المتغيرات فى الدولة الأثيوبية وإتجاهاتها قبل وأثناء وبعد رحيل ملس زيناوى: إعداد وتقديم
عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج
باحث وخبير إستراتيجى فى شؤون القارة الإفريقية و متخصص فى شؤون القرن الأفريقى
E-mail: asimfathi@inbox.com
بسم الله الرحمن الرحيم
المتغيرات فى الدولة الأثيوبية وإتجاهاتها قبل وأثناء وبعد رحيل ملس زيناوى
مقدمة:
تقع أثيوبيا فى منطقة القرن الأفريقى, ذلك الجزء من القارة الأفريقية الذى يحتل موقعاً جيواستراتيجياً على الصعيد العالمى والإقليمى, والذى لا زالت القوى العالمية منذ قديم الزمان وحتى عصرنا الحالى تتنافس فيما بينها لإيجاد موطىء قدم لها على أراضيه المتحكمة فى الممرات البحرية التجارية الهامة التى تربط ما بين كل قارات العالم, والملئية بثروات طبيعية هائلة, وتعتبر منطقة قرن أفريقيا أيضاً معبراً حيوياً لقلب القارة الأفريقية التى تذخر بالموارد الطبيعية والمعادن الإستراتيجية والبترول, وتشتعل فى منطقة قرن أفريقيا صراعات عنيفة, لعبت فيها التدخلات الخارجية, والصراعات الداخلية على السلطة السياسية والثروة الإقتصادية والتى غالباً ما تأخذ شكل الصراع العرقي, دوراً محورياً.
وقد عانت الدولة الأثيوبية كبقية دول القرن الأفريقى, فى العقود ما قبل وصول ملس زنياوى للسلطة, عبر تحالفه الحاكم الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب أثيوبيا (أهاديق) (EPRDF), فى أغلب الأحيان من عدم الإستقرار السياسى, وبالتالى تدهور النظم الاجتماعية والاقتصادية فيها نتيجة للصراع الحاد بين الجماعات العرقية والدينية المكونة لها على السلطة، وقد كانت أثيوبيا فى عهد الأمبراطور هيلى سلاسى والرئيس السابق منقستو هايلى مريم, تستخدم السلطة لتعزيز وخدمة مصالح جماعات الأمهرة المهيمنة على حساب الجماعات الأخرى, مما أدى الى تذمر الجماعات العرقية الأخرى (تقدر بحوالى 88 مجموعة عرقية) المكونة للدولة الأثيوبية, وقد أصبح هذا التباين العرقى والدينى مصدرا للصراع فى أثيوبيا بدلاً من الوحدة طيلة العقود الماضية, الشىء الذى أسهم فى إزهاق أرواح مئات الآلاف من الأثيوبيين ضحية للصراعات العرقية العنيفة حول السلطة فى أثيوبيا, وفرار الملايين من الأثيوبيين خارج بلادهم وبالتحديد نحو السودان كلاجئين نتيجة لعدم الإستقرار السياسى وانتشار الحروب الداخلية.
أثيوبيا ما قبل وصول ملس زيناوى وحزبه الحاكم للسلطة:
تاريخ أثيوبيا القديم والحديث ملىء بالحروب بين مكوناتها الإثنية والدينية بسبب التنافس بين حكامها على السلطة, ولكثرة الإثنيات التى تتشكل منها منطقة بلاد الحبشة، وقد قامت أثيوبيا الحالية في عهد الملك كاسا (تيودور الثالث) فى عام 1855 م, وقد خلف تيودور الثالث على الحكم الأمبراطور يوهانس (يوحنا الرابع) عام 1869 م, وقتل يوحنا الرابع فى المتمة فى حربه ضد الدولة المهدية، وخلفه فى حكم أثيوبيا الأمبراطور الأثيوبى منليك الثانى فى العام 1883 م, الذى ضم مناطق كثيرة إلى إثيوبيا, منها منطقة اوغادين الصومالية عام 1887 م, ومنطقتى المتمة وبنى شنغول السودانيتين, وبعد وفاة منليك الثانى تولى السلطة فى أثيوبيا الأمبراطور هيلى سلاسى عام 1930 م , ويعتبر الأمبراطور هيلى سلاسى مؤسس أثيوبيا الحديثة, وقد حكم البلاد لمدة أربعين عاماً مخضعاً كل الإثنيات الأثيوبية الأخرى تحت ثقافة قومية الأمهرا التى ينحدر من صلبها, وفى عهده عانت الدولة الأثيوبية من عدم الإستقرار السياسى نتيجة لتململ العرقيات والإثنيات الأخرى, فتكونت جبهات عديدة للتحرر فى أثيوبيا, منها جبهة التحرير الأرترية (EPLF), وجبهة تحرير التقراى التى إنبثقت من تنظيم الجمعية التقدمية لدولة التقراى فى عام 1966-1967 م, والتى تعتبر النواة الأولى للمقاومة التقراوية (TPLF), كما إنبثقت فيما بعد جبهة تحرير الأوغادين (Jabhadda Wadaniga Xoreynta Ogaadeenya), وجبهة تحرير الأرومو (OLF), , وفى عام 1974 م تمكنت مجموعة من الضباط الأثيوبين من السيطرة على مقاليد الحكم فى أثيوبيا, بقيادة تفرى بانتى واتناقو أبانى وأمان عندوم ومنغستو هيلى مريم، وتنافست تلك المجموعة من الضباط الأثيوبيين أيضاً فيما بينها على السلطة والنفوذ, وقد تمكن منغستو هيلى مريم من حسم الصراع لصالحه, وأصبح رئيساً لأثيوبيا منذ عام 1975 م.
وفى فترة حكم منغستو هايلى مريم, تحولت أثيوبيا من الحكم الأمبراطورى إلى الحكم العسكرى, الذى إعتنق الأيدلوجيا الإشتراكية كمنهج وإسلوب عمل لمدة خمسة عشر عاماً, وقد عانت الدولة الأثيوبية فى فترة حكم منقستو من كثرة الحروب الداخلية والخارجية, وقد أدى تنامى ظهور حركات التحرر الوطنى فى أثيوبيا, والصراعات السياسية الداخلية, إلى تفاقم أزمة الإندماج الوطنى فى الداخل الأثيوبى, ونتيجة لتفاقم حدة الحرب الأهلية تمكنت جبهة تحرير أرتريا (EPLF) من الوصول إلى أسمرا والإستيلاء على السلطة فى كامل أرتريا, وجبهة تحرير التقراى (TPLF) من الوصل إلى أديس وتمكنها من الاستيلاء على السلطة فى كل أثيوبيا, عبر ثورة مسلحة فى عام 1991 م, وتشكلت حكومة جديدة فى أثيوبيا بقيادة إئتلاف مكون من أربعة تنظيمات إثيوبية أطلق عليه إسم الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب أثيوبيا (أهاديق) (EPRDF) بقيادة مؤسس أقوى تنظيماتها الجبهة الشعبية لتحرير التقراى (TPLF) بقيادة ملس زيناوى, وهى تعتبر من أقوى فصائل الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا إلى الآن, وقد أعدت الحكومة الانتقالية الدستور الأثيوبى الجديد الذى إعتمد الفيدرالية واللامركزية كنظام للحكم فى أثيوبيا, كما تم تقسيم الأقاليم الأثيوبية على أسس إثنية لتفادى أزمة تململ العرقيات والإثنيات فى مسألة الحكم.
ملس زيناوى من الثورة الى الدولة:
ولد زيناوي أسراس الملقب بملس زيناوي في مدينة عدوة باقليم التقراى فى الثامن من مايو من العام 1955, م, وتخرج ميلس زيناوى من كلية (وينقيت) الثانوية بامتياز وحصل على منحة دراسية فى جامعة أديس أبابا, وفى العام 1975م بعد قضائه فترة سنتين فى دراسة الطب بحامعة أديس أبابا, ترك الدراسة وانضم الى الجبهة الشعبية لتحرير شعب التيقراى نتيجة للاضهاد الذى يعانى منه شعب التقراى الذى ينحدر منه, وقد أسس ملس زيناوى الرابطة الماركسية اللينينية بجبهة تحرير التقراى, وعبر نشاطه المنظم وقدراته التنظيمية العالية وشخصيته الكارزمية هيأ نفسه تدريجيا إلى الوصول للقيادة العليا لجبهة تحرير شعب التقراى (ويانى) (TPLF)، وأصبح رئيس جبهة تحرير شعب التقراى, كما أصبح رئيساً للجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب أثيوبيا ورئيس اللجنة التنفيذية لها، ورئيس الحكومة والقائد الأعلى للقوات للقوات المسلحة من بين أعضاء اللجنة التنفيذية للجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية (أهاديق) البالغ عددهم 36 عضواً، وذلك بعد استيلاء الجبهة على مقاليد الأمور فى أثيوبيا وهزيمتها لنظام الدرك بقيادة الرئيس منقستو هايلى مريم.
وتزوج الراحل ميلس زيناوى من السيدة المقاتلة اذيب مسفن، وهى أحد المقاتلات الأقوياء اللاتى كن يقاتلن فى الميدان قبل زواجها من ملس زيناوى، وهى المرأة الوحيدة العضو فى اللجنة التنفيذية للجبهة الثورية الديمقراطية, وتحصل الراحل ميلس زيناوى على شهادة ماستر من الجامعة المفتوحة في المملكة المتحدة، وماجستير في الاقتصاد من جامعة ايراسموس في هولندا, وهو رجل متقشف وله قدرة كبيرة على العمل، ويتميز باخلاصه التام لقضية شعبه وخدمة قضاياه، وكان يعمل بكل قوة لمحاربة الفقر والفساد فى أثيوبيا, وقدد حقق أثناء رئاسته للوزارة فى أثيوبيا إنجازات كثيرة فى المجال السياسى والإقتصادى والإجتماعى , مما ساهم فى تدفق مليارات من الدولارات كمساعدات إلى أثيوبيا التى تعتبر من أكبر الدول المتلقية للمعونات الخارجية في أفريقيا, كما أنها أيضاً تعتبر الدولة الثانية فى العالم التى تتلقى معونات اقتصادية وعسكرية بعد اسرائيل من الولايات المتحدة الأمريكية يقدر حجمها بحوالى 6.2 مليار دولار، وقد أصبح حجم النمو السنوي للإقتصاد الأثيوبى فى عهد رئيس وزراء أثيوبيا الراحل ملس زيناوى يقدر بحوالى 9٪، ويعتبر هذا النمو من أفضل معايير النمو العالمية في البلدان الغير منتجة للنفط.
وقد لعب ملس دوراً كبيراً فى النهوض بالبنية التحتية لدولة أثيوبيا واخراج الملايين من سكان بلاده من شبح الفقر، وقبل مرضه تمت دعوته لتمثيل أفريقيا في اجتماعات G8و G20 والدول المتقدمة اقتصاديا في العالم نتيجة لما حققه النموذج الأثيوبى الإقتصادى من تقدم ونمو فى عهده, فى بلد يفوق عدد سكانها ال 85 مليون نسمة, والجدير بالذكر أن ملس زيناوى كان قد وعد بالتنحي في عام 2015 م، ولكن جاءت الأقدار بعكس ما يتمنى, حيث أنه اختفى عن الأنظار منذ يوليو من العام الجارى نتيجة لمرض عضال (سرطان الكبد), وقد كثرت التكهنات عن حالته الصحية والشائعات داخل أثيوبيا عن وفاته, الى أن تم الإعلان رسمياً عن وفاته في 21 أغسطس 2012 م .
والجدير بالذكر هنا أن رئيس الوزراء الأثيوبى ميلس زيناوي بدأ حياته السياسية ماركسياً, ولكن نهجه الماركسى كان يسير فى مسار معادى للإتحاد السوفيتى السابق نتيجة لدعمه لنظام الدرك بقيادة منقستو هايلى مريم, ولكن المتغيرات الدولية والإقليمية والمصلحة الوطنية لبلاده, دفعت بملس زيناوى المتمسك بأصوله اليسارية, للتحالف مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية مع ضمان وجود علاقات متميزة له مع الصين التى زالت غروضها واستثماراتها تسهم فى انعاش الإقتصاد الأثيوبى، وربما تكون علاقاته القوية مع الصين لا تنال استحسان الولايات المتحدة الأمريكية, التى تعتبر الصين المنافس القوى لها للسيطرة على الموارد الأفريقية, ولكن يبدو أن ملس زيناوى قد أتخذ منهجاً واسلوب عمل معتدل يحاول به إرضاء الجميع والإستفادة من تعدد الواقع الدينى والإثنى فى الداخل الأثيوبى والتحولات الإقليمية والدولية فى سبيل تعزيز الإقتصاد والإستقرار فى الداخل الأثيوبى ودعم مكانة أثيوبيا الإقليمية والعالمية.
سياسة أثيوبيا فى منطقة القرن الأفريقى فى عهد ملس زيناوى:
خلال النضال ضد نظام الدرك الأثيوبى السابق بقيادة منقستو هايلى مريم، كانت الجبهة الشعبية لتحرير التقراى بقيادة ملس زيناوى (TPLF) والجبهة الشعبية لتحرير إريتريا بقيادة الرئيس الحالى أسياس أفورقى (EPLF) فى حالة تحالف سياسى عسكرى وتنسيق تام ضد عدوهم المشترك منقستو هايلى مريم، ,حيث تم توقيع اتفاقية سرية بين حركتى الجبهة الشعبية لتحرير التقراى بقيادة ملس زيناوى, والجبهة الشعبية لتحرير أرتريا بقيادة أسياسى أفورقى، تنص على أنه بعد الإطاحة بنظام الدرك بقيادة منقستو هايلى مريم, سوف تقبل جبهة تحرير شعب التيقراى إجراء استفتاء على استقلال إريتريا, وقد عقد الإستفتاء في أريتريا فيما بعد, والذى اختارت أريتريا عبره الاستقلال عن أثيوبيا فى عام 1993 م، وأعترفت أثيوبيا تحت حكم ملس زيناوي باستقلال إقليم أرتريا.
واستمرت العلاقة بين الزعيمين الثوريين ملس زيناوى وأسياسى أفورقى وطيدة حتى عام 1996 م, حيث شاب العلاقة بين الزعيمين بعض سؤء الفهم إثرعودة الرئيس الأريترى أسياسى أفورقى من عطلة في كينيا مع أسرته بطائرة الخطوط الكينية, وتوقفه في أديس أبابا لمقابلة رئيس وزراء أثيوبيا ميلس زيناوي, ومواصلة رحلته الى أسمرا عبر أحد المروحيات الأثيوبية عبرعرض قدمه له رئيس وزراء أثيوبيا الراحل ملس زيناوى, وبينما كانت المروحية في طريقها إلى أسمرا اشتعلت فيها النيران, ولكن تمكن طاقمها من العودة إلى أديس أبابا وهبطت بأمان هنالك, وقد أبلغ أفورقى ملس بأن الحريق كان محاولة لإغتياله والقضاء عليه, وعليه منذ ذلك الوقت بدأ مسار العلاقة الحميمية بين الزعيمين يتراجع.
وبالرغم من دعم ملس لاستقلال إريتريا في عام 1993 م, والعلاقة المتميزة بينه وبين نظيره الأريترى أسياسى أفورقى, الا أن الرئيس الأثيوبى الراحل ملس زيناوى قرر فى نهاية المطاف خوض حرب ضد أرتريا استمرت بين عامي 1998 م و 2000 م, نتيجة لنزاع حدودى حول منطقتى زالمبسا وبادمى, وأسفرت الحرب عن مقتل ما يقرب من 100.000 من الجانبين, وظل النزاع الحدودي بين إريتريا وأثيوبيا دون حل بسبب رفض ملس زيناوى تنفيذ قرار لجنة الحدود الإثيوبية الأريترية الدولية بضم منطقة بادمى لإريتريا ربما لإعتبارات يراها أنها ربما تؤثر فى هيبة المكانة الإقليمية لأثيوبيا.
وفى إطار القضية الصومالية لعب الرئيس ملس زيناوى دوراً محورياً في شؤون جاره الصومال الخصم التقليدي لأثيوبيا حتى وفاته، حيث تشكلت الحكومة الاتحادية الانتقالية فى الصومال التى أمسكت بالسلطة في الصومال بعد مباركة منه، وكان يحاول فى سياسته اتجاه الملف الصومالى دوماً أن تكون معطيات الواقع السياسى فى الصومال متوافقة مع جدول الأعمال الاستراتيجي لأثيوبيا, وعليه كانت القوات الإثيوبية تعبر الحدود الصومالية في كل وقت دون علم أو موافقة من الحكومة الاتحادية الانتقالية، وقد قام ملس فى 2006 م بتدخل عسكرى فى الصومال, خوفاً من تمدد نفوذ المحاكم الإسلامية وتأثيرها على الداخل الأثيوبى بدعم ومباركة من الولايات المتحدة الأمريكية, وقد تسبب التدخل الأثيوبى فى الصومال في إحداث دمار هائل فى الصومال, وقتل حوالي 10.000 من المدنيين الصوماليين، ونتيجة لهذا التدخل الأثيوبى فى الصومال تصاعدت أعمال العنف فى الداخل الصومالى نتيجة للمقاومة الشرسة التى قادها الصوماليون ضد القوات الأثيوبية, كما ساهم هذا التدخل الأثيوبى فى هروب قيادات المحاكم الإسلامية من الصومال إلى إريتريا التى كانت ولا زالت فى حالة عداء مع أثيوبيا, بينما شاركت القوات الأثيوبية أخيراً فى المعركة ضد تنظيم شباب المجاهدين, الذى ظهر كتنظيم مقاوم للتدخل الأثيوبى بعد هروب قيادات المحاكم الإسلامية أثناء الغزو الأثيوبى للصومال عام 2006 م, بمباركة من الولايات المتحدة والإتحاد الأفريقى, وبمشاركة قوات يوغندية وبورندية وتدخل عسكرى كينى, وفي التاريخ الحديث عارض ميلس تجزئة الدولة الصومالية, واستند في معارضته لسبب إستراتيجي بعيد النظر, ألا هو أن تجزئة الصومال قد تخلق مطالبات فى داخل دولته أيضاً بالإنفصال, والجدير بالذكر هنا أن ملس زيناوي توفى بعد يوم واحد من إنتهاء فترة الحكومة الاتحادية الانتقالية الصومالية, وقيام الانتخابات في الصومال.
وتميزت علاقة الدولة الأثيوبية مع السودان بعد استيلاء الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب أثيوبيا على مقاليد الحكم فى أثيوبيا بقيادة الراحل ملس زيناوى بالدفء, نتيجة للدعم اللامحدود الذى قدمته الحكومات السودانية المتعاقبة لجبهة تحرير التقراى بقيادة ملس زيناوى, حيث كان العمل السياسى والعسكرى لجبهة تحرير التقراى ينطلق من قواعد فى الداخل السودانى, بالإضافة لهجرة الغالبية من شعب التقراى واستقرارها بالسودان نتيجة للعنف الذى مارسه نظام الدرك الأثيوبى بقيادة منقستو هايلى مريم ضدها, وقد لعب السودان تحت حكم الإنقاذ الدور الحاسم فى القضاء على نظام منقستو عبر الدعم السياسى والعسكرى اللا محدود لجبهة تحرير التقراى (TPLF), والجبهة الشعبية لتحرير أرتريا (EPLF), الى أن تمكن كليهما من الإطاحة بنظام منقستو فى عام 1991 م.
وبينما كانت علاقة ملس زيناوى فى بداياتها مع نظام الإنقاذ فى السودان قائمة على الإحترام المتبادل وتقدير جهود الدور السودانى شعباً وحكومة على ما بذلوه فى سبيل دعم الثوار الأثيوبين ضد نظام منقستو هايلى مريم, الا أن الخوف من تصدير الإسلام السياسى للداخل الأثيوبى (البعد الدينى), بالإضافة لإتهام أثيوبيا للسودان بمحاولة قتل الرئيس المصرى المخلوع حسنى مبارك عام 1995 م, أدى الى برود فى العلاقات, تحول فيما بعد الى دعم متبادل من الطرفين لجماعات المعارضة, أدى الى فتح جبهة عريضة من القتال بين البلدين على طول الحدود بينهما, حيث أصبحت أثيوبيا منذ العام 1995 م, تعمل فى اطار الحلف الأمريكى لإحتواء حكومة الإنقاذ السودانية التى تصنفها الولايات المتحدة الأمريكية بأنها دولة راعية للإرهاب ومناهضة للسياسات الأمريكية فى المنطقة.
ولكن اندلاع المناوشات الحدودية الأولى قبل أندلاع حربى 1998 م – 2000 م بين أثيوبيا وأرتريا, أجبرت قيادة أثيوبيا التى فقدت الموانىء الأرترية وحليفها الإستراتيجى الأرترى أسياسى أفورقى منذ عهد النضال ضد نظام منقستو, الى التوجه نحو تحسين علاقاتها بالسودان لأسباب سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية, وتطور هذا المسار فى تحسين العلاقات بين السودان وأثيوبيا فى جميع المجالات وخاصة مسألة ترسيم الحدود وتأمينها والتعاون التجارى, والجدير بالذكر أن الشعب الأثيوبى وبالتحديد قومية التقراى لا زالت تكن وداً للسودان وشعبه, كما لا زالت بعض مكوناتها تعيش فى مجموعات كبيرة داخل السودان وتشارك فى العملية السياسية فى الداخل الأثيوبى عبر الإجتماعات التنظمية التى تعقدها الجبهة الشعبية لتحرير التقراى (الويانى) فى السودان, وربما كان لهذا الضغط الشعبى أثر فى تحسين العلاقات وفى تبنى سياسة معتدلة نحو السودان من جانب أثيوبيا.
وتظهر أهمية البعد السودانى لدى صانع القرار (رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوى) ومعاوينيه فى جبهة تحرير التقراى الفصيل الأقوى فى حزب الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب أثيوبيا (أهاديق) (EPRDF), فى عملية التقسيم الإدارى الجديد للأقاليم الأثيوبية على أساس فيدرالى إثنى, حيث تم ضم منطقة الحمرة التى تجاور حدودها السودان لإقليم التقراى بدلاً من تبعيتها لإقليم الأمهرة فى السابق, وفى هذا الأمر بعد استراتيجى لصانع القرار فى جبهة تحرير التقراى, ربما يكون أول أسبابه وجود منفذ لإقليم التقراى على السودان فى حالة أى ضغوط سياسية أو اقتصادية أو عسكرية مستقبلية من جانب الأمهرا وربما الأرومو الذين هم فى حالة تنافس مستمر على السلطة والثورة مع التقراى, وأرتريا التى تناقضت مواقفها وأهدافها مع الجبهة الشعبية لتحرير التقراى (ويانى) فيما بعد, مما أدى لنشوب حرب دموية بينهما, وثانياً الوزن الإقتصادى لمنطقة الحمرة وما جاورها فى زراعة المحاصيل النقدية (ذرة, سمسم) وقربها من موانى التصدير السودانية, مما يساهم فى دعم اقتصاد اقليم التقراى بالإضافة للإستفادة من السودان فى مجال التبادل التجارى وهجرة العمالة الرخيصة من الإقليم للسودان لتساهم تحويلاتها النقدية فى انعاش اقتصاديات الإقليم.
ولقد لعب الراحل ميلس زيناوى دوراً محورياً قبل وفاته فى ملف الوساطة بين السودان ودولة جنوب السودان التى أنفصلت عن وطنها الأم فى التاسع من يوليو من العام 2011 م, اللتان نشب بينهما بعد الإنفصال صراع حدودى وأزمة حول تحديد تعرفة نقل خام البترول عبر أراضى جمهورية السودان, الشىء الذى أدى لإيقاف دولة جنوب السودان لضخ النفط عبر الأراضى السودانية مما أسهم أيضاً فى توقف تصدير النفط من السودان لأثيوبيا خاصة بعد هجوم دولة الجنوب لهجليج السودانية, بينما ساهمت أثيوبيا فى عهد ملس زيناوى فى إرسال قوات تعمل ضمن القوات المشتركة للأمم المتحدة والإتحاد الأفريقى فى دارفور, بينما هنالك قوات أثيوبية أخرى تعمل فى أبيى تحت مظلة الأمم المتحدة, وقد رسم الراحل ميلس زيناوى مساراً سياسياً تعاونياً متوازناً مع السودان خدم مجالات التعاون فى شتى المجالات بين البلدين.
واتسمت سياسة أثيوبيا فى عهد رئيس وزرائها الراحل ميلس زيناوى اتجاه منطقة البحيرات ودولة جنوب السودان والجارة كينيا بالدفء فى العلاقات والتعاون فى العديد من المجالات بالرغم من التنافس بين كينيا ويوغندا وأثيوبيا على لعب دور اللاعب الإقليمى القوى المساند للدور الأمريكى فى المنطقة, خاصة فى قضية مياه النيل التى وقفت فيها أثيوبيا مع الإتفاقية الإطارية الجديدة التى وقعت فى كمبالا فى 14 مايو 2010 م, مساندة لدول حوض النيل الجنوبى بالرغم من أنها من دول حوض النيل الشرقى وتقتضى مصالحها الوطنية أن تتعاون مع دوله لإيجاد أنسب الحلول لقضايا تقاسم المياه والتعاون المشترك بينهما فى هذا الشأن, ولكن تطور علاقة الرئيس الراحل ملس زيناوى بالسودان بالإضافة لزيارته لمصر ما بعد الثورة ربما شكلت عاملاً جديداً لإيجاد فرص للتعاون فى مجالات المياه بين مصر ودولة أثيوبيا, وانفراج فى العلاقات بين الدولتين بشأن قضايا المياه.
أثيوبيا ما بعد رحيل ملس زيناوى :
لا شك أن وفاة رئيس الوزراء ميلس زيناوي في 21 أغسطس 2012 م, سوف تؤثر في إثيوبيا وسوف تكون لها تداعيات وعواقب عميقة على الأمن الوطني الأثيوبى والإقليمي ان لم تحسن القيادة التى تليه ادارة أمور الملف الداخلى والخارجى الذى حدد موجهاته ومرتكزاته رئيس وزراء أثيوبيا الراحل ملس زيناوى, حيث أن غياب ملس مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير التيقراي (TPLF) ومهندس الجبهة الثورية الديمقراطية (أهاديق) (EPRDF) الحاكمة فى أثيوبيا, سوف يترك فراغاً كبيراً يصعب ملئه بسهولة لغياب شخصية كارزمية قادرة على ادارة دفة الأمور داخلياً واقليميا ودولياً بالرغم من إرساء ملس لنظام سياسى وإقتصادى تسير على هداه الأجيال الأثيوبية المتعاقبة, وهذا يتضح من تأخير الإعلان عن وفاة ميلس زيناوى ومدى تأثير فقده على القيادات داخل الحزب الحاكم (أهاديق) وجبهة تحرير التقراى (ويانى).
لقد كان رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوى يسيطر بإحكام على مفاصل السياسة والإقتصاد الأثيوبى, ويعمل على المستوى السياسى الداخلى أحياناً بشكل ناعم, وأحياناً أخرى بقوة اتجاه مسألة الحريات السياسية والاجتماعية والعرقية والدينية, بينما في السنوات الأخيرة، كان ملس يميل أكثر على منهج القوة لإخماد المعارضة المتزايدة والتى يرى أنها يمكن أن تهدد الإستقرار السياسى والنمو الإقتصادى الذى تحقق فى أثيوبيا, وعلى الرغم من هذا استطاع ملس بحنكته أن يصبح رصيدا هاما للمجتمع الأثيوبى والإقليمى والدولى، وأن يكون حليف قوي للولايات المتحدة الأمريكية والغرب في جهود مكافحة ما يسمى بالإرهاب في منطقة شرق أفريقيا (East Africa Counter Terrorism Initiative), وعليه يمكن القول أن حكومة الراحل ملس زيناوى تعد الحكومة الوحيدة التى استطاعت تحقيق استقراراً جزئيا فى داخل أثيوبيا بينما خلقت نوعاً من عدم الإستقرار فى منطقة القرن الأفريقى نتيجة لحربها مع جاراتها أرتريا 1998 م- 2000 م, وتدخلها فى الصومال 2006 م.
وعليه أثيوبيا ما بعد ملس زيناوى تحتاج داخلياً لإنتقال هادى للسلطة, وهذا الانتقال من المرجح أن تشارك فيه جبهة تحرير شعب التيقراى (ويانى) بقوة بممثلين وفق الدستورتحت مظلة الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب أثيوبيا, والتى هى من أقوى فصائله, وأن يحكم فى هذا الإنتقال نائب رئيس الوزراء هايلى مريم ديسلى كرئيس وزراء مؤقت حتى موعد الإنتخابات فى 2015 م, نتيجة لتدخل الولايات المتحدة الداعم الإقتصادى والعسكرى القوى لأثيوبيا, ودعمها لتولى هايلى مريم ديسلى لرئاسة الوزراء, وقد أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية جنرالها كارتر حام قائد القيادة الأمريكية لأفريقيا (AFRICOM) قبل أيام من اعلان وفاة رئيس الوزراء ملس بخصوص دعمها لتولى هايلى مريم ديسلى لرئاسة وزراء أثيوبيا, كما تحدث الرئيس أوباما هاتفياً مع ديسلى وطلب منه العمل على تفعيل دوره كقائد وإرساء الديمقراطية والمحافظة على حقوق الإنسان.
والجدير بالذكر أن هايلى مريم ديسلى الذي درس الهندسة المائية في فنلندا ينتمى الى مجموعة الولايتا من الجنوب الأثيوبى, وهى مجموعة مهمشة الى حد ما فى المجتمع الأثيوبى, أى انه لا ينتمى الى المجموعات العرقية التى لها تنافس تاريخى على السلطة والثروة فى البلاد (أمهرا- تقراى – أرومو), ولكن يبدو أنه يحظى باحترام وقبول من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدوائر الغربية ورئيس الوزراء الراحل ملس زيناوى نفسه, ولكنه ربما لا يحظى بهذا القبول فى الداخل من قبل فصيل الجبهة الشعبية لتحرير التقراى الذين جاءوا الى السلطة عبر الثورة المسلحة, لأنه لم يكن جزءا من حركة حرب العصابات التي أطاحت بنظام منقستو هايلى مريم, وأتت بملس زيناوى على رأس السلطة السياسية فى البلاد، ونتيجة لذلك قد يجد ديسلى صعوبة في الحصول على ولاء الجيش الذي يقع بالكامل تحت سيطرة التقراى,على الرغم من انه كان مقبولا نائبا لملس زيناوى رئيس جبهة تحرير شعب التقراى التى تسيطر فعلياً على القوة العسكرية, ويمكن أن يساهم وجود ديسلى على رأس السياسة الأثيوبية فى استقرار أثيوبيا اذا كان هنالك توافق عليه من قبل الجماعات المؤثرة فى الحزب الحاكم وعلى رأسها جبهة تحرير التقراى, أما اذا لم يحدث توافق عليه خاصة من قبل جبهة تحرير التقراى فان وجوده على رأس السياسة الأثيوبية ربما يسهم في عدم الاستقرار وتهديد الأمن في المنطقة بكاملها حتى اذا حظى بدعم غير محدود من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.
عليه نظراً لغموض بعض الترتيبات الداخلية الحاالية فى الحكومة والجيش الأثيوبى، فمن المستحيل التنبؤء بما يفضى اليه الإنتقال القادم من نتائج ربما تؤثر على المشهد السياسى الأثيوبى الداخلى والإقليمى والدولى, ومع ذلك فان النتائج المحتملة تشير إلى تشكل حكومة انتقالية تقلب عليها سيطرة جبهة تحرير التقراى,عبر واجهة الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب أثيوبيا، على أن تلعب الأجهزة الأمنية والعسكرية دوراً مؤثراً للمحافظة على الإستقرار الداخلى ومواجهة أى محاولات تؤدى لإنقسامات عرقية أودينية من شأنها أن تظهر فى البلاد وتهدد أمنه وأستقراره.
أما الآثار الإقليمية لرحيل ميلس قد تكون هائلة, وربما يهدد تنامى عدم الإستقرار للجبهة الداخلية الأثيوبية بعد رحيل ملس زيناوى فى حالة عدم قدرة من يخلفه على أدارة ملف التنوع العرقى وتمكين كافة الإثنيات والطوائف الدينية من المشاركة فى الحكم والتعبير عن رأيهم, سلامة التدخلات العسكرية الإثيوبية في الصومال والسودان، وتفاقم التوترات مع أريتريا، وتقلص دورها الرئيسي فى مكافحة ما يسمى بالإرهاب في المنطقة, وأن تتمدد الصراعات العرقية والدينية فى الداخل الأثيوبى عبر الحدود لدول الجوار, وتساهم فى تهديد الأمن الإقليمى لدول الجوار, بالأخص السودان الذى لا يزال يحتضن الملايين من الأثيوبين فى أراضيه.
الخاتمة:
رئيس وزراء اثيوبيا السابق ملس زناوي كان بالفعل رجل الثورة والدولة , وهو من القادة الأفارقة القلائل الذين لعبوا أدواراً محورية فى داخل بلادهم واقليمهم وقارتهم, لذلك كان اختفائه لمدة شهرين عن العمل السياسى ومن ثم اعلان وفاته ذو أثر كبير على أثيوبيا والإقليم والعالم بأجمعه، وربما يؤثر رحيله على مستقبل اثيوبيا داخلياً واقليمياً ودولياً, لأنه كان يمسك بتفاصيل السلطة والثروة فى الداخل الأثيوبى, ومفاتيح علاقات أثيوبيا بالإقليم والعالم الخارجى, وقد انتهج ملس سياسات خارجية حققت لأثيوبيا نجاحات اقتصادية فعالة ومكانة اقليمية وعالمية, بالرغم من خوض أثيوبيا لحروب اقليمية مع أرتريا, وتدخل عسكرى فى الصومال, وصراع حاد مع دول محورية فى مجال استخدامات مياه نهر النيل, وبالرغم من جمع أثيوبيا فى عهد الراحل ملس زيناوى التعامل بين قوتين متنافستين على الموارد فى أفريقيا هما الصين والولايات المتحدة الأمريكية, انهالت عليها القروض والإستثمارات الصينية, بينما حظيت أثيوبيا من جانب الولايات المتحدة على معونات اقتصادية وعسكرية سنوية تصل قيمتها لحوالى 6.2 مليار دولار أمريكى, بالإضافة لبرنامج معونات إقتصادية طارئة, هذا بالإضافة لوجود المقر الدائم للإتحاد الأفريقى بها وأحتفاظها بعلاقات متوازنة مع بعض الدول الأفريقية المحورية.
لقد أدار الراحل ملس زيناوى الجبهة الداخلية الأثيوبية الملئية بالتنوع الإثنودينى عبر نهج حقق نوعاً من الإستقرار الداخلى الذى كان معدوماً فى الأنظمة التى سبقته, مما ساهم فى نهوض اقتصاد الدولة الأثيوبية الغير بترولية, ومما لا لاشك فيه أن الراحل ميلس قد استخدم جميع امكانات أثيوبيا الإثنية والدينية فى سبيل تطوير الدولة الأثيوبية, وفى سبيل الحصول على دعم سياسى واقتصادى وعسكرى يجعل من أثيوبيا دولة محورية فى المنطقة بالرغم من فقدانها بعد استقلال أرتريا للموانى البحرية.
عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج
باحث وخبير إستراتيجى فى شؤون القارة الإفريقية و متخصص فى شؤون القرن الأفريقى
E-mail: asimfathi@inbox.com
خريطة أثيوبيا
www.nationsonline.org/.../map/ethiopia-political-map.htm