كتاب جعفر نميري لوحة لرئيس سوداني (7 من 7)
محمد الشيخ حسين
2 February, 2013
2 February, 2013
نميري القارئ
تعود نميري عند عودته إلى منزله في منتصف الليل أن يشرع في قراءة التقارير عن الشؤون الداخلية والخارجية. وحسب الملفات التي كانت تعد له تنقسم تقارير الشؤون الخارجية إلى ثلاثة أقسام هي: العالم العربي، أفريقيا، وبقية العالم. وفي كل الحالات كان نميري يعطي اهتماما خاصا بكل ما يمس ويؤثر على السودان. ويكمل نميري قراءة هذه التقارير، بالاطلاع على موجز أخبار العالم من الصحف العالمية والراديو.
ويفضل نميري قراءة المجلات المتخصصة في شؤون القارة السوداء مثل: مجلة أفريكا والأفريكان ديفيلوبمنت. ومن المجلات التي تصدر باللغة الإنجليزية يفضل نميري الايكونومست وتايم ونيوزويك.
وكان نميري يود أن يقف بنفسه عند كل ما يقوله العالم عن السودان وعن رئيسه. وفي الساعة الثانية صباحا يكون قد انتهى يوم نميري وأزف موعد نومه الذي لا يزيد عن ساعتين في معظم الليالي.
ورغم أن الصورة عن عادات القراءة لدى نميري معروفة لكل المقربين منه، إلا أن عبارة (ولم يعرف عن الرجل حرصا على القراءة) التي جاءت في كتاب الدكتور منصور خالد (السودان والنفق المظلم ــ قصة الفساد والاستبداد) قد استوقفتني كثيرا من جهة البحث عن عادات القراءة لدى نميري.
وضربة البداية في رحلة البحث هذه كانت مع السفير المخضرم الدكتور أحمد محمد دياب، الذي ربطته صلة شخصية بنميرى، منذ العام ١٩٦١م.
وفي كتابه (ذكريات وخواطر)، سرد عدة إفادات وروايات عن نميري. ويهمنا هنا ذلك اللقاء الذي جمعهما في القاهرة بعد سقوط النظام. وحسب رواية دياب فإن نميري قد أحسن استقباله، وسأله فجأة إن كان قد التقى الدكتور منصور خالد مؤخرا. وقبل أن يجيب دفع إليه نميري بسؤال ثان إن كان قد قرأ كتاب منصور الأخير (ذي قوفرنمنت ذي ديسيرف) الصادر باللغة الإنجليزية.
وعندما أجاب دياب بنعم تساءل نميرى بصوت مرتفع: لماذا يستخدم منصور كلمات إنجليزية صعبة في هذا الكتاب؟. وأردف نميري: لقد بحثت فى عدد من القواميس عن معانى بعض الكلمات ولم أجدها. وكانت إجابة السفير دياب عن سؤال نميري رد طويل حول طريقة الدكتور منصور خالد في الكتابة باللغة الإنجليزية ذكرها في كتابه الصادر عن مركز عبد الكريم ميرغني.
غير أن اللقاء حفل بإفادة ثانية تعكس شخصية نميري القارئ، حين وضع يده على غلاف الكتاب الذي يحوي صورا لشخصيات وطنية سودانية كان من بينها جون قرنق، وطرح سؤالا فحواه: لماذا لم يضع منصور صورة عبد الخالق محجوب بين هذه الشخصيات الوطنية؟
وقبل أن يبدي دياب دهشته تابع نميري حديثه: أنا اختلفت مع عبد الخالق سياسيا، ولكني لا أنكر دوره ودور الحزب الشيوعي في الحركة الوطنية السودانية.
وكانت رحلة البحث شيقة ومثيرة للدهشة، فقد استوقفني الأستاذ عبد الله عبيد في كتابه (ذكريات وتجارب) بسرد تفاصيل مواجهة ساخنة داخل جهاز الأمن القومي بين نميري والصحفي المخضرم ميرغني حسن علي.
وأصل الحكاية أن الأستاذين عبد الله عبيد وميرغني حسن علي قد التحقا بناء على تعليمات فصيل الحزب الشيوعي المؤيد لثورة مايو بقيادة معاوية سورج بقسم الصحافة في جهاز الأمن القومي. وانحصر عملهما في إعداد تقارير عن الرأي العام، تستخلص من التقارير الأمنية المختلفة، ترفع إلى الجهات العليا. وجاء في أحد التقارير عبارة (إن الشعب السوداني يتساءل، لماذا لم يستنكر مجلس قيادة الثورة الحرب الجرثومية التي شنتها أمريكا على الشعب الكوري).
يبدو أن العبارة قد أثارت اهتمام نميري، لأنه بعد أن قرأ التقرير جيدا، توجه إلى مقر جهاز الأمن في زيارة مفاجئة، وطلب من الرائد مأمون عوض أبوزيد رئيس جهاز الأمن القومي إحضار من كتب هذا التقرير لمناقشته.
وكان التقرير قد أعده الأستاذان ميرغني حسن علي وعبد الله عبيد. وحسب رواية عبد الله عبيد، فإن النقاش دار بين نميري وميرغني حسن علي على النحو التالي:
نميري: جاء في التقرير يأخ ميرغني (إن الشعب السوداني يتساءل، لماذا لم يستنكر مجلس قيادة الثورة الحرب الجرثومية التي شنتها أمريكا على الشعب الكوري)، من أين أتيتم بهذا الكلام؟
ميرغني: من مجالس الناس الذين نلتقيهم في المناسبات وفي الشوارع وفي المواصلات العامة.
نميري: أين تسكن؟
ميرغني: أسكن في بانت
نميري: أين هي المجالس ووسائل المواصلات التي يدور فيها نقاش بهذا المستوى؟
ميرغني: مجالس أفراح وأتراح في مختلف الأحياء. وفيما يتعلق بوسائل المواصلات، فبحكم عملنا الصحفي ننتقل على مختلف الخطوط.
نميري: أنا التقى بالكثيرين في مناسبات مختلفة، ولم أسمع مثل هذا الكلام.
ميرغني: عندما يلتقي الناس بالحاكم لا يرددون مثل هذا الحديث الناقد.
وختم نميري النقاش قائلا: عبارة أن الشعب السوداني يتساءل، لماذا لم يستنكر مجلس قيادة الثورة الحرب الجرثومية التي شنتها أمريكا على الشعب الكوري، (دا كلام شيوعيين وما رأي الشعب السوداني).
قارئ جيد
هناك شاهد ثالث يؤكد على أن نميري قارئ جيد، فقد قرأ ضمن ما قرأ (الكتاب الأحمر) لماوتسي تونغ. ولاحظ فؤاد مطر أن نميري استوعب الكتاب جيدا، ولم يخرج منه بانطباع، وإنما أمنية أن يفعل في السودان بعض ما فعله ماو في الصين. لكن سرعان ما يستدرك نميري القارئ الجيد أمنيته بتوضيح أن الكتاب الأحمر لا يمكن تلمس مدى تأثيره إلا بالنسبة إلى الذي عاش في عصر ماوتسي تونغ وتحت قيادته، ذلك أن أفكار ماو التي وضعها في الكتاب الأحمر استقاها من واقع التجربة الثورية والثورة الثقافية في الصين. ويخلص نميري إلى أن (التجربة الصينية نسيج مستمد من الواقع الحضاري الصيني. ومن هنا فإن تقييمها في غير واقع الصين من شأنه أن يظلمها).
صالون العقاد
أثارت حلقات الأستاذ أنيس منصور المعنونة (في صالون العقاد كانت لنا أيام)، ضجة كبرى في مصر، عندما بدأ ينشرها في مجلة (أكتوبر) في مطلع الثمانينيات. وتحولت تلك الضجة إلى معارك صحفية وأدبية ضد أنيس منصور تتهمه بالفبركة والافتراء على العقاد. ولم يرد على تلك المعارك مطلقا، لكنه حين أصدر كتابه (من أوراق السادات) في العام 2009م، أشار إلى تلك المعارك مبينا أن كل المقالات والمقابلات كانت تنتقد أنيس منصور وليس ما كتبه عن صالون العقاد، باستثناء شخصين هما: الأستاذ أحمد بهاء الدين، والرئيس السوداني جعفر نميري. وجاء في المقدمة أن نميري انفعل بالحلقات، وقال لأنيس منصور (تمنيت لو كنت حاضرا تلك الجلسات).
نميري المستمع
كان نميري مستمعا ممتازا ينصت باهتمام لحديث الآخرين، ويمنعه الحياء أحيانا من الرد إذا سمع حديثا لا يعجبه. وهناك إفادة صحفية قدمها الدكتور شريف التهامي وفحواها أن نميري كان (يلتزم الصمت إذا سمع حديثا غير لائق).
وفي العادة يستمع نميري للإذاعات الناطقة باللغتين العربية والإنجليزية في سيارته، فهو متابع دقيق جدا لكل برامج إذاعة أم درمان.
ويولي هيئة الاذاعة البريطانية اهتماما خاصا ويقول: (الهيئة تقدم أفضل الخدمات فهناك وضوح في تعليقاتهم واستعراضهم للأحداث ولهذا فأني أوليها اهتماما خاصا ويمكن للمرء ان يتعلم الكثير منها). ويأتي في مرحلة تالية راديو القاهرة، ثم تليها إذاعتي صوت أمريكا وموسكو.
سيرة ذاتية
خير ختام لهذه الصفحات أن نورد السيرة الذاتية لنميري التي أعدها العقيد محمود عبد الرحمن الفكي مدير إدارة القوات المسلحة وأرسلها إلى مدير جامعة الخرطوم بتاريخ 30 نوفمبر 1969.
ودونت السيرة الذاتية بالكتابة العسكرية من 17 فقرة، بعنوان (حياة الرئيس القائد) وفيما يلي النص:
(1) ولد بمدينة أم درمان في 1/1/1930
(2) دخل في صباه الباكر الخلوة وحفظ من القرآن الكريم 23 جزءا، ثم خرج منها ليدخل السنة الثالثة في كتاب الهجرة مباشرة في أم درمان.
(3) قضى مرحلة التعليم الأوسط بمدرسة مدني الوسطى، كما قضى مرحلة التعليم الثانوي بحنتوب. واشترك في إضرابات 1946 التي كانت تخص سفر الوفد السوداني للمفاوضات بشأن تقرير مصير البلاد في مصر، حيث أقفلت المدرسة لمدة سبعة أشهر.
(4) اشترك في إضراب الطلبة عام 1948 لمناهضة الجمعية التشريعية ورفت مع 12 طالبا من زملائه وأعيدوا مرة أخرى بعد مضي 7 أيام.
(5) دخل الكلية الحربية السودانية في 25/5/1949، وتخرج في رتبة الملازم ثاني في 19/12/1952، وتدرج في الرتب حتى رتبة العقيد التي قاد منها ثورة 25 مايو الاشتراكية. وتمت ترقيته إلى رتبة اللواء في 25/5/1969.
(6) نقل عقب تخرجه من الكلية الحربية إلى القيادة الغربية، وقضى بها نحو ثلاث سنوات ثم التحق بأول دفعة لضباط الطيران بمصر. وقطعت الفرقة وأرجع للسودان بسبب النشاط السياسي في عام 1955. وبعد عام ونصف العام أعيد إلى مصر مرة أخرى في فرقة مدرعات. ولم يكمل الفرقة بسبب نشوب حرب السويس 1956.
(7) تم تعيينه ونقله مع أول ضباط صف عهد إليهم بتأسيس القيادة الشمالية في شندي عام 1957.
(8) تم اعتقاله في 1957 بتهمة قيادة المدرعات للاشتراك في محاولة الانقلاب التي كان ينويها السيد عبد الرحمن كبيدة. واحيل بعدها للاستيداع لمدة 16 شهرا حتى رجع للعمل بالقوات المسلحة في أبريل 1959، ونقل للقيادة الجنوبية تحت المراقبة.
(9) بقي لمدة عامين بالقيادة الجنوبية نقل بعدها إلى حامية في كتيبة المشاة بالشجرة التي كانت مصدر رعب مستمر للحكم العسكري.
(10) تم إيفاده إلى فرقة في قبرص، بهدف إنشاء سلاح المظلات، ولكن الفرقة لم تكتمل لأسباب غامضة. ورجع إلى السودان لوحدته بالشجرة، ثم أعيد مرة أخرى إلى خارج البلاد في فرقة بليبيا، ولم تكتمل لنفس الظروف. كل هذه الإجراءات كان مبعثها خوف الحكومة والمسؤولين من استقراره في مكان واحد لقدرته الفريدة في جمع الرجال وتوحيد كلمتهم. ولاقى بعض زملائه في تلك الوحدة صنوفا من هذه المعاملة.
(11) ثم بعث إلى فرقة قادة الكتائب المدرعة في ألمانيا الغربية، وعاد منها بشهادة ممتازة. وعقب رجوعه بأيام وجهت إليه تهمة قيادة الضباط واجتماعهم في منزله، ولم تتخذ معه إجراءات أكثر من التحقيق لعدم كفاية الأدلة.
(12) تم إرساله إلى فرقة الأركان حرب (ماجستير العلوم العسكرية) في مصر، وتم إرجاعه لأسباب سياسية ولم يكمل الفرقة.
(13) عاد ومكث في بالسودان عامين وستة أشهر اندلعت بها ثورة أكتوبر المجيدة. وكان له في انتصارها اليد الطولى مع زملائه العسكريين في قصة بطولة خالدة أصبحت من تاريخ تلك الثورة. وتم اعتقاله بعد اجهاض الثورة، بسبب النشاط الإيجابي البارز فيها. وكانت لمظاهرات جماهير الشعب الثائرة الوفية يد كبرى في إخراجه وزملائه من الاعتقال.
(14) بعد التحقيق والإجراءات في اعتقال ثورة أكتوبر، تم نقله خارج العاصمة لدار فور للعمل بالقيادة الغربية، ومكث فيها قرابة الشهرين، انتخب بعدها لفرقة الأركان حرب بالولايات المتحدة، حيث حصل على ماجستير العلوم العسكرية بدرجة ممتاز.
(15) بعد عودته من الولايات المتحدة نقل للعمل بالقيادة الشرقية بالقضارف، ومكث فيها 4 أشهر، وتم اعتقاله مع بعض الزملاء بتهمة قيادة وحدات بغرض تغيير نظام الحكم في الخرطوم، عندما ورد اسمه في محاولة الانقلاب الفاشل لخالد الكد. وكان واضحا أن الاتهام كان مدسوسا عليه في الأوراق التي وجدت مع الضابط عند اعتقاله. وبعد الإجراءات أطلق سراحه من الاعتقال.
(16) بعد الإفراج عنه نقل كقائد لقوات الضفة الشرقية بالإستوائية بتوريت لمدة عام بذل فيه جهدا عظيما مقدرا لاستتباب الأمن. وقاد عملية جبل ديتو الشهيرة التي حطمت أسطورة من أساطير المتمردين وقلعة نشاطهم التي كانوا يظنونها في مركز حصين نسبة لتوغلها في الأدغال وبعدها عن أي نوع من أنواع المواصلات.
(17) بعدها نقل إلى مدرسة المشاة بجبيت كقائد ثاني وكبير معلمين، ثم أصبح قائدا لمدرسة المشاة وبقي بها حتى 25 مايو، حيث قاد مفجرا ثورة الشعب الاشتراكية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. ومن هنا يبدأ سجل حياته كجندي ومواطن في قمة المسؤولية.
أيام نميري
أخيرا .. تشكّل أيام جعفر محمد نميري التي أمضاها في الحكم، تجربة مثيرة وربما تكون فريدة في نوعها وفي منطلقاتها والأساليب التي اعتمدها هذا الضابط الذي لم ييأس من الفشل قبل أن يأتيه النجاح.
وهذه الكتابة في أثر نميري الإنسان، مجرد محاولة في توثيق البعد الإنساني في تجربة حاكم سوداني اعتقد يوما أن الأرض قد استقرت نهائيا تحت قدميه، لكن تلك الأرض دارت عليه ضمن اللعبة الانقلابية التي سبق أن أوصلته إلى السلطة.
اللهم يا أكرم من سُئل ويا أوسع من جاد بالعطايا، يا من له الأسماء الحسنى والصفات العُلا، تقبل عبدك جعفر محمد نميري فى دارك، دار البقاء. وأغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأجعل له من فضلك ورحمتك وجنتك حظاً ونصيبا. وأغفر لنا أجمعين ما قدمنا وما أخرنا وما أنت به أعلم منا، إنك أنت الغفور الرحيم.
mohed hussein [abusamira85@gmail.com]