الأذن تعشق قبل العين أحيانا
سليم عثمان
18 February, 2013
18 February, 2013
بقلم: سليم عثمان
كاتب وصحافي سوداني مقيم في قطر
يقول الشاعر العربي الكفيف الراحل بشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ...والأذن تعشق قبل العين أحيانا .
قالوا: بمن لا ترى تهذي؟ فقلت لهم: ...الأذن كالعين توفي القلب ما كانا.
تذكرت هذين البيتين لبشار في مناسبة اليوم العالمي للراديو الذ احتفل به العالم في الثالث عشر من فبراير الجاري، فتذكرت صدق الشاعر في هذيانه العفيف ، ومع أن هذيانه كان عشقا بالأذن لأنثي رقيقة ،الا أننا يمكن أن نستعير المعني لحب فطري لأذاننا للراديو، هذا الجهاز العجيب الذي لم يفقد سحره ، الذي هو من سحر الكلمة ورنينها الذي يجلو الاذان ، نعم فالعقل دائما أقرب الى الّن منه الي العين،في نقل المشاعر والأحاسيس وفي القران الكريم السمع مقدم على البصر في نحو 17 موضعا وكثيرا ما جاءت بصيغة المفرد والبصر بصيغة الجمع وكأن أذن واحدة خير من عيون كثيرة.
المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة(اليونسكو) حددت يوم13 فبراير من كل عام يوما عالميا للإحتفال بالراديو،ويعود الإختيار الي اليوم الذي بدأ فيه بث أول إذاعة للأمم المتحدة عام 1946، لكن وراء الإختيار أكثر واقعة طريفة تظهر مدى تأثير الراديو في جمهور المستمعين منذ بدايته فقد رغبت أسبانيا وهي التي قدمت إقتراح اليوم العالمي للراديو،أن يكون ذلك اليوم المقترح هو 30 أكتوبر، ففي ذلك اليوم من عام 1938 بثت على اذاعة بي بي سي الأم معالجة درامية لرواية الكاتب الانجليزي (إتش جي ويلز)(حرب العوالم) التي يتخيل فيها إحتلال كائنات من المريخ للأرض وكانت مدة المعالجة ساعة قدم معظمها في شكل نشرة أخبار وقد أدى هذا الي إنتشار الاضطراب بين جمهور المستمعين الذين أعتقدوا أن ما يسمعونه من أحداث هو نشرة إخبارية حقيقية.وفي نهاية المناقشات اثر الاعضاء على اعتماد 13 فبراير للاحتفال بهذه المناسبة ، لكن ما الهدف من تحديد اليونسكو هذا اليوم سنويا للاحتفال بالراديو؟ الهدف الرئيسي هو: زيادة الوعي بين عامة الناس وبين العاملين في وسائل الاعلام بأهمية الراديو، شخصيا بدأت علاقتي بالراديو (الترانستور) وانا بعد يافع صغير لم يدخل المدرسة الإبتدائية لم يكن في بيتنا راديو لكن في بيت عمي الذي يجاور بيتنا ، كنت أسمعه يطنطن بكلام كنت لا أفهم معظمه غير إني كنت أطرب للموسيقي والغناء، لا تسألوني متي كان هذا فأنا لا زلت في ميعة الصبا، كما ترمي اليونسكو الي تحسين التعاون الدولي بين المذيعيين في محطات الاذاعة في العالم وتشجيع من بيدهم إتخاذ القرار على توفير سبل لنقل المعلومات عبر الراديو مما يؤدي في النهاية الي المساهمة في النمو المتواصل للمجتمعات، كما تعلمون فإن الراديو وسيط إعلامي ذا تاريخ طويل جدا- من الاستمرار علي قيد الحياة،منذ أول بث إذاعي في أوائل العشرينيات من القرن الماضي وحتي عصر المعلوماتية والتكلنوجيا الرقمية وهو يعد من الوسائل الأكثر جذبا للمستمعينفي أرجاء العالم كافة من حيث وصوله الي أكبر عدد منهم وسوف نبين ذلك لاحقا في سياق مقالنا هذا بالإحصاءات والأرقام، ورغم طغيان البث التلفزيوني في زماننا هذا الا أن الراديو لديه من المميزات الكثيرة ما يجعله وسيطا لا ينافسه وسيط اخر حتي التلفزيون ،هل يستطيع مزارع في قريتي الصغيرة الراقدة في حضن وضفة النيل الغربية شمال مدينة دنقلا حاضرة الولاية الشمالية (قرية الزورات) أن يحمل تلفازا فوق حماره أعزكم الله ليتابع الجزيرة أو تلفزيون السودان أو تلفزيون بي بي سي وغيره من الفضائيات؟ هل يستطيع أن يشاهده داخل مزرعته وهو يتحرك هنا وهناك ويعمل ؟ الإجابة ببساطة لا لكنه يستطيع أينما ذهب أن يعلق راديو صغير يعمل بالبطاريات في عنقه ويتابع أحداث العالم كل لحظة ، بل يستطيع أن يتابع مسرحيات شكسبير ومباريات هلال مريخ وغيرها (طالما الأذن تعشق قبل العين).
في تاريخ الراديو أسم اخر كان له أثر كبير في انتشار ذلك الجهاز في العالم ، خاصة في أفريقيا وهو (تريفر بيليس)ففي أوائل التسعينات كان بيليس يشاهد برنامجا تلفزيونيا لجمع التبرعات للمحتاجين في أفريقيا لمواجهة الجفاف هناك وفكر في حاجة السكان هناك وسط الصحراء لوسيلة تساعدهم في الوصول للمعلومات بكلفة ذهيدة وعلي الفور تولدت لديه فكرة الراديو الذي لا يحتاج بطاريات للتشغيل ، وصمم بيليس جهازا يشحن يدويا وقت الحاجة،كما كانت بعض أجهزة الغرامفونات القديمة تعمل في الماضي وفي أبريل 1994 عرضت بي بي سي اختراعه (Freeplay Radio) ثم صنع باحجام مختلفة يسهل حملها وشحنها يدويا وقت الحاجة للاستماع .
شخصيا لا أعرف كم من المحطات الإذاعية في بلدي السودان لكني أعرف الي جانب إذاعة أمدرمان الشهيرة عددا من المحطات الاذاعية الولائية ومحطات الأف أم الحديثة ، والغريب أن الفضائيات هي الأخري شعرت بحاجة الناس الي مثل هذه المحطات فأطلقتها فكثيرا ما اتابع بث قناة الجزيرة في الدوحة وأنا ذاهب الي عملي أو عائدا منه، وقد تندهشون لو علمتم أن هناك أكثر من 44000 الف محطة إذاعية في العالم، وأن الراديو برشاقته أستطاع أن يقتحم 75% من البيوت في الدول النامية ولكم أن تتخيلوا عددها، كما يصل الراديو الي 70% من سكان العالم عبر الهواتف المحمولة، ولم تنس الإذاعة الجنس اللطيف فهو يصل الي أولئك النسوة اللأتي لا يستطعن حضور فصول تعليمية خارج بيوتهن لأي سبب من الأسباب ، ويستمع الناس الي محطات(AM,FM)عبر أجهزة الراديو أو الهواتف المحمولة أكثر من الاستماع اليها عبر الأقمار الصناعية(الستلايت) أو حتي الأنترنت بل إنه فرض نفسه كوسيط على الهواتف المحمولة التي أصبحت أداة لبث محطات إذاعية كثيرة ، تجذب عددا كبيرا من المستمعين حول العالم.
في السودان أنشئت الإذاعة السودانية في أول أبريل 1940م إبان الحرب العالمية الثانية من المال المخصص للدعاية للحلفاء في حربهم مع دول المحور واختيرت لها غرفة صغيرة بمباني البوستة القديمة بأم درمان وقد وزعت مكبرات الصوت في بعض ساحات ام درمان الكبيرة لتمكن اكبر عدد من المواطنين بمدينة ام درمان من الاستماع إلى الإذاعة التي كانت تبث نصف ساعة يومياً .من الساعة السادسة مساء إلى السادسة والنصف مساء وكانت تقدم خلال نصف الساعة هذه تلاوة من القرآن الكريم ونشرة خاصة بالحرب واغنية سودانية بواسطة مكبرات الصوت لجمهور الذى كان يقف أمام مبنى البوستة بأم درمان و الاستاذ عبيد عبد النور هو اول مذيع رسمي فيهاوفى سنة 1942م انتقلت الإذاعة من مبنى بوستة أم درمان القديمة إلى منزل بالإيجار بأم درمان غرب مدرسة الدايات بأم درمان وبدأت تذيع على موجة متوسطة هي 524 متراً وتوسع البرنامج بعد ذلك إلى ساعة كاملة يومياً.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها أوقف الحلفاء الميزانية التي كانت تخصصه للدعاية وكادت أن تتوقف الإذاعة وهنا تدخل مستر (ايفانس) وحصل على تصديق ميزانية الإذاعة من السلطات الاستعمارية في البلاد وبذلك أصبحت ميزانيتها تابعة لاول مرة لحكومة السودان حتى تكون بوقاً للاستعمار وحرباً على الاتجاهات الوطنية الناشئة في ذلك الحين والداعية إلى التحرر وحق تقرير المصير وظل الحال هكذا إلى آن وقعت اتفاقية القاهرة في 13 فبراير 1953م والتي نال السودان استقلاله بمقتضاها فيما بعد، نقللت اذاعة امدرمان أول حفل غنائي ساهر من خارج العاصمة من مدينة عطبرة عام 1958 عدد 23 مديرا تعاقبوا عليها اولهم مستر فنش دوسون واخرهم الأستاذ معتصم فضل ،اسماء كثيرة رنانة عانق صوتها اذاننا ونحن صغارا وكبارا ، عبد الرحمن أحمد محمد صالح ، علم الدين حامد ، ليلي المغربي، عطية الفكي ، ذو النون بشري ، عمر الجزلي ، الرشيد أحمد فضل ، حامد عبد الرؤوف ، محمد الكبير الكتبي (حاليا بقناة الجزيرة ) عمر عثمان ، سكينة عربي ، الزبير عثمان أحمد وغيرهم كثير نكتفي بهؤلاء ونعتذر لأولئك الذين لم نورد أسماؤهم فقط لضيق المساحة فهم جميعا خالدون في وجداننا أحياء وأمواتا .واذا انتقلنا لإذاعة البي بي سي في عصرها الذهبي من منا لا يذكر افذاذا وعمالقة مثل ، السوداني الراحل الطيب صالح و ايوب صديق واسماعيل طه ،والفلسطيني ماجد سرحان و المغربي محمد الازرق ومحمد الحسن الشايش ونجا فرج ومحود المسلمي من مصر ومديحة المدفعي وحسام شبلاق وسامية الأطرش من العراق وحسن معوض وعمر الطيب وسعيد الشيخ من السعودية ، واللبناني محمد صودان والجزائري محمد صالح الصيد ،وجميل عازر وفؤاد عبد الرازق وعلي اسعد وحسن الكرمي ورشاد رمضان وغيرهم .
وتجمل بي بي سي أهم قواعد الكتابة للراديو في النقاط التالية التي تنطبق على جميع الأشكال الإذاعية بدرجات متفاوتة ما عدا الخبر الذي يعد أكثرها التزاما والتصاقا بالقواعد التقليدية، أولا: الصوت جزء أصيل وأساسي من النص وليس مكملا أو مجملا له، فكثيرا ما يولي الصحفي الإذاعي إهتمامه لمضمون المادة التي يعمل عليها. وعندما ينتهي من كتابة النص يبدأ التفكير في ما يمكن أن يلحقه بالنص. وقد تكون هذه الأصوات مقتطفات صوتية لمتحدثين أو أصواتا مجسدة للأجواء المحيطة بالموضوع، كضجيج القطارات أو الطائرات إلخ، بينما إن أراد الصحفي أن يكتب نصا إذاعيا جيدا عليه أن يبدأ بالبحث عن الأصوات المحتملة.
هذه هي الخطوة الأولى في الكتابة الاذاعية. ومن ثم يتمحور النص على هذه الأصوات وليس العكس. والنتيجة نص إذاعي متكامل العناصر وليس نصا صحفيا مكتوبا للصحافة المقروءة. فالصوت هنا هو المعادل للصورة في التلفزيون أو في السينما. وهو ضروري لمادة إذاعية جيدة كما أن الصورة ضرورية للتلفزيون.
القاعدة الذهبية للكتابة للراديو: إكتب للراديو كما لو كنت تكتب للتلفزيون وابدأ بتخيل الصورة الأولى في التقرير ثم حول هذه الصورة إلى صوت.
ثانيا: تطويع اللغة العربية، وهي لغة ثرية وقادرة على التعبير بدقة، وليست لغة جامدة في قوالب تقليدية متكررة، ولكن تكرار إستخدام بعض التعبيرات جعل هذه التعبيرات الجامدة تبدو وكأنها ضرورية للنص الإذاعي وهو ليس بالأمر الصحيح.
من الأمثلة على هذه التعبيرات الشائعة في الكتابة الإذاعية جملة "وأضاف قائلا....". وهو تعبير يمكن الاستغناء عنه بسهولة دون أدنى تأثير على النص، وإلغاؤه يجعل النص متحركا ويبتعد به عن القوالب الجامدة التي ملتها الأذن من كثرة تكرارها.
ويرتبط بتطويع اللغة أيضا إستخدام الجملة الإسمية بدلا من الجملة الفعلية في بعض المواضع مما يجعل اللغة أقرب إلى اللغة المحكية.
ثالثا: الإلقاء، عندما تكتب موضوعا للإذاعة تخيل صديقا وقد جلس أمامك وبدأت "تحكي له" ما تكتب عنه. تخيل الجملة الأولى التي عليك استخدامها لكي تجذب انتباهه، وتذكر أن قراره الاستمرار في الاستماع إليك يتوقف على هذه الجملة. فبها يمكنك أن تجذب المستمع لكي يتابع القصة أو تفقده إلى الأبد إن وجد الجملة الأولى مملة أو عديمة الأهمية.
إبتعد عن التمهيد الذي يستهلك الوقت ويكرر ما ذكره المذيع عند تقديمه للمادة. وهو فارق رئيسي بين الكتابة للراديو والكتابة للصحافة المقروءة. في الراديو تكون الثواني معدودة وثمينة ولاحاجة على الإطلاق للتمهيد.
حافظ على البناء بسيطا وسلسا قدر الأمكان مع التركيز على الزاوية التي اخترتها للمادة من دون الإنزلاق الى زوايا أخرى أو جوانب إضافية للموضوع. تذكر أنها مادة مسموعة من السهل ان تفقدها الأذن من دون أن تكون هتاك فرصة للعودة إليها مرة أخرى على العكس من المادة في الصحافة المكتوبة.
ترى هل كل شخص يصلح أن يكون مذيعا في الإذاعة ؟ لا أعتقد أنا شخصيا ذلك ولا أصلح أبدا أن أكون مذيعا في التلفزيون، ببساطة لأني لا أمتلك أي قدر من الوسامة المطلوبة ، للظهور في الشاشة ،أما بالنسبة للإذاعة ، فكوني مجيدا للغة الدناقلة بالضرورة يعني هذا أن لدي لكنة ،في لساني تجعلني لا أصلح لميكرفون الإذاعة ، وتلخص آن أترباك في أحد فصول كتابها (دليل الصوت الإذاعي) الخطوات المهمة للمذيع حتى يعتاد على الأداء بأسلوب الأحاديث اليومية الحوارية العادية في خمس، هي: إعداد النص الذي سيقرؤه إعدادا جيدا، وتقسيمه إلى عبارات وجمل، يفصل بينها وقفات مختلفة، من حيث درجة الصوت حدة وغلظة، ومراعاة السرعة التي سيقرأ بها، وحتى تستطيع الأداء بهذا الأسلوب الحواري العادي عليك أن تتخيل أمامك شخصا تعرفه جالسا أمامك، وأنك تتحدث إليه، ثم عليك أن تتخيل هذا الشخص في غرفة، وأنك توجه إليه الحديث، أو تحادثه، فأنت لا تخاطب الميكروفون أو الكاميرا، بل تتحدث مع هذا الشخص، ويأتي بعد ذلك دور العاطفة، وموضوع العاطفة في نقل الأخبار مثير للجدل، لكن ثمة فرقا بين الحيادية أو النزاهة، وعدم الإحساس، فإذا نأى المذيع بنفسه عن العواطف تماما فسيكون -كما تقول أترباك- أقرب إلى الإنسان الآلي في أدائه. ويمكن للعواطف أن تظهر في استخدام سرعة أبطأ في الأداء مثلا، أو في ترقيق الصوت قليلا بما يناسب القصة المعروضة، ثم على المذيع أن يتخيل المكان الذي حدثت فيه القصة، فهو عين وأذن المستمع أو المشاهد، الذي يعتقد دوما أن المذيع أو الصحفي موجود في مكان الحدث، وهكذا لم يعد من بين سمات المذيع اليوم ومهاراته الضرورية الصوت الطلي، أو الجمال البهي، لكنه أصبح متحدثا ومتحاورا ذكيا، يستطيع بمهاراته إقناع المستمع أو المشاهد أنه في مكان الحدث، وأنه يتحدث معه، وليس يقرأ نصا معدا من قبل.
نعم كما قالت السيدة إيرينا بوكوفا المديرة العامة في رسالتها بمناسبة اليوم العالمي للإذاعة :لقد حولت الإذاعة ماضينا – وهي لا تزال أداة قوية لبناء عالم جديد يعمه السلام وتهيئة مستقبل أكثر إستدامة وأكثر شمولا للجميع ولا تزال الاذاعة اكثر من أي وقت مضي قوة للتغيير الاجتماعي من خلال تبادل المعرفة وتوفير منبر للنقاش الجميع نحيي الرعيل الأول من الإذاعيين السودانين وفيهم خبراء إتصال كبار أمثال البروفسير علي محمد شمو كما نحي كل الاذاعيين السودانين والعرب ونتمني على حكومتنا بأن تدعم الإذاعة كثيرا حتي تصل رسالة التنوير كل بيت سوداني في اصقاع السودان المترامية .
saleeem66@hotmail.com