بعض ما فاتني أيام الصمت الجبري
كنت في رحاب مدينة أكسفورد الجميلة في شهر يونيو من العام الماضي،التي ذهبت إليها مشاركاً في "برنامج السودان" بكلية سانت أنتوني العريقة وذلك بتقديم محاضرة عن القضايا العالقة بين الشمال والجنوب، عندما وصلتني رسالة الأستاذ النور أحمد النور رئيس تحرير جريدة الصحافة يخبرني فيها بأن السلطة الأمنية المختصة قد حظرت كتابة مقالاتي الأسبوعية. وأسفت أن سقف الحرية الذي جاءت به اتفاقية نيفاشا بدأ يتدهور تدريجيا بعد أن استعادت العصبة الشمولية سيطرتها كاملة على مقاليد الأمور بانفصال الجنوب، ولم يمنعني ذلك من الاستمتاع برحلتي بين أكسفورد وبرايتون حيث يقطن بعض أفراد أسرتي وبين لندن التي لا بد من زيارتها لتفقد مكتباتها العامرة دائماً بكل جديد. وقلت إنها فرصة أن أتفرغ للإطلاع على بعض الكتب الثمينة التي اشتريتها من حر مالي دون أن أجد وقتا لتصفحها ولكتابة بعض مشروعاتي الأكاديمية التي لم أجد لها الوقت الكافي في سودان المشاكل بسبب ملاحقة أخبار السياسة والسياسيين التي لا بد منها لتطعيم المقال بنكهة جديدة لأنه غالباً ما يدور حول ذات القضايا المكرورة التي لا تجد حلاً من أحد. وبما أني انقطعت لمدة عشرة شهور من الكتابة، عدا التحقيقات الطارئة التي يجريها معي بعض الصحفيين الذين لم يسمعوا أو لم يهتموا بحظر السلطة المختصة، فقد فاتني الكثير من القضايا التي وقعت في تلك الشهور وتستحق شيئاً من التعليق قبل أن نواصل الدوران حول أحداث أو موضوعات جديدة، ولنختبر مياه النيل في مرحلتها الحالية ماذا تحتمل وماذا لا تحتمل!
• مؤتمر الحركة الإسلامية: تابع كثير من أهل السودان مؤتمر الحركة الإسلامية الثامن (15/11/2012) لأنه شكل حراكاً سياسياً ساخناً ظهر جلياً عند إجازة الدستور الجديد الذي صيغ ببراعة ليؤطر الوضع القائم كما هو ويستديم مركز السلطة للدولة والحزب والحركة في يد العصبة المتنفذة، وفي انتخابات رئيس المؤتمر (الطيب إبراهيم ضد عبد الرحيم علي) والأمين العام (غازي صلاح الدين ضد الزبير أحمد حسن) وأعضاء مجلس الشورى الذين سقطت بعض رؤوسهم الكبيرة في محلية الخرطوم. وأنّى لمن يقاتل حاسراً ليمنع تداول سلطة تشريفية لا قيمة لها في معادلة الحكم القائمة عن أقرب الأقربين إليه أن يقبل بتداولها مع كل أهل السودان؟ ذاك حلم دونه قطع الرقاب! ورغم خسارة الإصلاحيين في ذلك المؤتمر إلا أن الرسالة كانت قوية وواضحة أن أمور الحركة الإسلامية وتهميشها لا يمكن أن تسير كما كانت منذ مجئ الإنقاذ إلى السلطة وابتداع الأمين العام لصيغة الحكم المتمثلة في ديكورية الحركة الإسلامية بجانب قوة الحكومة التنفيذية وتنظيمها السري الفاعل وحزبها الهلامي الفضفاض الذي لا يصنع قراراً. لقد بلغ الاحتجاج السياسي قلب الحركة الإسلامية المتمثل في شبابها المقاتل الذي كان يساق فيما مضى بسهولة عبر الشعارات الدينية التي فقدت لديهم مصداقيتها. وقد أكدت جماعة "سائحون" موقفها المبدئي من قضية الإصلاح في مذكرة ضافية عن الإصلاح والنهضة صدرت في فبراير من هذا العام مما يدل على إصرارهم للمضي في ذات الطريق إلى نهايته المحتومة ولن يثنيهم عن ذلك التهديد أو الإغراء فهم أصحاب قضية دفعوا مهرها غالياً دون نتيجة ملموسة. وأعقب ذلك المؤتمر بعد أقل من أسبوع المحاولة الإنقلابية التي قادها العميد محمد إبراهيم عبد الجليل (ود إبراهيم) الذي بقي في أحراش الجنوب وجنوب كردفان لسنوات طويلة يجاهد دفاعاً عن السلطة "الإسلامية" التي كان ينبغي أن تملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ولم تفعل من ذلك شيئاً. والدرس المستفاد أن القاعدة الأيدولوجية والعسكرية التي استندت عليها الإنقاذ منذ مجيئها قد اهتزت تماماً، والسؤال هو: ماذا ستفعل قيادة الدولة لترميم الثقة وإصلاح الخلل الكبير الذي ظهر لكل ذي عينين؟ العصبة المتنفذة ستوحي للقيادة بأن هذه سحابة صيف عمّا قريب تقشع ولا داعي لتغيير كبير في منهج السلطة فقد أثبت المنهج جدواه عبر السنين ويستطيع أن يصمد بترميمات بسيطة هنا وهناك وإحلال وإبدال في القيادات الوسطى للحزب والدولة، أما القيادات العليا فلها أهلها المقيمين ما أقام عسيب. وجاءت تسوية الأحكام دليلاً على ضعف الدولة واختلال معاييرها العدلية في المساواة بين مرتكبي الجريمة الواحدة من أتباع المؤتمر الشعبي وحركة العدل والمساواة. وما زالت البلاد في إنتظار مخرج سياسي لها من النفق المظلم الذي دخلته والذي يهددها بمخاطر جمّة أسوأ من انفصال الجنوب.
• اتفاقيات التعاون بين الشمال والجنوب: ظلت اتفاقيات التعاون التسع التي أبرمت في 27 سبتمبر الماضي بأديس أببا حبراً على ورق رغم أنها كانت تسوية جيدة بذل فيها مجهود كبير لأكثر من سنتين شمل كل القضايا العالقة بين البلدين (الترتيبات الأمنية، البترول، التجارة، الأصول والديون،البنوك المركزية، فوائد ما بعد الخدمة، الحريات الأربع، الحدود، اتفاقية التعاون الرئاسية)، ولكن عدم الثقة المتجذر والمزايدات العنترية حالت دون تطبيقها. وبعد أن تكاثفت الضغوط الداخلية والخارجية على الطرفين وضاقت بهم الأرض بما رحبت استجاب الطرفان لصوت العقل وصاغا مصفوفة مفصلة في 12 مارس الماضي لتنفيذ كل ما اتفقا عليه سابقا، كل ما هنالك أن قبلت حكومة السودان أن فك الارتباط مع قطاع الشمال لا يلزم حكومة الجنوب بنزع سلاح تلك المليشيات وقبلت حكومة الجنوب أن تكون كل مساحة منطقة الميل 14 (سفاهة/ سماحة) منزوعة السلاح تحت سلطة الإدارة الأهلية لشيوخ وزعماء المنطقة دون وجود عناصر للجيش الشعبي أو لحكومة الجنوب.وتقول المؤشرات الحاضرة أن الاتفاق الحالي سيجد حظه من التنفيذ وإن اكتنفته بعض العثرات لأن الإرادة السياسية قد توفرت بالفعل مما أدى إلى كتم الأصوات النشاز التي كانت تزايد في الملعب ظناً منها أنها تناصر موقف الرئيس شخصياً. ومع ذلك نمسك الخشب حتي تمضي مركب السلام والتعاون بين البلدين إلى بر الأمان فنحن في بلد لا نعرف إلى أين تسير ولا كيف تسير!
• الجبهة السودانية الثورية:تحالف الحركات المسلحة في دارفور مع الحركة الشعبية قطاع الشمال ومع بعض فصائل المعارضة الشمالية لن يؤدي إلى حل معضلة الحكم في السودان، فالذي يحمل السلاح ويقاتل في أحراش دارفور وجنوب كردفان لن يكون له ذات الوزن كالذي يخطب بالمكرفون في دار حزب الأمة بأمدرمان ويذهب لينام في بيته ذلك المساء أو حتى في عنبر بسجن كوبر. لقد جربنا ذلك من داخل الجبهة الوطنية حين أرسلت مقاتليها لاحتلال الخرطوم في يوليو 1976، فقد قيل لنا قبل أن تصل الكتيبة المسلحة إلى هدفها: إن هؤلاء المجاهدين يريدون إقامة دولة مهدية ولذلك فإن معادلة تقسيم السلطة بالسوية بين أحزاب الجبهة الثلاثة كما ينص على ذلك ميثاق الجبهة أمر غير عملي وينبغي إعادة النظر في ذلك الاتفاق! وجربته أحزاب التجمع الديمقراطي الوطني حين انسحبت منهم الحركة الشعبية لتعقد اتفاقاً منفرداً مع حكومة الإنقاذ دون أن تدعوهم كمراقبين لحضور المفاوضات. والذي يصل إلى الحكم عن طريق السلاح سيصر على استمرار سيطرته بقوة ذلك السلاح، ودونكم تجربة الحركة الشعبية في جنوب السودان رغم كل دعاوي السودان الجديد! إن الطريق الوحيد لإقامة نظام ديمقراطي عادل هو العمل السلمي الجماهيري مهما كانت تضحياته ومهما طال زمنه. ومع ذلك فإن تحالف الحركات المسلحة في كل من دارفور وجنوب كردفان يشير إلى احتقان اجتماعي متفاقم ينخر في نسيج المجتمع ويهدده بانفجارات خطيرة غير محسوبة النتائج، ولا يمكن أن يعالج مثل هذا الاحتقان عن طريق تسوية جزئية تمنح وظائف سياسية لبعض قادة تلك الفصائل المحاربة وتقيم بعض المشاريع هنا وهناك، وقد شهدنا أنه كلما دخل فصيل في السلطة توالدت فصائل أخرى تحمل السلاح من جديد. إن المشكلة أكبر من ذلك بكثير وتحتاج إلى علاج جذري يعيد هيكلة الدولة وسلطاتها ومواردها وخدماتها بين كل الأقاليم وبين كل الناس.
• الحوار حول الدستور: لقد دعا رئيس الجمهورية في لقاء ببيت الضيافة في سبتمبر 2012 إلى تفاكر وحوار وطني جامع حول الدستور يشترك فيه كل الناس بما فيهم حملة السلاح ضد الحكومة، وكانت دعوة موفقة تتطلب إرساء قواعد السلام في مناطق النزاع وإطلاق الحريات العامة والتشاور مع القوى السياسية حول آليات الحوار وتكوين المفوضية القومية لكتابة الدستور. وكرر الرئيس ذات الدعوة في الاحتفال بعيد الاستقلال من مدينة الدمازين، وعلى ذات الخط سار الأستاذ علي عثمان في مقابلة طويلة مع قناة النيل الأزرق حتى ظننا أن الأمر محل اتفاق بين أركان الحكم وأن لا رجعة فيه. ولكن الذي حدث أن عددا من الندوات حول الدستور تنظمها بعض منظمات المجتمع المدني التي ظلت تعمل في التوعية بالدستور منذ أكثر من سنتين منعت من إقامة ندوات في مدني والخرطوم وبورتسودان والفاشر، وقفلت بعض مراكز الدراسات البحثية، وزادت الرقابة على الصحف وسنسرة المقالات ومصادرة بعض أعدادها، وطفحت دعوات التكفير والخيانة والعمالة لمن يحملون أراءً معارضة، وسيطرت الحكومة تماماً على آلية اللجنة السياسية للتنسيق والمتابعة حول الدستور مما دفع كل أحزاب المعارضة للامتناع عن الاستجابة.
• تنحي الرئيس: صرح السيد الرئيس لجريدة الشرق القطرية في مقابلة مطولة بأنه سوف لا يترشح هذه المرة لرئاسة الجمهورية ويكفيه أنه بقي في السلطة أكثر من عشرين سنة وأنها مدة طويلة في حكم بلد كالسودان. وأثار الخبر لغطاً وحراكاً على كافة المستويات السياسية والإعلامية بما في ذلك قواعد وأركان الحزب الحاكم. وبما أني من المؤمنين إيمان العجائز بأهمية التداول السلمي للسلطة التي أثبتت التجربة البشرية جدواه حتى في الأنظمة الشمولية (الصين نموذجاً)، فإني من المؤيدين لتجديد دماء القيادات في الحزب الحاكم بما في ذلك كافة طاقم القيادة العليا التي ظلت متنفذة طيلة فترة الإنقاذ بل وقبلها أيضاً. فقد أعطت هذه المجموعة ما عندها ولم يبق لديها ما تضيفه وأخطأت ما فيه الكفاية ولا يحق لها أن تزيد على ذلك. ورغم أن المحللين السياسيين يتشككون كثيرا في مقولة السياسيين بأنهم يرغبون في ترك السلطة طواعية، إلا أن لهجة الرئيس تبدو أكثر جدية هذه المرة وأنه يعني ما يقول ولكني أتوقع أن الفئة الملتفة حول الرئيس والمنتفعة من رئاسته لن تقبل بقرار التنحي، وستبدع من الحيل ومن الحجج ما يعجز عنه إبليس لإقناع الرئيس بالعدول عن قراره لأن السودان سيتفكك وأن المؤتمر الوطني سيتمزق وأن الإنقاذ ستهوي إلى قاع سحيق. وهذه حجج فارغة تقول بها كل البطانات الملتصقة بالحكام، لقد جاء كل الحكام العسكريون إلى السلطة دون تأهيل ودون تجربة سابقة وكذلك معظم رؤساء الأحزاب السودانية الحاكمة، بل يمكن أن يقال إن تجربتهم الأولى كانت أحسن من الثانية والثانية أحسن من الثالثة! والتاريخ يسجل للحكام دورهم بقدر ما أنجزوا أخلاقياً ومادياً وحضارياً في السلطة وليس بطول بقائهم في الحكم، فإن الخلفاء الراشدين أبوبكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز لم يبقوا في الحكم سوى بضع سنوات لم تزد عن ثلاث أو أربع ومع ذلك طبقت شهرتهم الآفاق إلى يوم الناس هذا ومحيت سيرة من بقي في الحكم أضعاف هذه المدة. ولكن على الرئيس أن يستثمر ما بقي من زمنه في السلطة ليصلح أحوال البلاد لأنها في حالة بائسة، وذلك يتطلب أن يعمل بجد ومثابرة مع فريق نظيف جديد حتى يعم السلام والعدل أنحاء البلاد ويزول الفساد والفقر والجهل ويقتلع بطانة السوء من جذورها حتى يعد الساحة لبداية جديدة نظيفة.
al-Tayib al-Abdin [aalabdin1940@yahoo.com]