولية, هذه الأوضاع دفعت الحركة الشعبية للإتجاه نحو الغرب فى سبيل إيجاد دعم لها فى صراعها مع المركز فى السودان, وعليه تبنت الجماعات المسيحية اليمينية الأمريكية دعم الحركة الشعبية على أسس دينية بحكم تصورها أن الصراع بين الجنوب والشمال هو صراع إثنودينى بين العروبة والعناصر الزنجية, والإسلام والمسيحية, ونتيجة لتأثير اليمين المسيحى على صناعة القرار فى الولايات المتحدة الأمريكية, نالت الحركة الشعبية تأييد ودعم قوى من الولايات المتحدة الأمريكية وصل نهايته بإنفصال جنوب السودان عن وطنه الأم جمهورية السودان.
الإهتمام الأمريكى بجنوب السودان:
أخذ الإهتمام الأمريكى بجنوب السودان يتصاعد فى الآونة الأخيرة من حكم الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون فى نهايات العام 1998 م, وبعد مذكرة رفعها أعضاء اليمين المسيحى فى ديسمبر من العام 1998 م مطالبين فيها إدارة كلينتون بالتدخل لإسقاط الأنظمة فى السودان وإيران وسوريا وكوريا الشمالية بإعتبار أن هذه الأنظمة تعيق تنفيذ الإستراتيجية الأمريكية وتقف ضدها, وعليه قام الرئيس بيل كلنتون بالتهديد بعزل السودان سياسياً, وفرض عقوبات عليه مالم يلتزم السودان بالتوصل لإتفاق سلام مع الحركة الشعبية فى جنوب السودان, وينهى دعمه للإرهاب حسب قوله, ولقد كانت فى ذلك الوقت السفيرة رايس مساعدة لوزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية, وهى الآن مندوبة للولايات المتحدة فى مجلس الأمن الدولى, وتلعب دوراً محورياً فى ملف جنوب السودان, ودوراً فى فرض عقوبات على السودان, وبعد وصول اليمين المسيحى المتطرف للسلطة فى بداية الألفية الثانية, عين الرئيس الأمريكى القس دانفورث مبعوثاً للسودان فى عام 2001 م, وقد لعب دانفورث دوراً اساسياً فى تقريب وجهات النظر بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية بالتعاون مع منظمة الإيقاد, والتى قادت فى النهاية لتوقيع إتفاق السلام الشامل (CPA) فى ضاحية نيفاشا فى التاسع من يوليو من العام 2005 م, ولكن يظل تعيين دانفورث كمبعوث للسودان يمثل صعود دور التيار الدينى فى الولايات المتحدة الأمريكية وتأثيره على مجريات السياسة الأمريكية.
بينما جاء أيضاً التحرك الأمريكى وإهتمامه بالسودان وبالتحديد قضية جنوب السودان, نتيجة للمتغيرات التى حدثت فى السياسة الأمريكية الداخلية أيضاً, حيث برز تأثير الناشطين من أصول أفريقية داخل الكنغرس الأمريكى, بينما لعب نمو دور المظمات الأمريكية المسيحية المتطرفة (الأنجيلكان) دوراً كبيراً فى إضفاء بعد إثنودينى على كل الصراعات الدائرة فى السودان, إلا ان المصالح الأمريكية الإستراتيجية فى السودان والمتمثلة فى النفط وموارد الطاقة الأخرى والموارد الطبيعية, تمثل المرتكز الرئيسى لإهتمام الولايات المتحدة الأمريكية فى الصراع الدائر فى جنوب السودان وغيرها من المناطق الأخرى المشتعلة فى السودان, وبالتالى تبنيها لنخبة الحركة الشعبية والوقوف معها إلى أن حققت إنفصال جنوب السودان.
ومن تداعيات التدخل الأمريكى فى قضية جنوب السودان, تمدد النفوذ الصينى والمصالح البترولية الصينية فى السودان, ومساهمة الصين فى إستخراج البترول السودانى وإنتفاع شركاتها به, وبالتالى كان سعى الولايات المتحدة الأمريكية للحد من تغلغل النفوذ الصينى فى أفريقيا, سبباً رئيسياً فى دخولها طرفاً داعماً للحركة الشعبية من أجل فصل جنوب السودان ليكون أرضاً فاصلة للمصالح الأمريكية فى المنطقة, بيد أن عامل آخر دفع الولايات المتحدة للتدخل فى الصراع الدائر فى السودان, وهو صوغ منطقة القرن الأفريقى فكاً وتركيباً بصورة تخدم مصالحها فى المنطقة عبر تحويل النظم فى منطقة القرن الأفريقيى لنظم علمانية مناهضة للمد العربى والإسلامى, وعليه إنبثاق دولة الجنوب جاء ليعبر عن هذا النهج الأمريكى لصوغ منطقة القرن الأفريقى لتصبح منطقة تخدم تطلعات الولايات المتحدة الأمريكية (إسرائيل القوة) فى المنطقة .
الأهداف الأمريكية فى جنوب السودان:
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية من الدول المؤثرة عالمياً, بحكم إنفرادها بإدارة شؤون العالم منذ سقوط الإتحاد السوفيت السابق فى بداية تسعينات القرن الماضى, والولايات المتحدة الأمريكية هى الدولة الوحيدة التى ظلت ولا زالات تؤثر على مجريات الأحداث فى السودان, وقد إستخدمت نفوذها وقوتها من أجل إتمام عملية السلام فى السودان (CPA) فى التاسع من يوليو من العام 2005 م, وإجراء الإستفتاء فى عام 2010 م, ودعمها فيما بعد لإنفصال جنوب السودان فى التاسع من يوليو من العام 2011 م, وعبرت عن ذلك الدعم للإنفصال عبر خطاب ممثلتها لإحتفالات جنوب السودان بإنفصاله السيدة سوزان رايس.
والأهداف الأمريكية فى جنوب السودان تتمثل فى الثروات النفطية الهائلة التى يتمتع بها جنوب السودان, حيث تتوقع الولايات المتحدة الأمريكية فى دراسة أعدها مركز (PFS FOR STRATEGIC STUDIES) نشرت فى أغسطس من العام 2002 م عن (الإحتياطات البترولية المتوقعة فى السودان), أن إنتاج النفط فى جنوب السودان من الممكن أن يصل إلى 2.9 مليون برميل يومياً إذا تم إدخال بعض المناطق الغير مستغلة إلى دائرة الإنتاج, وبالتالى نجد أن معظم شركات النفط والتعدين الأمريكية ترغب فى الوصول إلى الثروات النفطية والمعدنية فى جنوب السودان, بينما تظل هنالك دوافع دينية تقودها الكنائس الأمريكية والغربية والمنظمات التبشرية المسيحية التابعة للأنجلكانيين والمحافظين اليمنيين فى الكنغرس الأمريكى, وهؤلاء يعملون بدوافع دينية بحتة, ونتيجة لتأثير الجماعات المسيحية المتطرفة, أصبح الدين يلعب دوراً أساسياً فى تحريك السياسة الأمريكية وفى الصراعات التى تقودها ضد الدول الأخرى, وخاصة تلك الصراعات مع العالم العربى والإسلامى, ونموذج جنوب السودان يمثل أحد أوجه ذلك البعد الدينى فى السياسة الأمريكية, وإنبثاق دولة جنوب السودان على حسب قول السيد سلفاكير رئيس حكومة جنوب السودان سوف يعمل على الحد من إنتشار المد العروبى والإسلامى جنوباً, أما القس فرانكلين جرهام فيقول أن هنالك حرب مشتعلة ضد كنيسة المسيح فى أفريقيا, يشنها المسلمين ضد المسيحيين فى بلدان مثل السودان وأثيوبيا ! على حد قوله.
العلاقة بين واشنطن وإنفصال جنوب السودان:
قبل إنفصال جنوب السودان فى التاسع من يوليو من العام 2011 م, تعالت الأصوات فى واشنطن الرسمية وغير الرسمية, بأنه سوف تنبثق دولة جديدة فى منطقة القرن الأفريقى (دولة جنوب السودان) التى تنبأ بأن يكون إسمها على هذا النحو خبير الهويات (NATIONAL IDENTITIES) سيمون أتهولت (SEAMON ATHOLT), وان كل الدول سوف تعترف بها بما فيها السودان الدولة الأم التى سوف تبثق منها هذه الدولة, والذى لابد أن يرضخ لصوت العقل وإعتبارات توازن القوة ويقبل بولادة دولة الجنوب, وبالرغم من علم الولايات المتحدة الأمريكية بتردى الأوضاع الإقتصادية والأمنية بجنوب السودان, إلا أنها رأت لمصالح إستراتيجية تخصها أن تحقق فصل جنوب السودان, هذا ما تم الإتفاق عليه بالفعل فى واشنطن الرسمية وغير الرسمية من خلال مناقشات أجريت مع العديد من الخبراء الأمريكيين المختصين بالملف السودانى.
ويؤكد مسؤول بعثة جنوب السودان فى واشنطن السيد أيزيك لول جاتكوث, عبر موقع البعثة الإلكترونى, أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قد قدمت دعم كبير لجنوب السودان, كما أنه يعبر بإستمرار عن إمتنانه للتأييد المتواصل الذى يتلقاه من كل الحزبين الجمهورى والديمقراطى بالولايات المتحدة الأمريكية, وقد أكدت تقارير لصحيفة الواشنطن تايمز, أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تضخ دعماً سنوياً يقدر بحوالى المليار دولار لحكومة جنوب السودان بعد توقيعها لإتفاقية السلام الشامل, وهذا الدعم يصرف على تأهيل البنية التحتية وقوات الأمن والجيش الشعبى ليكون قادراً على حماية الدولة والمنطقة فى المستقبل على حد قول التقرير, وقد أكد السيد جاتكوث مدير مكتب الحركة الشعبية فى واشنطن فى لقاء مع صحيفة الواشنطن تايمز الأمريكية, أن ضخ واشنطن لهذه الأموال يهدف للمساعدة فى إنفصال جنوب السودان من الشمال, وقال جاتكوث "أن من بين أهداف الولايات المتحدة الأمريكية هو التأكيد على أن يصبح الجنوب فى عام 2011 م دولة قادرة على الإستمرار", وفى إطار دفع تسهيل إجراءات إنفصال جنوب السودان عن وطنه الأم, ساهمت والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية فى تنفيذ الخطوات الهامة التى اتفق عليها فى إتفاقية نيفاشا 2005 م, من أجل دعم عدم إعاقة إستفتاء جنوب السودان على مصيره, حيث قدمت التمويل اللازم للتعداد السكانى 2008 م, وإنتخابات أبريل 2010 م, وإستفتاء يناير 2011 م, وقد وصل إجمالى المساعدات الأمريكية للسودان من العام 2000 م إلى العام 2009 م إلى حوالى 4.170 مليون دولار.
التعاون العسكرى بين واشنطن وجوبا:
هنالك تعاون عسكرى على مستوى عالى بين الولايات المتحدة الأمريكية والحركة الشعبية فى مرحلة ما قبل الإنفصال والمرحلة التى تلت إنفصال جنوب السودان عن وطنه الأم السودان, وقد بدأ هذا الدعم منذ تسعينات القرن الماضى عبر المنظمات التبشيرية الأمريكية, وعبر المنظمات الغير حكومية الأمريكية التى كانت تعمل من خلال دول الجوار السابق (كينيا وأغندا) والجوار الحالى (أثيوبيا وأرتريا وتشاد), بينما قامت الحكومة الأمريكية بعد توقيع إتفاقية نيفاشا 2005 م, بتقديم دعم مالى إلى جنوب السودان وصل إلى حوالى مليار دولار أمريكى من أجل تأهيل القوات الأمنية وقوات الحركة الشعبية وتطوير قدراتهما بالإضافة لإجراء بعض التأهيل فى البنية التحتية, بينما وقعت وزارة الخارجية الأمريكية بعد عام من توقيع إتفاقية نيفاشا 2005 م, عقداً مع شركة دين كورب (DYN CORP) الأمريكية الخاصة للقيام بتأهييل وتدريب قوات الجيش الشعبى لجنوب السودان ورفع مقدراته القتالية, وقد فازت شركة دين كورب بعطاء تدريب جيش جنوب السودان الذى بلغ قدره حوالى 40 مليون دولار أمريكى, كما أوكل لشركة دين كورب من قبل وزارة الخارجية الأمريكية مهمة مساعدة تيم مفاوضات الحركة الشعبية وتقديم المشورة له فى تفاوضه مع الحكومة السودانية, وقد أكد ذلك نائب مدير شركة دين كورب (DYN CORP) السيد آل ريقنى (AL RIGNEY) فى لقاء مع رويترز حيث قال " أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ترى أنه من شأن وجود قوة عسكرية مؤهلة فى جنوب السودان, سوف يعمل على المساعدة على الإستقرار", والجدير بالذكر أن شركة دين كورب (DYN CORP) تقول أن عقدها مع الولايات المتحدة الأمريكية يشمل تعزيز قدرات جيش الحركة الشعبية وإضعاف مقدرات الجيش السودانى, ويرى بعض الخبراء فى الشأن العسكرى أن تدريبات شركة دين كورب (DYN CORP) ربما تساعد فى قيام جيش الحركة الشعبية فى شن عمليات هجومية على السودان, والجدير بالذكر هنا أن شركة دين كورب (DYN CORP) يقع مقرها بولاية تكساس (TEXSAS) الأمريكية فى مدينة إرفين (IRVING), وهى توظف نحو 14000 ألف موظف من العسكريين المحترفين بالإضافة لبعض الدبلوماسيين المعاشيين والخبراء الإستراتيجيين ذوى الخبرات, وهى تعمل فى 35 دولة, وقد فازت الشركة بعقود من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية للعمل فى العديد من بلدان العالم المشتعلة بالصراعات مثل أفغانستان والعراق وكولومبيا وليبريا.
وفى فترة لاحقة بعد توقيع إتفاقية نيفاشا فى العام 2005 م, قامت شركة إكس إى (XE) الأمريكية التى كانت تسمى فى السابق بلاك ووتر (BLAK WATER) ذات السجل السىء فى إنتهاكات حقوق الإنسان وجرائم القتل فى العراق, بتوقيع عقد لحماية المسؤليين فى حكومة الجنوب, وتدريب وتطوير قوات المهام الخاصة بالجيش الشعبى لجنوب السودان, ورفع قدرات جيش جنوب السودان الهجومية وتطوير أسلحته لتصبح ذات فعالية فى القتال عبر إشراك شركة سى تى سى (CTC) لتطوير أنظمة الأسلحة الهجومية, وذلك مقابل عقد قيمته 100 مليون دولار أمريكى, بالإضافة لتمكين شركة إكس إى (XE) بلاك ووتر سابقاً من الإنتفاع بحوالى 50 % من مناجم تعدين الذهب والحديد بجنوب السودان, والجدير بالذكر أن نائب الرئيس السابق ديك شينى (DECK CHENY) هو الذى قدم شركة بلاك ووتر (BLAKC WATER) إكس إى (XE) لحكومة جنوب السودان, وقد تم الإتفاق لاحقاً بين شركة إكس إى (XE) وحكومة جنوب السودان عبر مفاوضات مباشرة بين السيد سلفاكير رئيس حكومة جنوب السودان الحالية والسيد كريستوفر تايلور نائب رئيس شركة إكس إى (XE), بينما تم رفع الحظر عن تصدير الأسلحة لدولة جنوب السودان فى مطلع يناير 2012 م, حيث رفع الرئيس الأمريكى السيد باراك أوباما القيود عن بيع أسلحة دفاعية عن دولة جنوب السودان فى خطوة سريعة وغير مسبوقة لتطبيع العلاقات العسكرية مع دولة جنوب السودان التى إنفصلت عن دولتها الأم فى فترة لم تتجاوز الخمسة أشهر من إصدار هذا القرار, وقد وجه أوباما وزيرة خارجيته بأن تقوم بتقديم خدمات دفاعية وأسلحة لجنوب السودان, وفى نفس الموضوع تحدثت الناطقة بإسم الخارجية الأمريكية السيدة فكتوريا نولاند (VICTORIA KNOWLAND) أن الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب السودان, سوف يناقشان لاحقاً معايير العلاقات الدفاعية المستقبلية, كما قالت أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت منفتحة على جنوب السودان قبل إعلان الدولة فيه, وأن حكومة جنوب السودان عقدت محادثات معنا حول كيفية تأمين حدودهم والدفاع عن أنفسهم فى المستقبل, والجدير بالذكر هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تدفع كامل مرتبات الجيش الشعبى لجنوب السودان البالغ قدرها حوالى 100 مليون دولار سنوياً منذ ظهور تململ وسط جنود الحركة الشعبية عام 2009 م نتيجة لعدم تلقيهم مرتباتهم,
إنعكاسات علاقة واشنطن بجوبا على الأوضاع بجمهورية السودان:
منذ إستيلاء حكومة الإنقاذ على السلطة فى السودان فى 30 من يونيو من العام 1989 م من القرن الماضى, إعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية السودان من الدول الممانعة لإستراتيجيتها وفقاً للرؤى والتفسيرات الأمريكية, وقد تعمد الخطاب السياسى الأمريكى على تقديم صورة نمطية عن نظام الإنقاذ فى السودان تستند على ثلاثة مرتكزات رئيسية, أولها أن السودان دولة راعية للإرهاب, وثانيها أن السودان يحرم أبناء جنوب السودان والمناطق المهمشة الأخرى من تقرير مصيرهم, وثالثها أن السودان ينتهك حقوق الإنسان, وعليه منذ ذلك الوقت تناولت كل الأدبيات فى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الصراع فى جنوب السودان على أنه صراع إثنودينى, وتم تصويره من قبلهم تارة أنه صراع بين العروبة والأفركانية, وتارة على أنه صراع بين الإسلام والمسيحية, وتارة على أنه حرب بين الشمال العربى المسلم والجنوب الزنجى المسيحى, وعليه إنعكست هذه الإتهامات أعلاه على أن تتوتر العلاقة بين الخرطوم وواشنطن, وعلى أن تتبع الولايات المتحدة الأمريكية سياسة إحتواء ضد النظام السودانى (1995 م ـ 2000 م), وتارة سياسة العصا والجزرة (2001 م ـ 2011 م), لتعود مرة أخرى بعد تحقيق إنفصال جنوب السودان لإستخدام إستراتيجية غير مباشرة عبر أراضى دولة جنوب السودان لإسقاط النظام الحاكم فى السودان, وذلك عبر مجموعة من الضغوط الإقتصادية والسياسية والعسكرية المحسوبة بدقة متناهية, وما تحريك التمرد فى جبال النوبة والنيل الأزرق وإيواء حركات دارفور المسلحة وتقديم الدعم لهم من حكومة جنوب السودان, وإيقاف ضخ النفط والهجوم على حقل هجليج النفطى, ومن بعده صدور القرار 2046 من مجلس الأمن, إلا جزءاً من تلك الإستراتيجية الغير مباشرة التى تحركها الولايات المتحدة الأمريكية ضد السودان الشمالى.
وبالرغم من إدعاء الولايات المتحدة الأمريكية من أنها تريد وضع حد للحرب فى المنطقة عبر تدخلها فى التسوية بين الحكومة المركزية فى السودان والحركة الشعبية المتمردة عبر توقيع إتفاقية نيفاشا فى 2005 م, إلا أن كل الشواهد تقول أن إتفاقية نيفاشا 2005 م ما هى إلا عبارة عن تكتيك أريد به فصل الجنوب ومن ثم إعادة ترتيب الحرب على الشمال من جنوبه المتاخم لدولة جنوب السودان الوليدة, وبينما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لوضع حد لعدم الإستقرار فى دولة جنوب السودان الوليدة, حيث عقدت فى آواخر أبريل من العام 2012 م مؤتمراً فى كينيا دعت إليه كبار الباحثين والأنثروبولجيين الأمريكان وغيرهم من الجنسيات الأخرى المهتمة بجنوب السودان, لبحث سبل نزع السلاح فى ولاية جونقلى والحد من الحرب الأهلية فى الولاية ومن ثم سبل تحقيق الإستقرار فى ولاية جونقلى, نجد أن نائب السفير الأمريكى فى جوبا السيد كرستوفر داتا (CHRISTOVER DATA) قد إجتمع عقب أحداث هجليج بالسيد كوستا مانيبى وزير مالية دولة جنوب السودان, والسيد مجاك أقوك نائب وزير الدفاع, والسيد جون لاد مدير إدارة الإستخبارات العسكرية, والسيد ميانق دينق مجوك نائب رئيس هيئة الأركان, حيث بحث الإجتماع الأوضاع ما بعد هجليج وإعتبرها الإجتماع أنها جاءت فى صالح السودان, وأوصى نائب السفير الأمريكى لدى دولة الجنوب السيد كريستوفر داتا المجتمعين معه من أعضاء حكومة الجنوب على مواصلة دعمهم للمتمردين فى النيل الأزرق وجبال النوبة ودارفور لتكون هذه القوات فى هذه المناطق جاهزة للعمل العسكرى فى أى وقت يتم تحديده لإسقاط الحكومة فى الخرطوم, وشدد على ضرورة التعاون الأمنى والإستخبارى وتمرير المعلومات لهم عن الجيش السودانى, بينما أكد دعم حكومته لجوبا, وإستجاب لطلبات المجتمعين لدعم قواتهم الجوية والحصول على صواريخ مضادة للطيران بغية مواجهة الجيش السودانى وجيش الرب والقوات المتمردة على حكومة الجنوب على حسب تعبيرهم, إذن هذا يفسر أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على وضع حد لعدم الإستقرار فى دولة الجنوب الوليدة بينما تعمل على زيادة رقعة عدم الإستقرار على طول الشريط الحدودى لجمهورية السودان المحازى لدولة جنوب السودان, وبالتالى فرض عدم الإستقرار فى الدولة الأم وتغذيته, والكل يعلم أن العمل على إستقرار الأوضاع سوى فى الشمال أو الجنوب لن يتم مالم تتم تسوية شاملة لكل الملفات المعلقة بين الطرفين دون أى ضغوط لفرض تسوية قسرية على أى طرف من أطراف المفاوضات لأن ذلك من شأنه إعادة إنتاج الأزمة, وعليه إنحياز الولايات المتحدة الأمريكية الدولة القائدة للنظام العالمى لصالح دولة الجنوب والإستمرار فى نهج سياسة عدائية على جمهورية السودان لن يخدم قضايا السلام فى المنطقة وسوف يستمر توتر العلاقات بين السودان ودولة جنوب السودان كما إستمر النزاع بين كورية الشمالية والجنوبية منذ خمسينات القرن الماضى وحتى هذه الآونة.
الخاتمة:
المتابع لمجريات الأحداث فى منطقة القرن الأفريقيى ومجمل أقاليم القارة الأفريقية الأخرى, يلحظ أن هنالك إستراتيجية أمريكية تعمل على تحقيق أهداف إستراتيجية ذات صلة بالمصالح الأمريكية فى منطقة القرن الأفريقى والغرب الأفريقى, وأن جنوب السودان تم صوغه ليكون أحد نماذج هذه الإستراتيجية التى تهدف لصوغ دول القرن الأفريقى على نهج علمانى يراعى مصالح الولايات المتحدة الأمريكية (إسرائيل القوة) ويناهض كل ما هو عروبى وإسلامى, ونتيجة لتصنيف السودان بأنه من الدول الممانعة للإستراتيجية الأمريكية, بالإضافة لكونه يتبنى الهوية العربية الإسلامية, فهو إذن يصنف من قبل الولايات المتحدة الأمريكية أنه قطر يتعارض أيدلوجياً وفكرياً مع الثقافة الليبرالية الغربية التى تقودها الولايات المتحدة الأمريكية تحت راية العولمة, عليه السودان سوف يظل تحت الضغط الأمريكى إلى أن يتم تطويع الهويات الثقافية العربية الإسلامية المكونة له تحت ثقافة العولمة, وإلى أن يتم إبعاده من مظلة الدولة ذات العلاقات المتميزة مع الصين التى تنافس الولايات المتحدة الأمريكية على موارد الطاقة الأفريقية وبالتحديد البترول.
عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج
باحث وخبير إستراتيجى فى شؤون القارة الأفريقية ومتخصص فى شؤون القرن الأفريقى
asimfathi@inbox.com