رؤية حول تطور القضايا الفكرية والتنظمية فى القارة الإفريقية .. إعداد:عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج

 


 

 




هل هنالك إنبثاق لأيدلوجيا إفريقية تهدف لمعالجة قضايا القارة الإفريقية؟

إعداد:عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج

باحث وخبير إستراتيجى فى الشأن الإفريقى

asimfathi@inbox.com

23 April 2013

بسم الله الرحمن الرحيم

(رؤية حول تطور القضايا الفكرية والتنظمية فى القارة الإفريقية)

هل هنالك إنبثاق لأيدلوجيا إفريقية تهدف لمعالجة قضايا القارة الإفريقية؟


تمهيد:
تمثل الوحدة الإفريقية والتكامل الإفريقى أحد أهم الطموحات التى شغلت عقول مفكرى وقادة وشعوب القارة الإفريقية منذ فترة التحرر من الإحتلال الأوربى، والفترة التى نالت فيها معظم الدول الإفريقية إستقلالها من الإحتلال الأوربى فى بداية خمسينات القرن الماضى، ولازال هم تحقيق وحدة القارة الإفريقية يشكل أهم الأسبقيات لدى جميع القادة والمفكرين الأفارقة وشعوب القارة الأفريقية بأكملها، ولهذا أصبح تحقيق الوحدة والإندماج والتكامل القارى بين دول القارة الإفريقية أحد أهم الأهداف لدى القادة والمفكرين الأفارقة، وذلك لمجابهة التحديات الداخلية والخارجية التى تواجهالقارة الإفريقية التى بدأت تتشكل ملامحها فى أفق القارة الإفريقية،الشىء الذى يتطلب قدراً من التضامن الفعال بين جميع الدول الإفريقية لتتمكن من مجابهة هذه التحديات، ومن ثم تحقيق أمال وتطلعات الشعوب الإفريقية من رفاهية وإستقرار.

مقدمة:
أيدلوجيا كلمة تتكون من مقطعين، المقطع  الأول (Idea) ويعنى فكرة، والمقطع الثانى (Logo) ويعنى علم، وكلمة أيدلوجيا ظهرت فى القرن الثامن عشر حيث إستخدمها أول مرة العالم الفرنسى (دوتراس) ليعنى بها علم الأفكار، ومصطلح أيدلوجيا منذ ذلك الوقت أصبح يشير إلى نسق من الأفكار والمفاهيم والقيم والمعتقدات يسعى إلى تفسير الظواهر الإجتماعية من خلال إطار يعمل على إيجاد حلول مناسبة للموضعات الإجتماعية والسياسية التى تخص الأفراد والجماعات، وفى الفكر السياسى المعاصر الأيدلوجيا تهدف إلى التعبير عن مجموعة من الأفكار تحتوى على رؤى تعمل على إحداث تغيير إجتماعى، أى هى تعبر عن أنماط من التفاعلات السياسية التى تعمل على إبراز بعض المعايير فى الحياة السياسية تتضمن رؤى حول طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، والعلاقة بين الإقتصاد والسياسة والمجتمع.

أفريقيا والأيدلوجيات العابرة للحدود:
الأيدلوجيات العابرة للحدود أو عبر القومية (Transnational Ideologies)، هى تلك الأيدلوجيات التى تحمل توجهات فكرية بغرض إحداث تغيير إجتماعى، وهى أيدلوجيات تتشارك فيها أكثر من دولة واحدة نتيجة لتمدد رؤاها عبر الحدود، عبر إستخدام الرسائل الإعلامية والثقافية الموجهة، فمنذ الحقبة الإحتلالية الأوربية (European Colonization)، ومروراً بمرحلة إستقلال الدول الإفريقية، والحرب الباردة إلى الفترة التى نعيش فيها حالياً،والتى تسمى بعهد الأحادية القطبية، نجد أن القارة الإفريقية لا زالت تحت ضغط  وتأثير الأيدلوجيات العابرة للحدود، فهى تأثرت بالأيدلوجيا الرأسمالية الأوربية التى أفرزت الظاهرة الإستعمارية فى بدايات القرن السابع عشر، ثم تبنت بعض دولها الأيدلوجيا الإشتراكية الشيوعية، والبعض الآخر الأيدلوجيا الليبرالية الرأسمالية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فى عام 1945 م، وأثناء الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين الإتحاد السوفيتى السابق والولايات المتحدة الأمريكية التى تسيطر على معظم مجريات الأوضاع الدولية الراهنة فى عصر الأحادية القطبية، بينما تنامى تأثير النفوذ الصينى فى القارة الإفريقية حالياً حاملاً بين طياته دوافع إقتصادية تحركها الأيدلوجيا الإشتراكية الماوية التى يتبناها الحزب الشيوعى الصينى.
هذا الإستقطاب الأيدلوجى العابر للحدود جعل من إفريقيا أن تكون قارة تفتقد للإندماج القارى بين مكوناتها السياسية، ومن جانب آخر أسهم هذا الإستقطاب الأيدلوجى فى جعل الوحدات السياسية (الدول) التى تتكون منها القارة الإفريقية (الموروثة من الإحتلال الأوربى السابق)، تعانى من أزمات إندماج وطنى قادت لحروب وصراعات عنيفةفى داخلها، وأزمات وحروب حدودية بين الدول الإفريقية المتجاورة، مما أسهم فى تشكيل مناخ سياسى وإجتماعى وإقتصادى متدهور فى جميع أرجاء القارة الإفريقية، ونتيجة لتبنى الدول الإفريقية للأيدلوجيات العابرة للحدود أصبحت معظم الدول الإفريقية تتجه لحل قضاياها الداخلية والخارجية بالإعتماد على تصورات وأفكار ورؤى هذه الأيدلوجيات العابرة للحدود، هذا التبنى لرؤى وأفكار الأيدلوجيات العابرة للحدود من أجل معالجة القضايا الإجتماعية والسياسية والإقتصادية الإفريقية أثبت فشله فى إيجاد حلول لقضايا ومشاكل القارة الإفريقية، وجعل من دول القارة الإفريقية دول تابعة تدور فى فلك الفاعلين الدوليين وتتقاتل فيما بينها بالإنابة عنهم ومن أجل تثبيت مصالحهم، الشىء الذى فاقم من مشاكل القارة الإفريقية السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وجعل شعوب القارة الإفريقية تعانى من الفقر والجوع والحروب حتى الآن.

تبلور مشروع الوحدة الإفريقية:
لا زالت إفريقيا تعانى من إستقطاب أيدلوجى حاد نتيجة للتنافس الدولى على مواردها الوفيرة، وأصبحت الأيدلوجيات العابرة للحدود تحاول تشكيل القارة الإفريقية بطريقة تعمل على تعزيز مصالحها دون وضع إعتبار لمصالح شعوب الدول الإفريقية، وبالتالى تبلورت فكرة الوحدة الإفريقية منذ إستقلال معظم الدول الإفريقية من الإحتلال الأوربى على يد الجيل الأول من القادة الأفارقة (سنغور، نيكروما، عبدالناصر، نايريرى، جومو كينياتا، باتريس لوممبا)، فإنبثقت منظمة الوحدة الإفريقية إلى حيز الوجود فى 25 مايو من عام 1963 م من القرن الماضى، لتعبر عن إتجاه فكرى جديد يهدف لإيجاد حلوللقضايا القارة السياسية والإقتصادية والإجتماعية الإفريقية برؤى إفريقية، ومن أجل تعزيز الروابط الإجتماعية والثقافية والسياسية والإقتصادية والأمنية والعسكرية بين دول القارة الإفريقية من أجل الوصول لوحدة قارية تعظم مصالح دول القارة الإفريقية.
لقد عانى المشروع الإفريقى الطموح للوحدة الإفريقية من إشكاليات عدة منذ تبلوره فى العقد الخامس والسادس من القرن المنصرم، وتعرض مشروع الوحدة الإفريقية لمحاولات عديدة لوأده عبر إستهداف قادته ومفكريه من قبل أصحاب الأيدلوجيات العابرة للحدود وخاصة الأيدلوجيا الليبرالية الرأسمالية الغربية الراغبة فى الإستحواذ على موارد القارة الإفريقية الطبيعية والبشرية لخدمة مصالحها الإقتصادية، وبينما تتنافس هذه الأيدلوجيات العابرة للحدود (العالمية) والدول الصاعدة الأخرى على إيجاد موطىء قدم لها فى إفريقيا، لاتزال بعض الدول الإفريقية تعانى من أزمات إقتصادية وسياسية وإجتماعية نتيجة لعمليات الإستقطاب الحاد التى تتعرض لها من قبل تلك الأيدلوجيات العابرة للحدود، مما أدى إلى خلق بئية غير مستقرة فى جميع دول القارة الإفريقية، من هنا برزت من ثنايا القارة الإفريقية أصوات عالية تنادى بتحقيق الوحدة الإفريقية، عبر تكوين إتحاد قارى يعمل على تحقيق الصالح العام الإفريقى، ويجعل من إفريقيا كتلة واحدة لمجابهة التحديات التى أفرزتها التحولات فى مجرى العلاقات الدولية، بظهور الأحادية القطبية التى تعمل على نشر الأيدلوجيا الغربية، التى إعتبرها المفكر الأمريكى فرانسيس فوكاياما فى كتابه نهاية التاريخ وخاتم البشر أنها الأصلح دون الأيدلوجيات الأخرى ليسود نموذجها فى كل العالم.

إنبثاق الإتحاد الإفريقى (African Union):
نتيجة للتطور الهائل فى وسائل الإتصالات والمعلومات فى عصر العولمة، إرتفع وعى معظم شعوب القارة الإفريقية بالمخاطر التى تحيط بقارتهم، وبالتالى تعالت الأصوات التى تنادى بتكوين إتحاد قارى، ومن ثم تصاعد الإهتمام لدى مفكرى وقادة معظم الدول الإفريقية بمستقبل القارة الإفريقية فى ظل عالم يتجه نحو التعددية القطبية، وعليه إنبثق الإتحاد الإفريقى من بين ثنايا منظمة الوحدة الإفريقية قانونياً فى 26 من مايو من العام 2002 م، كنموذج إفريقى جديد له مؤسسات تحمل بين ثناياها أفكار تعمل على تحقيق كافة تطلعات الشعوب الإفريقية فى جميع المجالات، وكتنظيم قارى موحد يعمل على حماية سيادة وتوحيد جهود ومقدرات دول القارة الإفريقية فى ظل التحولات العميقة فى مجرى العلاقات الدولية، التى أفرزت واقعاً جديداً فى الحياة السياسية الدولية، والتى تتطلب صياغة أفكار ورؤى إفريقية تعمل على توحيد جهود الدول الإفريقية لمجابهة تلك التحديات التى بدأت تلوح فى أفق القارة الإفريقية الغنية بالموارد الطبيعية والبشرية، وبالتالى بدأت الكثير من الأفكار تنبثق وتتولد فى داخل القارة الإفريقية من أجل ضمان تحقيق وحدة قارية فعالة، تجعل من إفريقيا قطب له مكانته فى ظل عالم يتكتل ويتجه لأن يكون عالم متعدد الأقطاب.

هل هنالك تشَكُل وإنبِثاق لأيدُلوجيا إفرِيقيَة:
الأيدلوجيا فى عالمنا المعاصر تعنى التعبير عن مجموعة من الأفكار تحتوى على رؤى ومخططات تهدف إلى إحداث تغيرات فى المجال الإجتماعى والسياسى والإقتصادى، وعليه التفكير فى إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية، ومن ثم التفكير فى إنشاء الإتحاد الإفريقى وتكوين مؤسساته التى صممت لمعالجة القضايا الإفريقية فى جميع المجالات، يعبر بالفعل عن جهد فكرى إفريقى عميق عمل ولا زال يعمل من أجل تنزيل الأفكار الإفريقية البناءة لمعالجة قضايا القارة الإفريقية السياسية والإجتماعية والإقتصادية والأمنية والعسكرية على أرض الواقع، من أجل تحقيق الصالح الإفريقى العام المتمثل فى تحقيق الإستقرار والرفاهية لشعوب القارة الإفريقية، وبالتالى يمكننا القول أن إنبثاق وتولد وتبلور هذه الرؤى والأفكار النابعة من الفكر الإفريقى، أفرز إنتاج معرفى أفريقى جديد فى مجال العلوم الإنسانية، أدى إلى إنبثاق منهج معرفى أفريقى أصيل يهدف لتوطين (Indigenization) العلوم السياسية والإنسانية والإجتماعية بنظرة إفريقية، لوضع حلول لتلك الظواهر المعقدة التى تعانى منها القارة الإفريقية، عبر إيجاد تفسيرات لها تمكن من وضع الحلول المناسبة لهذه المشكلات التى تعانى منها القارة الإفريقية، هذا قاد بالفعل لتشكل نظام إفريقى قارى (الإتحاد الإفريقى)، له مؤسسات لا زالت تحت التشكل والتطور، منها المؤسسات السياسية التى تهدف لقيادة المجتمع الإفريقى وإيجاد حلول لقضايا الأمن والسلم الإفريقي، ومنها المؤسسات الإقتصادية المبنية على حقائق معرفية نابعة من دراسة النظم الإقتصادية الإفريقية لوضع حلول لأزمات الإقتصاد الأفريقى.
كل هذه الأفكار المتولدة والمنبثقة من شعوب ومفكرى وقيادات الدول الإفريقية من أجل المساهمة فى نهضة القارة الإفريقية، أدت لتكوين الإتحاد الإفريقى ومؤسساته السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية والعسكرية، وهى بلا شكك (الأفكار النابعة من الفكر السياسى الإفريقى) يمكن أن نطلق عليها تعبير (أيدلوجيا إفريقية) بحكم أنها رؤى وأفكار أفريقية منبثقة من مفكرين وقادة أفارقة لمعالجة مسائل القيادة وأسس السلطة والحكم، والعلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة ودول القارة فيما بينها، والعلاقة بين السياسة والإقتصاد والمجتمع داخل الإطار الإفريقى، من أجل الوصول للصالح العام الإفريقى وخدمة رفاهية الشعوب الإفريقية.
الخاتمة:
لقد صمم الجيل الأول من القادة الأفارقة المؤسسين للدولة الإفريقية والمفكرون الأفارقة فى حقبة ما بعد إستقلال إفريقيا من الإحتلال الأوربى الغربى، على تعزيز الوحدة والتضامن بين دول القارة الإفريقية، فنشأت منظمة  "اتحاد الدول الإفريقية" وهي منظمة صغيرة أسسها المناضل الإفريقى كوامي نكرومافي ستينات القرن الماضي، كما ظهرت العديد من المحاولات الأخرى لتوحيد القارة، حيث أسس القادة الأفارقة الأوائل  منظمة الوحدة الإفريقية فى الخامس والعشرون من مايو من العام 1963 م تأكيداً على أن الوحدة الإفريقية هى أحد أهم أولياتهم، وأن تحقيق الإندماج القارى هو الهدف الرئيسى لهم، ومن ثم تكونت "الجماعة الاقتصادية الإفريقية" فى العام  1981 م لتعميق الروابط الإقتصادية بين الدول الإفريقية، ونتيجة لهذا التطور الفكرى والتنظيمى فى القارة الإفريقية، إنبثق مؤخراً الإتحاد الإفريقى لينهض بالقارة الإفريقية من كبوتها، ويحقق أحلام شعوبها والرعيل الأول من قيادتها، كل تلك الأحلام والأمنيات والأفكار التى تشكلت منذ فجر إستقلال معظم الدول الإفريقية من الإحتلال الأوربى الغربى،والتصورات والأفكار التى تولدت وإنبثقت بإستمرار من القيم والأعراف والتقاليد لمجمل شعوب القارة الإفريقية، والدراسات الإفريقية النظرية والميدانية السابقة والحالية التى أطرت لمنهج معرفى إفريقى يؤمن مجموعة من الحلول المنطقية للمشكلات والظواهر الإفريقية المعقدة، هى بالفعل تعبر عن إنبثاق أيدلوجيا إفريقية (African Ideology)، تهدف لإعادة صياغة القارة الإفريقية سياسياً وإجتماعياً وإقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، لمجابهة التحديات التى تواجه القارة الإفريقية، وتجعل منها قطب فاعل  له نظام فكرى وتنظيمى خاص يتميز به،ليبرز كقطب قوى له مكانته العالميةفى ظل التغيرات العميقة التى يشهدها النظام الدولى، الذى يتوقع أن يتجه نحو التعددية القطبية.  
والله ولى التوفيق


عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج
باحث وخبير إستراتيجى فى الشأن الإفريقى
asimfathi@inbox.com
23 April 2013

 

آراء