لِمَ التنازع حول ” أبيي” وهي تابعة لكردفان منذ 1905 ؟!
abdallashiglini@hotmail.com
(1)
قصة قديمة نعيدها مُجدداً ، لكي لا ننسى من الذي فرط في أراضي الوطن ، مثلما سكت عن ذهاب (20580 ) كيلومتراً مربعاً من أرض " حلايب " لمصر عام 1995 وغيرها من الأطراف التي ذهبت بصمت.
إن الذين تسارعوا لسرقة السلطة بليل ، يتعين أن يعرفوا مسئولياتها في الدفاع عن " الوطن " ، لا أن يفرطوا في الأرض والبشر والثروة .
إن الذين وقعوا اتفاقية " نيفاشا " إنابة عن الشعوب السودانية دون مشورتها ، هم الذين يتحملون تبعات الأخطاء القاتلة .و سيأتي يوم المحاسبة لا ريب ، فعلى الأكتاف أعباء ثقيلة تنتظر . لقد كتبَ الكثيرون قبل وبعد الاتفاق . وحَملت السلطة الملف بعيداً عن العيون . بإدعاء أنها هي التي تعرف مصلحة الوطن أفضل من كل الذين يتفرجون مرغمين على المشاهدة مكتوفي الأيدي ، وكانت تتحدى كل تراث التاريخ السياسي السوداني منذ الاستقلال بأنها تملُك المعرفة وشجاعة القرار ،وحكمة الاتفاق .وجاءوا بالسلام .. و لكن أي سلام ؟! .
لقد جاءت " اتفاقية نيفاشا " التي صارت أعلى من الدستور ، بخلاف المعروف في كل الدنيا . وتم نسخ دستور 2005 م وفق مشيئة الاتفاقية وعلى هديها ! . تم التوقيع عليه من طرفي الاتفاق ، واستُبعِدت الشعوب السودانية وممثليها كأنها قطعان أغنام يقرر الراعي عنها ويحكُم !!
يقولون إن المباحثات والمفاوضات دامت منذ 1990 إلى 2005 . تسلل كثير من المفاوضين ، واختبأ العديد منهم ، وطُرِد آخرون ورحل البعض ، وتم التوقيع بطاقم جديد. كانت الإنقاذ تقول في أدبيات أهلها : إننا أصحاب الخبرة والدراية والعلم والحسم . ومن خفاء أشاعوا أنهم أصحاب النبوغ و الذكاء والألمعية ، وأن الحكم الذي دام لهم أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً هو خير دليل على نبوغ حكمتهم وعلو معارفهم وتوهُج ذكاءهم. ولم نجد آخر المطاف سوى ثقافة النقل من السف دون إعمالٍ للذهن والتكفير التي صدَّعوا بها الرءوس !! . صدق المثل الذي يقول : " خفّة الرأس تتعب الساقين " .
لم يكن انفصال السودان وانشطاره محض قضاء وقدراً ، بل قام على ساعد " الإنقاذ " وقدرتها على التنفيذ بلا رؤى و بلا تفكير في العواقب ! . ماذا يفعل فاقد الشيء !. فكل من له صندوق أعلى كتفيه كان سيعلم تداخل الاقتصاد والسياسة ، وغلبة الاقتصاد . وأن من يُقَدَّم له طبق " تقرير المصير " على صحن من ذهب وهو يعلم أن أرضه المحددة بتاريخ الأول من يناير 1956 تحوي حوالي 80 % من ثروة بترول السودان الواحد ، فلن يكن له خياراً سوى الانفصال . وأن الذي يعرف المآل كان له أن يحسم كل الخلافات قبل استفتاء تقرير المصير ، إذ أسلمنا أنه الخيار الأسهل .وتم ضرب البلاد وأمنها واقتصادها ومصالح شعوبها في أضعف منطقة ، وبعده تم الاعتراف بالدولة الوليدة . و طوت سلطة السودان علم دولتها وغادرت بلا ثمن !!
(2)
نعود للقضية الأكثر غرابة وقد وافقت عليها " سلطة الإنقاذ " وهي :
كيف يتم التنازع حول " أبيي" وهي تابعة لكردفان منذ 1905 ؟
سؤال أبسط من كل القرائن التي قد يتم حشدها للتدليل على غرابة التفاوض بشأن " أبيي" ، بل وامتد التنازل إلى صناعة بروتوكولاً خاصاً بها وتحولت بموجب توقيع الاتفاق إلى تبعيتها المزدوجة لكردفان وبحر الغزال في ذات الوقت !.ووافقت " سلطة الإنقاذ " ، في حين أن المنطق يقول إن الأرض التي تحد المناطق قيد تقرير المصير هي حدود الأول من يناير 1956 !! . فكيف سقطت "أبيي " عن حساب دولة " السودان " لتصبح موضوع نزاع بدلاً عن حق لا يمكن التنازل عنه . بل ويمكن أن تخرج عن الوطن الأم بدعوى استفتاء تم صناعته ليحذف حق الرعاة المتنقلين من استفتاء المصير وتصبح " أبيي" آخر المطاف تابعة لجنوب السودان. وليس هنالك منفذاً لرعاة " السودان " إلى بحر العرب !! .
من له الحق في غفلة مكتوبة بالإنجليزية والعربية ، كأنه لم يقرأ النصوص؟! .
منْ له الحق في التنازل عن حق أيلولة " أبيي" لكردفان ، وطرح استفتاء حولها ؟!. ومن الذي له الحق في إحالة أمر ثابت في وقائع ومستندات التاريخ إلى موضوع للنزاع !؟
لماذا تنازَل " أذكياء الدولة " عن هذا الحق المعلوم للقاص والداني ؟ّ!
لماذا تنازَل " أذكياء الدولة " عما يقول فقههم بأنه معلوم بالضرورة ؟!
لماذا تنازل " أذكياء الدولة " عن هذا الحق ؟ وهم يعلمون أن الاتفاق ليس حكماً ذاتياً ضمن دولة واحدة ، حتى يتراخوا في التفاصيل . إن اتفاق " نيفاشا" جعل إمكانية تكوين دولتين واقعاً حقيقياً، وأن هنالك قرائن بادية للعيان من أن دولة جديدة سوف تنشأ من بين أضابير اتفاق " نيفاشا " ، تضمنت ترتيب الدولة الجديدة في رقعة الورق الممهور بالتوقيعات، وأن أربعة عشر دولة ومنظمة شهدت الاتفاق وأمدته بالقوة أو بالعصا ، وليس هنالك من جزرة .لم يكن هنالك من شيطان ينهضُ في التفاصيل !!
(3)
هنا ما تقوله الوثائق :
{*} مقتطف من دستور السودان 2005 الذي وقعته "الإنقاذ " و " الحركة الشعبية :
منطقة أبيي
183ـ (1) دون المساس بأحكام هذا الدستور واتفاقية السلام الشامل، يُطبق على منطقة أبيي بروتوكول حل النزاع المبرم بشأنها.
(2) تُمنح منطقة أبيي وضعاً إدارياً خاصاً تحت إشراف رئاسة الجمهورية يكون فيه سكان منطقة أبيي مواطنين في كل من جنوب كردفان وبحر الغزال.
(3) يدلي سكان منطقة أبيي بأصواتهم في استفتاء منفصل يتزامن مع استفتاء جنوب السودان، وعلى الرغم من نتائج استفتاء جنوب السودان يتضمن الاقتراح المطروح لسكان منطقة أبيي الخيارين الآتيين :ـ
(أ) أن تحتفظ منطقة أبيي بوضعها الإداري الخاص في الشمال،
(ب) أن تكون منطقة أبيي جزءً من بحر الغزال.
(4) يكون الخط الحدودي بين الشمال والجنوب والمقرر في الأول من يناير 1956 غير قابل للتعديل إلا حسبما يقرر وفقاَ للبند (3) أعلاه.
(4)
وهنا أيضاً ما تقوله الوثائق :
{*} مقتطف من مبادئ الاتفاق بشأن ابيي وفق اتفاقية السلام 9/1/2005 كينيا :
مبادئ الاتفاق بشأن أبيي
عام :
1-1-1 أبيي هي جسر بين الشمال والجنوب يربط شعب السودان
1-1-2 تعرف المنطقة على انها منطقة مشيخات دينكا نقوك التسعة التي حولت إلى كردفان في 1905 ،
1-1-3 تحتفظ المسيرية وغيرها من البدو الرحل بحقوقهم التقليدية برعي ماشيتهم والتحرك عبر منطقة أبيي.
1-2 الفترة الانتقالية :
عند توقيع اتفاق السلام تمنح أبيي وضعاُ إدارياً خاصاً كما يلي:
1-2-1 يكون سكان أبيي مواطنين في كل من غرب كردفان وبحر الغزال مع تمثيلهم في الأجهزة التشريعية لكلا الولايتين .
1-3 نهاية الفترة الانتقالية :
بالتزامن مع الاستفتاء في جنوب السودان يدلي أهالي أبيي بأصواتهم بصورة منفصلة ويعطي المقترح الذي يتم التصويت عليه بصورة منفصلة أهالي أبيي الخيارين التاليين بصرف النظر عن نتيجة استفتاء الجنوب :
أ ) أن تحتفظ أبيي بوضعها الإداري الخاص في الشمال .
ب ) أن تكون أبيي جزءا من بحر الغزال .
1-4 الخط بين الشمال والجنوب الموروث منذ الأول من يناير 1956 غير قابل للتعديل إلا كما اتفق عليه أعلاه.
(5)
لماذا تم تعديل الصياغة من تبعية " أبيي" للشمال ،إلى وضع إداري خاص بالشمال ؟
منْ الذي قلب موازين الكيل ؟ .
لماذا تم تعديل تبعية أبيي لكردفان لتصبح بعد توقيع الاتفاق تابعة إدارياً لجنوب كردفان وبحر الغزال معاً ؟! .
هذا التفريط المُخل يقدح في قدرة مفاوضي " سلطة الإنقاذ " ويكشف أنهم تسلموا ملفاً ليسوا هم أهلاً له ، وليسوا مؤهلين فنياً أو قانونياً ،وقبل ذلك كله فإنهم لا يملكون تفويضاً جماهيرياً من شعوب أهل السودان .إن الخلل ليس في اجتهاد أفراد لم تخولهم شعوبهم لبتر الوطن الواحد لدولتين متناحرتين فحسب ، بل الخلل هو في الجهاز المفهومي للذين قادوا التفاوض والخلل في مرجعية الإسلام السياسي الذين استبدلوا أنفسهم بالوطن والذين منحوهم الحق لتوقيع ما لا يملكون حق البت في أمره. فجميعهم لا يعرفون الأرض ولا الشعوب التي يتفاوضون حول مصيرها. وهذا هو السمّ الذي سوف يتجرعه الجميع .
ذهب الجنوب دولة أخرى ، ولن يعود " السودان" دولة واحدة .إن التخلي عن أي شبر هو تنازل عن الوطن والوطنية وحقوق الشعوب . إن الخسارة في " أبيي" هي خسارة للسودان في البشر و الأرض والاقتصاد . ليس هنالك خيار أمام دولة أخرى نهضت بكامل شخصيتها من رُكام الحروب ، وهي دولة لها مصالحها و ذات كيان دولي مستقل ولها مستشارون لهم خبرات دولية . استغلت جهالة المفاوضين عن حقوق بلادهم وانتزعت " أبيي" للتفاوض وبلا ثمن !!
لماذا تتحمل الشعوب السودانية جهل الذين يفاوضون باسمها ؟
عبد الله الشقليني
28/9/2012