من قضايا إصلاح الفكر الدينيّ (٢-٥) .. بقلم د. محمد بدوي مصطفى

 


 

 

 


mohamed@badawi.de
إن الأغلبية العظمى من أهل الدين – كما ذكرت في مقالي السابق - قد أجمعت بوجود (إسلام) واحد لا تتراجع عنه شبراً ولا تختلف فيه صنفا. هذا اسلام اهتدوا إليه أنفسهم. ينشرونه بين البشر في حلقاتهم، يبلّغونه في كتبهم ويجهرون به في فتاويهم، فما أكثرها وما أكثرهم في هذا الزمان. بيد أن ذاك الإسلام الذي يستوثقون به، هو، بلا أدنى شك، عرضة للمناظرة والنقد والاحتجاج من كل النواحي، عقائديّة، فلسفيّة أم فقهية، الخ. كيف لا والواقع المؤلم أمام أعيننا: نراه في اختلاف الآراء وتشعب الاعتقادات وتكاثر الفتاوي وتضارب الأقوال من المحيط إلى الخليج والكل يزعم باستمساكه بعروة وثقى (مع أو بدون أداة التعريف). دعونا نأخذ، على سبيل المثال، بلدنا السودان؛ تجدنا نعيش قضية النزاع والتنازع والاستنزاع القائم على السلطة الدينية السياسية منذ أن استفتحت أعيننا على أبواب العيش وما تفتأ أن يضطرم لظاها سنة تلو الأخرى. وكما جاء حديث حسن الترابي بالأمس، كقائد لحزب المؤتمر الشعبي عن حزب المؤتمر الوطني  الذي انفصل عنه لأسباب سياسية بحتة لاذعا وممزقا شرّ ممزق، يقول: "لذلك أقام ولاة الأمر الحاكم مؤتمراً أسموه الحركة الإسلامية ليحتكروا تلك الصفة لأنفسهم وعزلوا أعلام الحركة المعهودين مكبوتين أو معتقلين، والسياسة والحكومة تظل محتكرة لحزب لهم هو المؤتمر الوطني ومعه سواد من عوام المنافقين والمستوزرين من قوى سياسية وآخرين يبتغون المنافع." وليس الحال بالأحسن والأهدأ خارج حدود السودان؛ فشيوخ السعوديّة - ممن نصّبوا أنفسهم حماة للدين الذي لا دين بعده أو غيره - يفتون في أمور شتى ينتقضها عليهم علماء الأزهر، لأنهم هم أيضا، قد استفردوا بعرش الدين ماثلين أمام الأمّة أجمع كمرجعية مطلقة في مسائل الإفتاء والاستنباط والاجتهاد قبل أولئك. أما حينما ننظر صوب غيرهم نجد عندئذ الحال ما تزال على ما هي؛ فأهل الزيتونة بتونس ينقمون على علماء القرويين بالمغرب ويستدركوا عنهم. ومن ثم تزداد رقعة الاضطراب باسم الدين والانفراد بصحيحه وخالصه، فتنتشر عدوى العداء إلى نطاق مجتمع المسلم البسيط، إذ نجد شيخ هذا المسجد يغتمّ لسماع فتاوي شيخ ذاك، رغم قرب الشقة المعرفية والجغرافية بينهما، فهذا عرف عنه أنه من انصار السنّة والآخر ينجرّ إلى جماعة السلفيّة، ونار الضغينة لا تفتأ في التسرب من دار إلى دار ومن مجتمع إلى آخر والمسلمون على أشكالهم يقعوا! والعجيب في أمرهم أنهم يستندون لكتاب واحد: القرآن الكريم؛ من ثمّ يستشفون آراءهم من نفس أمهات الكتب (الصحيحين وغيرها)، ويرجعون إلى بطون نفس المرجعيات في التفاسير والفقه (تفسير الجلالين الخ)، يرفعون راية العقيدة السليمة التي لا تشوبها شائبة، ويكفّرون الملل الأخرى انطلاقا من نفس المرجعيات السالف ذكرها، مدعين أنهم ينفردوا بمعرفته الكاملة والالتزام بنصوصه وقواعده جُلّها دون غيرهم. بناءا على هذه الظاهرة الإيديولوجية المختصة بالفكر الإسلامي عبر القرون والتي اتسمت وتتسم بها كل حقب الإسلام، يطرح الكاتب محمد أركون من جديد مشكلة الإسلام الصحيح المرتبط بالدين الحقّ (أنظر أركون: أين الفكر الإسلامي المعاصر). بعد هذا العرض عن حال الأمّة يطرح أركون أسئلة عده في هذا الشأن تجعلنا نتساءل: هل هناك من سبيل علميّ للتعرف على هذا الإسلام حتى تجتمع الأمّة وعلمائها عليه؟ مع استبعاد الفِرق الأخرى من شيعة وعلويين ودروز إلخ. أهل يجب علينا - انطلاقا من هذا التباين الكبير بين الملل- أن نغيير نظرتنا لديننا ونقرّ بضرورة التعددية العقائدية لأن مصدر الإسلام هو القرآن (الواحد)؟ فآي القرآن ينطوي على معان غزيرة ومادة دسمة انبثقت منها تأويلات وشروحات عدة وهي ما تزال ملهمة للباحث المتدبر مع تغير الزمان والمكان. يشيد أركون بحاجة الفكر الإسلامي المعاصر الماسّة إلى إدراك معنى (القطيعة المعرفيّة) لينتقل من مرحلة الإنتاج الأسطوري والاستهلاك المخيالي للمعاني إلى مرحلة الربط بين المعاني والتأريخية في كل ما يطرحه ويعالجه من أمور الدين، السياسة، الثقافة ومستجداتها. ذكرت في مقالي السابق اجتهادات الغزالي وابن رشد - اللذين استدل بها أركون في غير موقع - وتبنيهما للقياس والاستدلال والمقارنة والمعارضة والتحقيق والرد والرفض والحد الخ.، كوسائل علمية مهمّة لاستخراج الحقيقة عبر العقل الناشط. على عكس التكرار والتقيّد الأعمي بما قاله السلف في كل صغيرة وكبيرة دون أن نستدرك عليهم ما خلصوا إليه من نتائج. يجب على الباحث العالم وكما يقول آي الذكر الحكيم (إنما يخشى الله من عباده العلماء) أن يرفض هذا التقليد الأعمى والإلتزام المتعصب كما رفضه الغزالي. ينبغي علينا في هذه الألفية الثالثة أن نتبنى وظيفة الفلسفة والتحليل لتدبر المخلوقات كما يجب علينا أن نحكّم العقل ونوظّفه في عملية الإعمال وفي كل هذه الممارسات والمعالجات لكي نستدركها ونبلغها بعلمية كما يقول ابن رشد. فالأمر لا يتعلق بما قاله الرسول أكثر مما أنه يتصل اتصالا وثيقا بالمؤلفات التي سُطِّرت بعده وخضع فيها المؤلفون لمؤثرات شتّى، فكرية، ثقافية، لسانية، اجتماعيّة وسياسيّة في فترات تاريخية مختلفة مع تباين الأمم واختلاف المجتمعات الإسلامية واختلاف عاداتها وتقاليديها إذ أنها تنبسط على مساحة كبيرة من الكرة الأرضية. يتجلّي هنا البعد بين القارئ المسلم المقلّد وبين المسلم الباحث المتحرر من المعارف الخاطئة كما أشار أركون في مداخلاته العديدة.
إن بلادنا تكتظ بفقهاء الدين السياسي (أو بسياسييّ الدين) وهؤلاء يهمهم قبل كل شيء أن يمتلك دينهم الذي انفردوا به مقالد السلطان ولجان المُهرة المسمومة في كل اسباب الحياة السياسية، الأخلاقية، الاقتصادية وحتى التاريخية، وهم يرفضون تسليم مقالد الحكم التي يمتلكونها حتى يقضوا دونها أو ويملّكونها لآلهم، بل ويأبون النقاش والمفاوضة والمناظرة في أمورها، بيد أنها تَهُمّ شعوبهم أولا قبلهم هم. لا يرجعون إلى الحلول السلمية وإن رجعوا إليها مرغمين لم يفلحوا في استهدافها بما يرضي شعوبهم وأهلهم. وكم نسأم عندما نرى الشعوب تلهث للقمة الحرية عبر الحقب لكنها للأسف صارت بعيدة المنال! لم يغب عن الشعوب ما تراه ببلادها، لكن أنى لليل البهيم يتستر على هفوات السلاطين، لا في البحرين ولا في أفغانستان، ولا في بلاد خادم الحرمين الشرفيين ولا حتى في أبعد منها، ولا في مالي ولا نيجريا والقائمة طويلة بلا نهاية. هؤلاء ما أحبوا السلام البتة حبهم للبندقية التي أوكلوا أمرهم لها. لا يحبون الطمأنينة والرحمة اللتين تنشدهما شعوبهم إلا أن تحققا لهم ما يحققه النصر نفسه، أو فإنهم ينادون بالجهاد، ولكن أي جهاد؟ تراهم يحملون بخوارق الفدائيين أو بمعجزة من السماء. وقد يقبلون السلاح الإنجليزي أو الألماني أو حتى الأمريكي وهم يلعنون الإنجليز والألمان والأمريكان. وكلهم في الهواء سواء ... لكن إلى متى؟

 

آراء