الكُرَةُ في مَلْعَبِ الرَّئيس: تفكُّك الدَّولة السُّودانية: السِّيناريو الأكثر تَرجيحاً
kameir@yahoo.com
مقدمة
1. تظل الأزمات السياسية المتلاحقة هي السمة الرئيس والمميِّزة للفترة الانتقالية منذ انطلاقها في يوليو 2005، في أعقاب إبرام اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان ممثلة في حزب المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية لتحرير السودان في يناير 2005. فمنذ نهاية الفترة الانتقالية وانفصال الجنوب، تشهد البلاد مآزق مستمرَّة ومتتابعة على نطاقٍ غير مسبوق، ومناخ سياسي محتقن ومتوتر. فالآن هناك استقطاب “رأسي” حاد وملحوظ بين الحكومة من جهة، والمعارضة السلمية والمسلحة، على حدٍ سواء، وبعض منظمات المجتمع المدني والتكتلات الشبابية، من جهة أخرى. أيضاً، هناك الانشقاقات والانقسامات “الأفقية” داخل الأحزاب السياسية، بما فيها الحزب الحاكم والحركة الإسلامية، والتي ويا للمفارقة، أتت بالحزب إلى سُدَّة الحُكم، والحركات المسلحة، وتواتر معلومات عن تذمُّرٍ وتمَلمُلٍ داخل القوات المسلحة، مع تنامي الولاء القبلي والعرقي، وظهور الجهاديين والجماعات الإسلامية المتطرِّفة وتصاعُد نشاطاتهم العنيفة والمرعبة. ويتجلى هذا الاستقطاب السياسي الحاد في النزاع المسلح وتدهور الوضع الأمني في دارفور بوتيرة متسارعة، والحرب الدائرة في جنوب كُردُفان والنيل الأزرق، وتردِّي الأوضاع الاقتصادية وتفشي الفساد، والعلاقة المتوترة مع الجنوب، وشبح الحرب يلوح في الأفق بين السُّودانَيْن، وفوق ذلك كله، كيفيَّة التعامُل مع المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة.
2. حقيقة، هذا الوصف للواقع الماثل أمامنا لا تخطئه عين، بل يلحظه ويراه المراقب، ولا تستقيم معه أي مكابرة أو عنادٍ أو إنكار. فلا حديث يدور في مجالس أُنس المواطنين العاديين سوى هذا المشهد السياسي المحتقن، ومآلات وسيناريوهات المستقبل، وما تحمله الأيام في جوفها من شكوكٍ وتخوُّفات! في ضوء هذه التطوُّرات الخطيرة، فإن المرء لا يملك إلاَّ التفكير في ثلاثة سيناريوهات للتغيير المتوقع والمنتظر.
السيناريو الأول: الإبقاء على الوضع الراهن
1.1 أن يستمرَّ الوضع الراهن، ولو بتغييرات بسيطة وسطحية في الشُخُوص والمواقع وبعض السياسات، استجابة لنداءات الإصلاح من داخل الحزب الحاكم والحركة الإسلامية وتهدئة عضويتها الساخطة، دون مساسٍ جوهري ببنية السلطة وتركيبة الحُكم. بالطبع، هذا السيناريو مرهونٌ بقدرة الحزب الحاكم على أن يظل ممسكاً بمفاصل السلطة، ومهيمنا على مؤسسات الدولة، وعلى سيطرته في التحكم والمناورة لاستقطاب بعض القوى السياسية لجانبه والمحافظة على شبكة الولاء patronage القبلي والإثني، بما في ذلك الجيش، واستمراره في اختراق وتقسيم المعارضين له، سواء في الأحزاب السياسية أو الحركات الحاملة للسلاح. فقد يلجأ المؤتمر الوطني إلى استخدام ترسانته الذاخرة بالتكتيكات للوقيعة بين المعارضة المسلحة والسياسية، في الوقت الذي تواصل فيه الحكومة حملتها العسكرية ضد الحركات المسلحة، من خلال الاستفادة من حرص المجتمع الدولي على تفادي الانهيار العنيف لنظام الحكم، بل والدولة نفسها، أو اندلاع حربٍ جديدة بين السُّودان وجنوب السُّودان. كما يُعوِّل الحزب الحاكم على الموقف الداعم من الصين وروسيا في مجلس الأمن الدولي. ومع ذلك، فقد يرضخ النظام أيضاً لبعض الضغوط والمطالب من المجتمع الدولي، مع الاستفادة من قرار الاتحاد الأفريقي بشأن تضامُن الدول الأفريقية مع السُّودان، وامتناعها عن التعاون مع المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة. ويبدو أن الهدف النهائي للمؤتمر الوطني يكمُنُ في كسب الوقت حتى يحين موعد الانتخابات العامة المقرَّر إجراؤها بنهاية عام 2014، مما يضع الأحزاب السياسية في مواجهة الأمر الواقع، وما من شأنه أن يزيد من ضعف وانقسام القوى المعارضة. من ناحية أخرى، فإن قيادة الحزب الحاكم تعتقد بأن المجتمع الدولي سيدعم، ويثنى على النظام لتنظيم الانتخابات كآلية مقبولة للتداول السلمي للسلطة.
1.2 ومع ذلك، تشير العديد من المؤشرات إلى صعوبة، إن لم يكن استحالة استدامة هذا الوضع. فلن تكن المشاركة في هذه الانتخابات مقبولة للقوى السياسية المعارضة في ظلِّ إصرار المؤتمر الوطني على الانفراد بالسلطة والهيمنة التامة على مؤسسات الدولة، بينما لا تزال القوانين المقيدة لحرية التنظيم والتعبير والتواصل مع القواعد والجماهير سارية المفعول. وهكذا، سيكون هذا السيناريو قصير الأجل، أياً كان الوقت الذي يستغرقه. وحتى مُنَظِّري الحزب الحاكم يعترفون بأن «نظام الحزب الواحد غير قابل للاستدامة، وأنَّ وجود المُعارضة في النظام السياسي يمثل كابحاً للطُّغيان، يوفِّر البديل للحكومة» (أمين حسن عمر، قناة السودان الرسمية، برنامج مساء الخميس، 10/01/2013). فلقد نبه رئيس مجمع الفقه الإسلامى، الدكتورعصام أحمد البشير، إلى أنه ليس بمقدور أي حزب أو كيان أو جماعة الاستفراد بالحكم عندما قال:" لا يوجد حزب أو جماعة لديها شيك على بياض" (حفل تدشين كتاب "الربيع العربى..ثورات لم تكتمل"، قاعة الصداقة، 31/1/2013).
1.3 ببساطة، فإن هذا السيناريو لا يؤدي، بأي حالٍ من الأحوال، إلى التحوُّل الديمقراطي، كما لا يُعَدُّ أو يُشكِّل مخرجاً آمناً من الأزمة الوطنية المستفحلة والمتفاقمة في البلاد.
1.4 فلا يمكن للمؤتمر الوطني، في ظلِّ ما يعانيه من تصدُّعات، أن يستمر في القتال في عدة جبهات، تتزايد يوماً بعد يوم، وأن يُبحر ضد الرياح، ويعمل عكس كل التوقعات. لا شكَّ أن تدهور الوضع الاقتصادي وتراجُع إيرادات الدولة تقيِّد قدرة الحزب في الحفاظ على شبكة الولاء والرعاية واسعة النطاق، على المستويات السياسية والعرقية والقبلية والعسكرية والأمنية، والتي يعتد بها في مواجهة خصومه. أيضاً، لا يمكن للنظام أن يستمر في التعويل على التردُّد الملحوظ للمجتمع الدولي في دعم هدف المعارضة المدنية والعسكرية المُعلن لإسقاط النظام. فالمجتمع الدولي دوماً له أهداف متحرِّكة بحسب الوضع السياسي المتغيِّر على الأرض.
1.5 من ناحية أخرى، يبدو كما لو أن المؤتمر الوطني يُصِرُّ بعنادٍ على احتكار سلطة الدولة وعلى الاستبعاد الكامل والإقصاء للقوى السياسية الأخرى، بذريعة شرعيَّة الترتيبات الدستوريَّة القائمة على اتفاقية السلام الشامل ونتائج الانتخابات العامة في أبريل 2010 ، في حين تتمترس المعارضة السياسية والمسلحة، إزاء هذا العناد، في موقفها الذي يهدف إلى قلب نظام الحكم. أكد “ميثاق الفجر الجديد”، الذي وُقِّع مؤخراً بين الجبهة الثورية السودانية وقوى الإجماع الوطني، على اللجوء إلى الوسائل السياسية والعسكرية، على حدٍ سواء، لتحقيق هذا الهدف. حقيقة، هذه لعبة صفريَّة يمكن أن تصل إلى نقطة اللاعودة، ولا يوجد فيها طرفٌ منتصر، بل خاسرٌ وحيد هو الوطن، ويمكن أن تتحوَّل هذه الأوضاع إلى سيناريو ثانٍ أكثر خطورة:
السيناريو الثاني: تفكك الدولة
2.1 يفترض هذا السيناريو تصاعُد العمل المسلَّح، في شكل حرب العصابات، أو الزحف على مركز السلطة، بهدف ممارسة ضغوط متواصلة، جنباً إلى جنبٍ مع جهود المعارضة السلمية، التي تقوم بها بقية القوى السياسية السودانية، من أجل إسقاط النظام في الخرطوم. ومع ذلك، لا يمكن للنضال المسلح أن يحقق هدفه المتمثل في الإطاحة بالنظام بدون دعمٍ سياسيٍ من كل القوى السياسية العازمة على التغيير، بما في ذلك الإسلاميين بمختلف أطيافهم. يفترض إسقاط النظام، من واقع التجربة السُّودانية في 1964 و1985، توافُق وإجماع كل القوى السياسيَّة. في كلا التجربتين، بارك الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة الانتفاضة الشعبيَّة، بينما كان “الإسلاميون”، بمختلف أطيافهم، من ضمن القوى والجموع التي خرجت للشوارع، مندِّدة بالنظام العسكري ومنادية بسقوطه، ولو في مراحل مختلفة من عملية الثورة. ففي عام 1995، عندما تمَّ التوقيع على إعلان أسمرا للقضايا المصيريَّة، توحَّدت تقريباً كل القوى السياسيَّة السُّودانية في الدعوة إلى “اقتلاع” النظام من خلال تكامُل الوسائل السياسية والعسكرية. في المقابل، حالياً نجد أن هذه القوى، ضعيفة ومنقسمة على نفسها كما ينبئ حالها، إما أضحت جزءً من الحكومة، أو تدعم بفتور سافر أي محاولة لإحداث تغيير جذري.
2.2 على الصعيد العسكري، بالرغم من قرار بعض الشخصيات المعارضة للانضمام إلى الجبهة الثورية السُّودانية، لا يبدو أنه قد أتى بقيمة مضافة، أو غيَّر صورة الجبهة في أعيُن كثير من الناس، إذ لا يزال يُنظَرُ إليها كمنبر حصري للمُهمَّشين على أساسٍ عرقي وإثني، أي أنه يعبِّر عن “متلازمة الجنوب الجديد”. في حين تدعو الجبهة كل القوى السياسيَّة السُّودانية للانضمام إلى صفوفها، و“رفض مسار التسوية السياسيَّة الجزئيَّة مع نظام حزب المؤتمر الوطني، واعتماد نهج شاملٍ لتغيير النظام في مركز السلطة بالخرطوم”. ولكن، في ظِلِّ الوضع السياسي الراهن، لا يوجد توافُقٍ في الآراء بين القوى السياسيَّة السُّودانية على هدف “إسقاط النظام” من خلال العمل المسلَّح، من جهة، وافتقار الجبهة الثوريَّة لوضوح الرؤية والنهج بشأن التعامُل والتحاوُر مع هذه القوى في ضوء الاختلاف في الرأي حول طرق التغيير، من جهة أخرى. وبغضِّ النظر عن إعلان الجبهة الثوريَّة التزامها بتكامُل النضال المسلَّح مع العمل السياسي والمدني، إلا أنه منذ أيام التجمُّع الوطني الديمقراطي، ظلَّ هذا التكامُل مجرَّد شعار وهدف بعيد المنال. كما أنه يفتقر إلى المنهجيَّة الواقعيَّة، أو آليَّة للتنفيذ على أرض الواقع. فالجبهة لم تكشف النقاب عن أي إستراتيجيَّة واضحة في هذا الصدد.
2.3 فباستثناء التصريحات المعمَّمة عن ضرورة التعامُل مع القوى السياسيَّة المعارضة، لم يتم تحديد آليات بعينها لهذا الغرض، أو تحقيق نتائج ملموسة حتى الآن. فعلى الرغم من أن التوقيع المتعجِّل على “ميثاق الفجر الجديد” بين الجبهة الثورية وقوى الإجماع الوطني يمثل خطوة متقدِّمة نحو الاتفاق على برنامج سياسي مشترك للمعارضة، إلاَّ أن هذه الخطوة فشلت في تقديم الدعم السياسي اللازم للعمل المسلح، والذي سبق أن وفَّرته معظم القوى السياسية، تحت مظلة التجمُّع الوطني الديمقراطي، للجيش الشعبي لتحرير السودان، والمقاومة المسلحة بشكل عام، في التسعينات من القرن المنصرم، ممثلاً في: 1) التوصل إلى توافق في الآراء بشأن آليات إسقاط النظام، 2) تحديد العملية التي من خلالها سيتم تسليم السلطة للقوى الموقعة على الميثاق، و3) تفصيل هيكل تنظيمي، كخطوة لازمة وضرورية لمتابعة تنفيذ مقرَّرات الميثاق. وعلاوة على ذلك، فمباشرة بعد حفل التوقيع على الميثاق، أعلنت الهيئة العامة لتحالف قوى الإجماع الوطني، والأطراف المكوِّنة للتحالف، كلٌ على حده، تحفُّظها و/أو اعتراضها على بعض البنود والقضايا الأساسية المُضمَّنة في الميثاق، داعية إلى المراجعة الشاملة والتدقيق في الوثيقة. وتشمل هذه المواضيع: العلاقة بين الدين والدولة، وهياكل الحكم المقترحة، واستبدال القوات المسلحة السودانية بجيش جديد. في الواقع، استغرق التجمُّع الوطني الديمقراطي سنوات عديدة لعقد مؤتمر أسمرا التاريخي حول قضايا السُّودان المصيريَّة، والتوافق الكامل على مقرَّراته، مع الاتفاق على هيكل تنظيمي، بما في ذلك القوات المشتركة.
2.4 مع ذلك، فإن عدم الوضوح في تحديد هدف “إسقاط النظام”، في ظلِّ تصاعُد العمل المسلَّح ودق طبول الحرب بين الشمال والجنوب، مع غياب التوافُق بين، والرؤية المشتركة للقوى السياسية المعارضة، يحمل مؤشرات تنذر بتفتت السُّودان. فلا توجد بالبلاد مؤسسة واحدة شرعية ومتماسكة، ربما باستثناء القوَّات المسلحة السُّودانية، (على الرغم من المحاولات المستمرَّة للجبهة الإسلامية والمؤتمر الوطني لتسييسها وأدلجتها وطمس هويتها الوطنيَّة)، بمقدورها إدارة عملية انتقالٍ سلمي للسُلطة. في الواقع، لا يمكن أن نتجاهل أو نقلل من شأن الدور الفعال والمحوري للجيش السوداني في الانتفاضتين الشعبيتين في 1964 و1985. وربما، أثبت الإعلان الرسمي عن محاولتين انقلابيتين، خلال الربع الأخير من العام المنصرم، أن القوات المسلحة، خلافاً لاعتقاد بعض الأوساط، لا تزال على درجة عالية من الحس الوطني وتستجيب لدعوات الإصلاح السياسي، وإن جاءت من الإسلاميين أنفسهم، بما في ذلك تعزيز الديمقراطية وإصلاحات جذرية في بنية النظام السياسي، وإعادة تعريف العلاقة بين الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة، ومكافحة الفساد، ومشاركة جميع القوى السياسية في عملية شفافة وتوافقية لصياغة الدستور، تنتهي بتنظيم انتخابات حرَّة ونزيهة.
2.5 وفي حين لا يشكِّك أحد في أن الظلم والتهميش يُبرِّر ويُضفي الشرعيَّة على اللجوء إلى الكفاح المسلَّح، فإن الحرب مكلفة بشرياً ومادياً، وليست بفعلٍ للتبجُّح أو الاستعراض. إن إخضاع وإضعاف الجيش، إما عن طريق التعدِّي على سلطاته من قبل الجهاز الأمني للنظام، أو أي قوات موازية أخرى، التي قد تُفضي إلى مواجهات دامية، أو من خلال المواجهات والصدامات المستمرَّة مع الحركات المسلحة في جنوب كُردُفان والنيل الأزرق ودارفور، مما يشكل وصفة جاهزة لتفكُّك الدولة. وستقود مثل هذه الأفعال في نهاية الأمر إلى انهيار سلطة الحكومة المركزية عن طريق تقييد قدرتها على فرض الأمن، مما سيؤدي إلى فقدان السيطرة على الأراضي السودانية، و/أو احتكار الاستخدام المشروع للقوة، مما يجعلها عاجزة عن إعادة إنتاج الظروف الضرورية لوجودها هي نفسها.
2.6 وبعبارة أخرى، فإن ضعف مؤسسات الدولة السُّودانية، والتكوين السياسي المعقد للبلاد، وغياب الثقل الموازن المُوحَّد لهيمنة المؤتمر الوطني على المركز، والافتقار إلى وحدة القضيَّة والهدف والأساليب بين القوى السياسيَّة، وما نشهده من استقطاب سياسي بين مختلف المتصارعين على السلطة، يجعل الخط الفاصل بين سقوط النظام وتفكك الدولة رفيعاً جداً. وهكذا، في ظلِّ هذه الظروف، يمكن لسقوط النظام، وما قد ينجُم عنه من فراغٍ في السلطة، أن يقود حتماً إلى صراع دامٍ على السلطة من قِبَلِ التنظيمات المسلحة المتعدِّدة من أجل السيطرة على الخرطوم، وأجزاء أخرى من البلاد، واحتمال مواجهة أي احتجاجات شعبية بقمع مُفرِط يقابله عنفٌ مضاد، وهو ما سيكون من المستحيل كبحه أو التحكُّم فيه. وفى ظلِّ تضعضع السلطة المركزية في الخرطوم، فإن الدول المجاورة، والتي تعاني من مشاكل سياسية ونزيف داخلي، قد لا تتوانى من التدخل واحتلال المناطق المتنازع عليها في الحدود المشتركة والواقعة في متناول أيديهم، أو التحالف مع أحد أو بعض الفصائل الداخلية المتصارعة على السلطة لخدمه الأهداف الخاصة لهذه الدول. أما إيران، وبعض الحكومات الإسلامية الأحرى المتعاطفة في المنطقة، ستتقدم الصفوف لمؤازرة ودعم النظام لتفادي سقوطه.
2.7 يبدو أن هذا هو السيناريو الأكثر احتمالاً، لا سيَّما في ضوء التطورات الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية التي شهدتها في البلاد خلال العقدين الماضيين. فقد أسفرت هذه التطورات عن نزوحٍ غير مسبوق للعاصمة القومية، أفرز مجتمعين متباينين، مجتمع الأغنياء (الذين يملكون كل شيء)، ومجتمع الفقراء (الذين لا يملكون شيئاً)، مع تآكُلٍ مستمر في الطبقة الوسطى، مما سيشعل الغضب الشعبي، الملتهب أصلا، وينذر بانقسام حاد قد يفضى إلى قتالٍ أهلي وفوضى عارمة. وهكذا، فإن التهميش والمظالم المتجسِّدة في العلاقة بين المركز والمناطق “المُهمَّشة” يجب أن لا تلهينا عن الغُبن الاقتصادي والاجتماعي للفقراء والمستضعفين في المركز نفسه، مما يهدِّد بنسف السلام الاجتماعي.
السيناريو الثالث: التسوية السياسية الشاملة
3.1 هذا هو السيناريو الوحيد الذي من شأنه أن ينقذ البلاد من الانزلاق إلى الفوضى، ويحول دون انهيار الدولة، ويحافظ على وحدة أراضي السودان. ويُفترضُ أن يتم التحوُّل الديمقراطي سلمياً بتوافُق كل القوى السياسية، بالطبع بما في ذلك المؤتمر الوطني، وقوى التغيير الآخرين خاصة الشباب (نساء ورجال)، دون إقصاء أو استثناء، على مشروع للتغيير يفضي إلى الانتقال من هيمنة الحزب الواحد إلى التعددية السياسية نحو بناء دولة المواطنة السودانية التى تحترم التنوع. ويشكل هذا التحول هدفاً رئيساً لاتفاقية السلام، والذي فشل الشريكان في الحُكم، خاصة المؤتمر الوطني، وبقية القوى السياسية، في تحقيقه خلال الفترة الانتقالية.
3.2 "سؤال المليون دولار" هو: كيف يتم تنفيذ هذا الانتقال السلمي والتوصل لتسوية سياسية شاملة؟ وإن كنتُ أزعم بأن هذا هو السيناريو الأكثر تفضيلاً لمعظم القوى السياسية وأطياف واسعة من السودانيين، بما في ذلك الحركات المسلَّحة، وبعض من قوى المعارضة، بل والمجتمعين الإقليمي والدولي، إلا أن الكثير من المُشكِّكين يعتقدون بقوة أن الأولوية ينبغي أن تتجه إلى الإطاحة بالنظام. ويرى هؤلاء أن النظام لا يمكن تحسينه، بل لا بد من إزالة سياساته ومؤسساته وشخوصه نهائياً كشرطٍ مُسبق لأية محاولة إصلاح حقيقي. فمن هذا المنظور، فإنه لا يمكن تحقيق التحول الديمقراطي، بأي حالٍ من الأحوال، طالما ظلَّ المؤتمر الوطني يحتكر السلطة ويسيطر بالكامل على مؤسسات الدولة ويقمع حرية التنظيم والتعبير. ومع ذلك، يتعيَّن علينا هنا أن نعترف بأن نجاح هذا السيناريو يتوقف على قدرة الحزب الحاكم لتغيير سياساته ومواقفه، إما نتيجة لحراك وديناميات داخلية في صفوفه أو بفعل العمل المعارض، أو استجابة لضغوطً خارجية. فإن النظام منهكٌ، لتعرُّضه فعلياً لضغوط على جبهات متعدِّدة على الأصعدة العسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، بينما ينتابه قلق متزايد حول احتمالات الانتفاضة الشعبيَّة، على شاكلة الربيع العربي، وهو احتمالٌ لم يعُد تُنكره حتى بعض القيادات البارزة في الحزب الحاكم، ولا سيَّما في ضوء الأزمة الاقتصاديَّة المتصاعدة. وهكذا، يتعرَّض النظام لضغوط متزايدة من القواعد الشعبية للحزب، بل وفي صفوف الحركة الإسلامية، التي جاءت به إلى السلطة، وكذلك من قوى المعارضة السياسيَّة، بالإضافة إلى المجتمع الإقليمي والدولي.
3.3 ولذلك، فإن الانتقال السلمي لن يتحقق إلا إذا اعترف الحزب الحاكم بعُمق الأزمة وأنه من المستحيل بمكان، في ظلِّ هذا الاستقطاب والمناخ السياسي المحتقن، أن يواجه ويعالج التحديات الجسام لــ"سُودان ما بعد الانفصال" بمفرده ولوحده، أو حتى مع حلفائه. إن المؤتمر الوطني مطالبٌ بأن يُقِرَّ بكينونة القوى السياسية والمدنية السودانية، وصعود قوى جديدة في مناطق النزاع المسلح (دارفور وجنوب كُردُفان والنيل الأزرق) وقواعدها الاجتماعية، وبدورها وضرورة مشاركتها في إيجاد الحلول لمشكلاتنا القومية.
3.4 في أعقاب مذكرة ادِّعاء المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة في 14 يوليو 2008 (قبل صدور أمر التوقيف في مارس 2009)، كتبتُ سلسلة من المقالات بعنوان “طلقة في الظلام” نُشرت في ثلاث حلقات متزامنة في عددٍ من الصحف اليومية السودانية (الرأي العام، الأحداث، الصحافة) وبعض المواقع الإلكترونية (سودانايل، سودان تريبيون، نيو سودان فيجن، سودانيز أون لاين) خلال شهر أكتوبر2008. كانت الأطروحة الرئيسية لهذه المقالات، وأقتبس: «الإدعاء في حق الرئيس، ناهيك عن اعتقاله، إن ذهب إلى نهاياته المنطقية سيشعل فتيل الصراع على السلطة، حتى في داخل المؤتمر الوطني. وفي ظلِّ كثرة القوى المتطلعة إلى السلطة، وتعدُّد الفصائل المسلحة، واحتدام النزاع في دارفور، وتحفُّز القوى الإقليمية والدولية، ثم غياب البديل المتفق عليه للرئاسة، ينفتح الباب واسعاً، وتتشكل وصفة جاهزة لانهيار الدولة السودانية. فمِمَّا لاشك فيه أن تداعيات إدعاء المحكمة الجنائية الدولية في حق رأس الدولة، مهما يكون رأينا في شخصه أو حزبه، ستعصف بأي فرصة للانتقال السلمي إلى الحُكم الديمقراطي التعدُّدي وتعرِّض البلاد لمصير مجهول قد يفضى بالانزلاق إلى هاوية فوضى شاملة وحرب أهلية مدمِّرة. خلافاً لادِّعاء الحقوقيين والمُشكِّكين من السياسيين، بأن الاتهام الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية سوف ينقل السودان إلى مستقبل أفضل وأكثر إشراقاً، وستكون فرص السلام أكبر، ينبغي علينا أولاً أن نضمن ونطمئن على بقاء السودان متماسكاً قبل التكهُّن بمستقبله». (الأحداث، 20/10/2008).
3.5 على هذه الخلفية، ونظراً للمساندة واسعة النطاق والمؤازرة غير المسبوقة التي حظي بها رئيس الجمهورية، داخلياً وإقليمياً وعالمياً، في مواجهة مذكرة إدعاء المحكمة الجنائيَّة، دعوتُ للوقوف خلف الرئيس البشير، مقترحاً دعم ترشيحه للرئاسة من قِبَل جميع القوى السياسية على أساس برنامج وطني توافقي يضع “الوطن فوق الحزب”. سيكون هذا البرنامج بمثابة المانيفستو الانتخابي للرئيس، وهدفه الأساسي أن يقوم الرئيس بإكمال مهمة الانتقال السلمية للديمقراطية والتعدُّدية السياسية. ذلك، خاصة وأن ليس هناك من حزب سياسي آخر قد حسم أمر تقديم مرشحه للرئاسة في ذلك الوقت المبكر. ومن ناحية أخرى، فقد نوَّهتُ إلى أنه من البديهي أن الاتفاق على هذا الترتيب لا علاقة له، على الإطلاق، بالتحالفات الانتخابية لهذه القوى والتي تتنافس على أساس البرامج الحزبية، للفوز بمقاعد الهيئة (الهيئات) التشريعية، والمناصب التنفيذية الولائيَّة.
3.6 ومع ذلك، اقترحتُ أن موافقة القوى السياسية على دعم الرئيس في الانتخابات لابد أن يقابلها الرئيس بالمثل من خلال اتخاذ مجموعة من التدابير والخطوات الحاسمة، وهي: 1) إعادة تشكيل حكومة “الوحدة الوطنية” من خلال استيعاب القوى السياسية التي لديها الثقل السياسي والاجتماعي وتتمتع قواعد شعبية، و2) الاتفاق السياسي على برنامج وطني يجمع كل القوى السياسية، جنباً إلى جنب مع شريكي الحُكم، بهدف تمهيد الطريق لإجراء انتخابات حرَّة ونزيهة، مع الرصد والإشراف على تنفيذ الاستحقاقات المتبقية لإنفاذ التحوُّل الديمقراطي، والتوصُّل إلى تسوية سياسية عادلة للنزاع في دارفور. هذا هو النهج الصحيح والملائم لمعالجة جذور أزمتنا الوطنية. سيجد الالتزام بهذا البرنامج التأييد والمساندة داخلياً وإقليمياً، كما سيُجبِرُ المجتمع الدولي على مراجعة حساباته، فتنجلي الأزمة مع المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة. وقد استَنَدَت أطروحتي على العوامل الآتية:
أ- لابد من إدراك أن مسالة العدالة ليست بأمر قانوني بحت، إنما هي قضية لها مسوِّغاتها ودوافعها السياسيَّة، وهذا بالضبط ما حدا بالموقعين على النظام الأساسي للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة إدخال المادة (16) التي تمنح الحق لمجلس الأمن في تعطيل إجراءات الإدعاء أو تجميد المحاكمة لمدة عام قابل للتجديد إن تناقضت مع متطلبات تحقيق السلام ومقتضيات إشاعة الاستقرار. ولا حاجة للتأكيد بأن مجلس الأمن يعمل وفقاً لأجندة سياسية لضمان إرساء قواعد السلم والأمن الدوليين، كما يتبع لمنظمة الأمم المتحدة، والتي في جوهرها تمثل تجمعاً سياسياً عالمياً.
ب- موضوع العدالة الجنائية والتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب لم يغب عن أجندة التفاوض في نيفاشا، بل تواضعت أطراف النزاع على تقديم السلام والاستقرار ومعالجة أمر العدالة في إطار أشمل للمصالحة الوطنية وتضميد الجراح.
ج- من ناحية أخرى، فإن هناك النشطاء الحقوقيين مِمَّن يؤمنون بأولوية، ووجوب وضرورة تحقيق العدالة أولاً، دون مراعاة أو اعتبار لما قد ينجُمُ عن ذلك من عواقب وخيمة وفوضى عارمة. لو كان الأمر كذلك لتمسَّكت الحركة الشعبية بإنزال العدالة قبل وقف حرب طويلة الأمد ارتُكبت خلالها الفظائع وانتُهكت حقوق الأبرياء، ولما صافح الزعيم الراحل، د. جون قرنق، ووضع يده في يد الرئيس. وفي الواقع، فقد أعلنت الحركة الشعبية تضامُنها الكامل مع الرئيس بعد صدور مذكرة ادِّعاء المحكمة الجنائيَّة، بل ترأس سلفا كير، الذي خلف جون قرنق في منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، اللجنة العليا التي شكَّلها الرئيس بنفسه لمعالجة الأزمة التي خلفها قرار المحكمة. كما قال مالك عقار، نائب رئيس الحركة الشعبية للسيد الرئيس عند مخاطبته جماهير ولاية النيل الأزرق بمناسبة الاحتفال بوضع حجر الأساس لمشروع تعلية خزان الروصيرص في 14 أغسطس 2008: «إن الاستهداف موجودٌ ولكن أقول إن مذكرة أوكامبو هي “بلبصة ساكت”». وزاد مؤكداً وقوفه خلف رئيس الجمهورية: «وإنت السيد الرئيس، زول كبير وبالتالي لا تلتفت “للبلبصات”. كلنا خلفك من أجل التنمية، وسر ونحن وراك».
د- وحتى بعد تفاقُم الحرب في دارفور وتدهوُر الظروف الإنسانية، بكل ما صاحبها من تضخيمٍ إعلامي لم تحظ به حرب الجنوب التي كانت أشد شراسة وأكثر وحشية، لم تتصدَّر العدالة الجنائيَّة أجندة القوى السياسية المعارضة، إلا بعد صدور إدعاء المحكمة الجنائية الدولية، بل كان الاهتمام منصباً على كيفية حلِّ النزاع سلمياً، والتوصُّل إلى تسوية سياسية مرضية.
ه- ظلَّت مصداقية المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة، ولم تزل، موضوعاً مثيراً للجدل، تختلف حوله آراء الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، حتى وسط الدول الأعضاء في كل العالم، بما في ذلك الدول الغربية والولايات المتحدة. ومن جهة أخرى، فإن معظم دول العالم الثالث، وفى أفريقيا بالذات، حتى إن كانت من المصادقين على النظام الأساسي للمحكمة، تطعن في عدالة المحكمة بسبب الانتقائية، وازدواجية المعايير، والخضوع لدوافع سياسية. وقد تمَّ التعبير عن هذه الشكوك بصوتٍ عالٍ في الاجتماع الأخير (الثالث والستون) للجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر 2008. وهكذا، اصطفت الأغلبية الساحقة من البلدان الأفريقية والدول الأعضاء في جامعة الدول العربية بحزم خلف البشير في إدانة مذكرة الادِّعاء. وفي 3 يوليو 2009، أصدر الاتحاد الأفريقي قراراً قضى بعدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، مطالباً مجلس الأمن الدولي بتأجيل العملية التي بدأتها المحكمة وفقاً لأحكام المادة 16 من نظام روما الأساسي. ومع ذلك، لا بد من التأكيد على أن تفعيل عملية التأجيل هذه، بدوره، يدعو إلى إجراء إصلاحات قضائية وإنشاء آليات العدالة الانتقالية والمصالحة التي تؤدي إلى ثقافة المساءلة، وتنفيذ التدابير القانونية والقضائية لوضع حد للإفلات من العقاب في جميع مناطق النزاع المسلح.
الكرة الآن في ملعب الرئيس
1. بعد أربع سنوات من نشر سلسلة مقالاتي، في أكتوبر 2008، أعادت مجموعة الأزمات الدولية(ICG) أطروحتي إلى الحياة، في أحدث تقريرٍ لها عن السُّودان، بعنوان: “إصلاح أساسي أم المزيد من الحروب؟”، في 29 نوفمبر 2012. ويشدِّد التقرير على أن النزاع المُزمن في السُّودان لا يزال مستمراً، مدفوعاً بتركيز السلطة والموارد في المركز. وهكذا، فإن النظام في الخرطوم يواجه أزمة عميقة وتحديات متعدِّدة تهدِّد وجوده، واستقرار السُّودان بشكل عام. ومع أن الكثيرين يأملون في انقلاب عسكري أو انتفاضة شعبية قد تجبر البشير والمؤتمر الوطني للتنحِّي عن الحكم، إلا أن هناك خطر كبير في أن يفضي أي من الاحتمالين إلى مزيدٍ من العنف. ووفقاً لمجموعة الأزمات، فإن الحل يكمُنُ في حكومة انتقالية أكثر شمولاً، وذات مصداقيَّة، بمشاركة المؤتمر الوطني، وحوار وطني هادف حول دستور جديد، وخارطة طريق لتغيير دائم في كيفية حُكم السُّودان. فإذا اتخذ النظام خطواتٍ ملموسة من أجل عملية انتقالية ذات مصداقيَّة، فإنه يمكن لمجلس الأمن أن يطلب من المحكمة الجنائية الدولية إرجاء محاكمة البشير لمدة عام، قابل للتجديد، بموجب المادة (16) من نظام روما الأساسي، على أن لا يكون هناك التزامٌ بالتجديد إن تراجع البشير عن تعهُّده بالإيفاء بمستحقات عملية الانتقال.
2. بطبيعة الحال، فلقد تدفقت الكثير من المياه تحت الجسر خلال هذه السنوات الأربع، من حيث التطوُّرات الجديدة والمتغيِّرات التي ظهرت في هذه الأثناء. وتشمل هذه التطوُّرات: انفصال الجنوب، وتكوين دولته المستقلة، واندلاع الحرب في جنوب كُردُفان والنيل الأزرق، وتصاعد العُنف في دارفور، وتزايد التوتر مع جنوب السُّودان، والاحتكاكات المرصودة، والصراع على السلطة داخل الحزب الحاكم نفسه. لذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ما تزال الأفكار التي أوردتها في أطروحتي صالحة وقابلة للتطبيق بعد انقضاء هذه المدة؟! أم أن هذه المتغيِّرات الجديدة جعلتها عديمة الجدوى ومنتهية الصلاحية؟!
3. من جانبي، أنا أميل إلى الاعتقاد بأن اقتراحي ما زال ضرورياً، وأن هذه التطورات الجديدة تجعله أكثر أهمية مما كان عليه قبل أربع سنوات مضت. أثبت التطوُّر التاريخي لنظام “الإنقاذ” أن الرئيس هو الشخص الوحيد الذي يحظى بموافقة وقبول جميع الفصائل في المؤتمر الوطني، والحركة الإسلامية التابعة له. وعلى الرغم من الفهم بأن الرئيس هو الوحيد الذي يمتلك القدرة للحفاظ على الحزب والحركة الإسلامية معا، إلا أن هناك بعض الذين يعتبرونه عبئاً، خاصة في أعقاب مذكرة اعتقال المحكمة الجنائية الدولية. مع ذلك، فإن الأسماء المطروحة والمتداولة كبديل للرئيس لا يبدو أنها تتمتع بقاعدة يعتد بها داخل المؤتمر الوطنى أو تأييد من قبل القوات المسلحة لحشد وتعبئة الناس حول أى منها. وهكذا، يظل الرئيس رمزاٌ القوات المسلحة والقائد الأعلى للجيش، وكذلك يتسنَّم مقاليد السلطة بشكل كامل، ويسيطر على، ويدير بمهارة، عملية الصراع المحتدم على السلطة بين الأجنحة المتنافسة داخل المؤتمر الوطني. وقد تجلى ذلك من خلال الصراع الملحوظ على خلافة الرئيس في السلطة (الذي سبق أن أعلن عن عدم نيته للترشُّح لفترة رئاسية قادمة)، والذي طفا على السطح في أعقاب الإعلان الرسمي عن الحالة الصحية للرئيس والعمليات الجراحية التي أجراها خلال الربع الأخير من العام المنصرم. وعلاوة على ذلك، فقد أصبح الآن رئيس الهيئة القيادية العليا للحركة الإسلامية السودانية، إلى جانب رئاسته للحزب الحاكم.
4. بهذه المواصفات، فعلى الرئيس أن يخلع جلباب الحزب الضيق ويتوشَّح بعباءة كل السُّودان/الوطن بتبنيه لبرنامج لا يلبي رغبات ناخبيه فحسب، بل يتعداها ليستجيب لمطالب القوى السياسية، والتي في أصلها استحقاقات دستورية قائمة على اتفاقيات مع هذه القوى ذاتها، وبذلك يُرضي الرئيس مواطنيه من كافة الاتجاهات، ويحافظ على مكتسبات كل الشعب السوداني وتطلعاته لسلامٍ دائمٍ ولحياة آمنة وكريمة. وها هو الرئيس نفسه، في مخاطبته للشعب السوداني في أعقاب فوزه في الانتخابات، يؤكد أن: «شكرنا في هذا اليوم يشمل كل الذين وقفوا معنا وأيَّدونا من قطاعات الشعب كافة، وكذلك يشمل من لم يُؤيِّدونا، ولكن لا يخصم عدم تأييدهم لنا من مواطنتهم شيئاً، فرئيس الجمهورية يمارس سلطاته كرئيسٍ للجميع، وهو مسئولٌ عنهم، هذه حقيقة أؤكدها والتزامٌ أعلنه. يدينا وعقولنا مفتوحة لكل القوى العاملة في إطار الدستور، بالتواصُل والتحاوُر والتشاوُر لتأسيس شراكة وطنية نواجه بها التحديات». وبدورها، تستدعي هذه الاستجابة لطموحات كل المواطنين اتخاذ الخطوات العملية اللازمة لترجمة كلماته إلى أفعال ملموسة.
5. إن الرئيس، بعد التوقيع على اتفاقية السلام الشامل، لم يعُد مجرَّد رئيس للجمهورية، يمارس صلاحياته وسلطاته العادية، بل إنه المسئول الأوَّل عن أهم عملية انتقال سياسي وتحوُّل دستوري بعد استقلال البلاد في 1956. وبهذه الصفة، وكضامنٍ أوَّل لسلامة الترتيبات الدستوريَّة التي قامت على اتفاقية السلام، فهو أيضا المسئول الأول عن إبعاد شبح تقسيم وتشظي البلاد، والحفاظ على سلامة ما تبقى من السُّودان القديم. فهناك كثيرون يعتقدون خطأ بأن اتفاقية السلام تُعنَى فقط بإنهاء الحرب بين الشمال والجنوب، غافلين عن أن للاتفاقية هدفان توأم، هما: 1) وقف الحرب وتحقيق السلام، و2) التحوُّل الديمقراطي. فحين أنه من الصحيح أن الفترة الانتقالية قد انتهت رسمياً بعد استقلال جنوب السُّودان، إلاَّ أن عدد من القضايا العالقة وترتيبات ما بعد الانفصال لا تزال قيد المفاوضات. وهكذا، فإن بنود كل من اتفاقية السلام الشامل واتفاق القاهرة، بين المؤتمر الوطني والتجمُّع الوطني الديمقراطي، فيما يتعلق بالتحوُّل الديمقراطي لا يزال يتعيَّن تنفيذها. وبهذا الفهم، فإن قضايا الاتفاقية العالقة لا تقتصر على النزاع في المناطق الانتقالية الثلاث )جنوب كُردُفان، النيل الأزرق، وأبيي(، بل إن الانتقال إلى الديمقراطية هو في حدِّ ذاته أحد القضايا العالقة الهامة.
6. لذلك، ما زال لدى الرئيس البشير فرصة ذهبية في لعب دور تاريخي حاسم، الأمر الذي سيحوِّله إلى بطلٌ قومي وزعيمٌ سياسي، يقود من خلاله عملية توافُقٍ سياسي على برنامج وطني يستجيب للتحديات الجسام التي تكتنف الأزمة الوطنية الماثلة، وعلى آليات تنفيذه. فلدى الرئيس صلاحيات دستوريَّة واسعة تتيح له تطوير حزمة من الإجراءات والتدابير اللازمة التي من شأنها أن تجنب تدهور الأزمة والانحدار نحو السيناريو الثاني. تشمل هذه الخطوات:
أ- تكريس وتخصيص الفترة المتبقية من ولايته لقيادة عملية إنجاز المهام التي لم تكتمل في تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، والمنصوص عليها في الدستور القومي الانتقالي، وذلك بهدف ضمان الانتقال السلمي إلى نظام ديمقراطي تعددي.
ب- ابتدار، والشُّروع في، حوار صريح ومباشر وجاد مع جميع القوى السياسية في المعارضة من أجل التوصُّل إلى توافُقٍ وطني واتفاق سياسي على العناصر الأساسية لبرنامج “قومي” يُفضي التنفيذ الأمين له إلى مقابلة التحديات التي تواجه البلاد في هذا الظرف الحرج والدقيق من تاريخها الحديث.
ج- توسيع قاعدة الحكم من خلال تشكيل “حكومة مشاركة” حقيقية، على المستويين الاتحادي والولائي، وذلك بتمثيل القوى التي لها ثقلٌ سياسي وقاعدة شعبية لدعم تنفيذ هذا البرنامج، بغضِّ النظر عن مشاركتهم في الانتخابات الماضية أو مقاطعتهم لها، في هذه الظروف الاستثنائية.
د- تحديد أولويات برنامج الحكومة، وعلى رأسها: مخاطبة ومعالجة القضايا العالقة وقضايا ما بعد الانفصال، واستكمال المتطلبات المتبقية من إنفاذ عملية التحوُّل الديمقراطي، من خلال تنفيذ جميع البنود ذات الصلة من اتفاقية السلام الشامل، واتفاق القاهرة. وهذه تشمل، وقف الحرب في جنوب كُردُفان والنيل الأزرق، حلَّ قضية أبيي بطريقة من شأنها الحفاظ على تلك المنطقة كجسرٍ للتمازج بين الشمال والجنوب ونموذجاً للتعايُش السلمي، وإنهاء الحرب والنزاع المسلَّح في دارفور، جنوب كُردُفان، والنيل الأزرق، بالنزوع إلى منهج شامل يتجاوز الحلول الجزئية بما يحقق العدالة والسلام الدائم، وإرساء مبدأ الشفافية والمساءلة والعدالة الانتقالية وعدم الافلات من العقاب والمحاسبة علي اقتراف الجرائم الجسيمة وانتهاكات القانون الدولي لحقوق الانسان.
ه- البدء في صياغة آليات ووسائل المصالحة الوطنية الشاملة، وتضميد الجراح في جميع أنحاء البلاد، وخاصة في المناطق المتأثرة بالحرب.
و- الشروع في مراجعة دستوريَّة شاملة في سياق عملية تتسم بالتوافُق والشمول والشفافيَّة والمشاركة الواسعة لكل القوى السياسيَّة والمدنيَّة، بغضِّ النظر عن الشكل الذي تتخذه هذه العملية، وذلك بهدف معالجة، والتوصُّل إلى توافُق الآراء بشأن كل القضايا الخلافيَّة الوطنيَّة.
ز- تمهيد الطريق والتوصُّل إلى توافقٍ في الآراء مع جميع القوى السياسية المتنافسة على الشروط اللازمة والتشريعات الضروريَّة لتهيئة المناخ وتسوية أرضيَّة الملعب لإجراء انتخاباتٍ حُرَّة ونزيهة بما يرضي هذه القوى، بما في ذلك تشكيل هيئة ذات مصداقيَّة لتنظيم الانتخابات والإشراف عليها.
7. وبالمثل، فإن قوى الجبهة الثورية وأحزاب المعارضة السياسية عليهم أن يظهروا للشعب السودانى، فى المقام الأول، وللمؤتمر الوطني بأنهم جادون في الدخول في حوار واسع مع جميع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمشاركة في حكومة ذات قاعدة عريضة. الكثير من السودانيين، حتى بين أولئك الأكثر ليبرالية وممن نالوا حظا أكبر من التعليم، لا يرون كيف يمكن لهذه القوى أن تساعد فى تحريك الأوضاع الراهنة إلى الأمام، خاصة إذا كانت هناك فرصة حقيقية لحوار وطني يؤدي إلى الإنتقال والتحول السلمى. إن ميثاق "الفجر الجديد" يعطي الأولوية للوسائل المدنية والديمقراطية للتغيير. ومع ذلك، يتعين على الجبهة الثورية وقوى الإجماع الوطنى الشروع في جهود علنية وملموسة توصل من خلالها رسالة إلى الشعب السوداني مفادها أنهم، في المقام الأول، يقفون مع التغيير السلمي والتسوية السياسية الشاملة. لاشك، أن مثل هذه الجهود تعزز عملية التوافق الوطني، ويمكن أن تشمل: أ) إنشاء لجنة رسمية من قبل هذه القوى تعهد إليها مهمة التواصل والحوار مع المؤتمر الوطني وبقية القوى السياسبة حول العناصر الأساسية للتوافق الوطنى، ب) إبتدار حملة إعلامية، من جاب هذه القوى، في جميع أنحاء البلاد لتوصيل أي من الرسائل التى تفيد باستعدادهم للمضي قدما في تنفيذ التسوية المقترحة، وج) إجراء مبادرة تهدف بوجه خاص إلى حوار الشباب-الشباب، عبر أحزابهم السياسة المختلفة، خاصة بعد أن أصبحت السياسة فى الحركة الطلابية فى الجامعات تتسم بالعنف المفرط والأذى المتبادل.
8. أنا مدركٌ لأن ما طرحته من اقتراح سيرفع حواجب أعيُنٍ كثيرة، وقد يبدو مُرُّ المذاق لبعض الأطراف، وشاقٌ على نفس البعض الآخر، إلا أنه يهدف إلى وضع حلٍ سلمي للأزمة الوطنية المحتدمة، وبالتالي تجنُّب انهيار الدولة السودانية، وإحباط الحلول المفروضة من الخارج. وبالمثل، لستُ بحاجة لأن أؤكد بأن اقتراحي يتوقف على اعتراف الرئيس، وكذلك المؤتمر الوطني، بأن نطاق وحجم الأزمة السودانية والمخاطر التي تهدِّد وجود الدولة نفسها، أكبر بكثير من كل تجاربهم السابقة، مما يجعل اللجوء إلى المقاربات المعتادة والوصفات الجاهزة مجرَّد ممارسة عقيمة. إن التحديات التي تجابه البلاد حالياً أضخم بكثير من قدرة أي حزبٍ أو تنظيمٍ على معالجتها بمفرده.
خاتمة
1. للمفارقة، تجئ احتفالات السُّودان هذه الأيام بذكرى الاستقلال السابعة والخمسين، من الحكم الاستعماري، والبلاد منقسمة على نفسها من كل النواحي، رأسياً وأفقياً. فإلى جانب هشاشة مؤسسات الدولة، يُشكِّل هذا الانقسام الوصفة المثالية لتفكُّك الدولة. فنحن نفتقر إلى رؤية مستقبليَّة واضحة وقيادة توافُقيَّة ملهمة، وهما عاملان أساسيان من بين العوامل الحاسمة والمطلوبة لتحجيم ولَجْمِ النزاعات المسلحة المتفاقمة، والانقسامات السياسية العميقة، والانبعاث المقلق للنزعات العرقيَّة والإثنيَّة والقبليَّة، وبالتالي الحفاظ على تماسُك ما تبقى من البلاد، وتجنُّب تفكُّك الدولة. حدث ذلك في الصومال، من بين حالاتٍ أخرى، وربما يحدُث في السُّودان. ففي الواقع، لم يُفلح التجانُس الإثني واللغوي والديني في إنقاذ الصومال من التمزُّق وفشل الدولة. فالحكمة التقليديَّة القائلة بأن السُّودانيين في مأمنٍ من، وبمنأى عن مثل هذا السيناريو المُرعب، بحُجَّة تفرُّد تركيبته الاجتماعية وخصوصيَّة ثقافته وقيمه السائدة، لا تصمُدُ في وجه الواقع الماثل. فلا يمكن للموروثات الاجتماعيَّة والثقافيَّة أن تمنع العُنف والصراع المنفلت على السُّلطة بدون، على الأقل، وجود قواسم مشتركة بين القوى الرئيسيَّة ومنبرٌ سياسيٌ مُوحَّد، أو توفُّر الحكمة لدى القيادات والطبقة السياسيَّة السودانية ككل. في الواقع، لم يتحقق الانتقال السلمي في أي بلد بالعالم في غياب قيادة حكيمة وبصيرة.
2. لا يمكن أن نتصوَّر أن إسقاط النظام والتغيير السياسي سيتم، هذه المرَّة، بالطريقة التقليديَّة من خلال نقل السلطة بواسطة القوات المسلحة، كما حدث في 1964 و1985، أو في الثورتين التونسية والمصرية في 2011. وبطبيعة الحال، هذا لا يستبعد انتفاضة شعبية أخرى، ولو بشكلٍ مختلف، وبتكلفة بشريَّة وماديَّة باهظة. ومع ذلك، فلدى الرئيس البشير فرصة تاريخيَّة، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ السُّودان، لاتخاذ قراراتٍ جريئة لإنقاذ البلاد من الانزلاق إلى الهاوية، وتحويل نفسه إلى بطل قومي، مع استعادة المصداقيَّة المفقودة للمؤتمر الوطني. فعلى الرغم من أن جنوب السُّودان قد انفصل في عهد الرئيس، قد يجد له التاريخ العُذر، خاصة أن الانفصال كان استجابة لطموحات وتطلعات الجنوبيين في عملية شفافة ونزيهة بدرجة كبيرة، وبأغلبيَّة ساحقة في الاستفتاء على تقرير المصير. ولكن، إن أخذ السيناريو الثاني مجراه، فسيُسجِّل التاريخ أن السُّودان تمزَّق وتفتَّت تحت قيادة ورعاية الرئيس البشير.
3. وأخيرا، من المهم أن نفهم أن رسم هذه السيناريوهات، خاصة السيناريو الثالث، لا يهف إلى تقديم وصفات جاهزة لا تقبل الجدل لمآلات التغيير السياسي فى السودان. بل، إن الغرض من هذا التمرين هو المساعدة على تجاوز المأزق الحالي وتحريك الجمود في الوضع السياسي الراهن، وخلق راي عام يضغط في وجهة المساومة التاريخية، من خلال إثارة النقاش وإثراء الحوار حول الطرق الواقعية والعملية لتحقيق الإنتقال السلمي والتسوية السياسية الشاملة. وهكذا، فقد إكتفت جميع القوى السياسية، بما فيها الحزب الحاكم والمعارضة السياسية والحركات المسلحة، بالإدلاء ببيانات عامة ومعممة تؤكد على تفضيلهم لخيار الحل السياسي السلمى. ومع ذلك، فإن إضفاء قدر من المصداقية على هذه التصريحات، تستوجب على هذه القوى التقدم بمقترحات واقعية وملموسة للإجابة على "سؤال مليون دولار": كيف يتحقق هذا الإنتقال السلمى؟ ولا تمثل مساهمتى هذه سوى مجرد محاولة نحو الإجابة على هذا السؤال.
تورونتو- كندا
18 يناير 2013